-1-
للأقباط المصريين الحق كل الحق، في الاعتراض على المادة الثانية من الدستور المصري الحالي، التي تنص على quot;أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع المصريquot;. وهم في واقع الأمر، لا يعترضون على أن يكون الإسلام والتشريع الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع، لأن الإسلام بحد ذته، هو الحامي والحافظ لحقوق الأقباط ولكل المواطنين، كما هو الحامي للمسيحيين في الشرق العربي كله. وما العداء المفتعل بين الإسلام والأقباط والمسيحيين عموماً، إلا من فعل الفقهاء الدينيين السياسيين، وفقهاء السلاطين، الذين يُشكّلون الدين للناس، كما يُشكّل الخبّاز العجين، حسب طلب السوق، ورغبة الزبون. ولكن مخاوفهم من هذه المادة، أبعد من ذلك، وترتكز على عدة حقائق تاريخية، سابقة ولاحقة.

-2-
لقد أنصف الإسلام - كدين وقرآن - الأقباط، وعاشوا في ظله ردحاً من الدهر، كانت لهم فيها صعوبات، ولكنها صعوبات من فعل السياسة، ومن فعل الاقتصاد، وليست من فعل الدين. فربُّ المسلمين والأقباط واحد. وشمسهم واحدة، وقمرهم واحد، ووطنهم بالتالي واحد. وهم مواطنون وليسوا رعايا. ونساؤهم حرائر، ولسن سبايا. ووصف الذميّة الدونية لهم، كانت وصفاً سياسياً اقتصادياً مرحلياً مؤقتاً، ليس عابراً للتاريخ، وليس دينياً. صفتهم الدينية، أنهم quot;أهل كتابquot;، مثلهم مثل المسلمين واليهود. ولكن الفقهاء هم الذين يثيرون بين وقت وآخر مخاوف الأقباط من الإسلام، ويرعبونهم لأسباب سياسية واقتصادية وكيدية كذلك. وكان آخرها كتاب محمد عمارة، الذي نشرته وزارة الأوقاف المصرية. وعندما أكتُشف بأنه مُسيّس ومدسوس، ويسيء إلى الأقباط، تمَّ حرقه حرقاً، وإعدامه إعداماً، بعد تعنّت شديد من محمد عمارة، ومن الأوقاف المصرية ناشرة الكتاب. ولم يحرقه الأقباط، بل أحرقه الضمير الإسلامي، الذي استيقظ في لحظة صدق وصفاء مع الذات.
من هنا، يعترض الأقباط على المادة الثانية من الدستور المصري، ويطالبون بتعديلها، حتى لا تُستغل سياسياً مستقبلاً ، من قبل حكام ضعاف نفوس، وتُتخذ ذريعة للتنكيل بإخوان لهم، هم في هذا الوطن قبل زمن طويل، من بزوغ الهلال في الجزيرة العربية.

-3-
المادة الثانية من الدستور المصري، مادة سياسية، كيدية، مسمومة بامتياز. وهي كمسمار جُحا في الدستور المصري.

لماذا؟

1- لقد وُضعت هذه المادة في دستور 1971 ، في ظروف سياسية صعبة ودقيقة على الرئيس السادات، الذي التفت حوله في تلك الفترة، فلم يجد غير الإخوان المسلمين في الساحة السياسية، ومرشدهم آنذاك عمر التلمساني، لكي يتكيء عليهم، ويستعملهم رأس حربة، وعصا موسى، لمقاومة أعدائه من الناصرين، والماركسيين، والقوميين. ومن أجل ذلك، كان لقاء القناطر الخيرية الشهير، بين السادات والتلمساني، والذي سلّم خلاله التلمساني مفاتيح المساجد والأزهر للسادات، وسلّمه السادات مفاتيح مجلس الشعب، والصحافة، والجامعات، والنقابات، وكل مؤسسات الدولة، لكي يرعى فيها الإخوان أغنامهم كما يشاؤون وبسلام، ويصبحون عصا السادات، التي يهشُّ بها على غنم الناصريين، والماركسيين، ومن ولاهم.

2- عند اعلان المادة الثانية من الدستور المصري، التي تقول أن quot;دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريعquot;، والتي بعدها أعلن السادات، بأنه quot;الرئيس المسلم للدولة المسلمةquot;، كان السادات يغمز عمر التلمساني وينحني قليلاً، وقد ارتسمت على شفتي التلمساني ابتسامة الرضا والقبول، والتمعت عيناه، وأيقن التلمساني بعدها، أن السادات قد سمع وأطاع، ووعد وأوفى. في حين فهم أعداء السادات من السياسيين الرسالة، وأسرّوها مكيدة. واعتبر الأقباط هذه المادة، واعلان السادات بأنه quot;الرئيس المسلم للدولة المسلمةquot;، بمثابة عزلٍ شاملٍ لهم. فهو إذن ليس رئيسهم، وإنما هو رئيس المسلمين فقط. والدولة المصرية إذن، ليست دولتهم الوطنية، وإنما هي دولة المسلمين فقط، وعليهم أن يتصرفوا. وهكذا تمَّ انكار ومحو وجود وحقوق أكثر من عشرة ملايين قبطي في مصر، لغرض سياسي، وسمعاً وطاعةً للتلمساني، وثمناً لدعم السادات في محنته، و(زنقته) السياسية في ذلك الوقت. فالقادر من الأقباط على التصرف، تصرّف وهاجر، وكظم من هم بالداخل الغيظ، وانكفأوا على أنفسهم ألماً، وحزناً. فبعد أن كانوا (يا ولداه) أنصاراً، أصبحوا مهاجرين. وبعد أن كانوا أصحاب الدار، أضحوا وقوداً للنار، التي أشعلها السادات مع خصومه السياسيين، آنذاك.

3- عبارة quot;دين الدولة الإسلامquot;، موجودة في معظم الدساتير العربية. وهي مادة تحصيل حاصل. كأن تقول بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا مثلاً في دستورها: quot;دين الدولة المسيحيةquot;، فما هو الجديد في ذلك؟ وهل يمكن أن يكون الإسلام أو اليهودية أو البوذية، دين هذه الدول؟ وأين الدولة العربية التي ديانة معظم مواطنيها مسيحية أو يهودية أو بوذية؟ فهذه مادة تزويقية، كالخرزة الزرقاء، ليست أكثر ولا أقل. فلا نظام عربياً يحكم بشريعة الإسلام. ولو تمَّ الحكم بهذه الشريعة حقاً، وعقلانياً، وبالعدل والانصاف، لأصبح العالم العربي اليوم، بلاد السمن والعسل، وليس بلاد الفقر، والتخلف، والخوف. وهذه المادة في الدساتير العربية، لم يعترض عليها المسيحيون في المشرق العربي خاصة، لأنها - كما قلنا - تحصيل حاصل. كأن يقال لون البحر أزرق، أو أن الانسان له عينان، ولسان. وهي بالتالي، مادة وضعت لحماية الحكام وتبجيلهم، وعدم الاقتراب منهم، أو محاسبتهم في فسادهم. فالحاكم هو حامي الدستور. والدستور هو دستور الدولة التي دينها الإسلام. فالحاكم إذن، هو حامي الإسلام. فمن يجرؤ على مساءلته؟ ولكن مخاوف الأقباط من هذه المادة في مصر بالذات، تأتّتْ من كون هذه المادة، ستستعمل من قبل بعض الحكام في بعض الأحيان، استعمالاً سياسياً سيئاً، ليس ضد الأقباط مباشرة، ولكن رشوة ومكافأة لمن هم ضد حقوق المواطنة للأقباط، كالإخوان المسلمين وغيرهم، من الجماعات الإسلاموية، والتي يمكن أن يستعملها الحاكم المصري كعصا موسى في الهشّ السياسي والنشِّ الانتخابي، في بعض الأحيان.

4-من المعلوم، أن أي نص تشريعي غير إسلامي في القوانين والأنظمة الانسانية، هو بالضرورة من روح الإسلام، ولا يتعارض مع الإسلام، ما دام يعمل لصالح الإنسان. بل هو إلهي عام، ما دام يسعى لرقي الانسان، وتسهيل سُبل ومسالك الحياة له. قال الفقيه الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي في القرن الثامن الهجري: إذا قُدمت المصلحة على النص المقدس، أُخذ بالمصلحة. فقيل له، هذا افتيات على النص. فقال: لا نصَ يخالف المصلحة. إذاً، لماذا كل هذا التحدي لمشاعر الأقباط في مصر بمسمار جحا هذا، سيما وأن الأقباط، يُشكّلون أكثر من عشرة بالمائة من سكان مصر، ويحتلون مناصب رفيعة في العلم، والتربية، والتجارة، والصناعة، والثقافة، والإعلام، والسياسة، ويشاركون في بناء الوطن على هذا النحو؟ ولا سيما كذلك، أن الدساتير المصرية نفسها وفي مُجملها، ليست مأخوذة بشكل أساسي من الشريعة الإسلامية، بقدر ما هي مأخوذة من الدساتير الأوروبية العَلْمانية، فيما يتعلق بالقانون الدستوري، والقانون الجنائي، والقانون المدني، والقانون التجاري، وسواها. وأن واضعي هذه الدساتير، ليسوا فقهاء دين من الأزهر، بقدر ما هم قانونيون عَلمانيون، درس معظمهم في السوربون، وفي جامعات الغرب، وتشبّعوا بروح القوانين الفرنسية خاصة، والغربية العَلمانية عامة.

5- وأخيراً، لماذا يُصبح الأقباط دائماً، هم أكباش الفداء؟ فلكي يُثبّت السادات أركان حكمه، قدّمهم أكباش فداءٍ ، في دستور 1971 ، للإخوان المسلمين، والمتشددين المتعصبين الدينيين من رجال الأزهر. واليوم يُصرُّ الرئيس مبارك على التمسك بهذه المادة، وعدم تغييرها، لتكون الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع المصري فقط ndash; وهذا ما هو قائم الآن بالفعل، بعكس ما تقول المادة الثانية من الدستور الحالي- وذلك لتثبيت مسمار جُحا الساداتي، ورشوة رجال الأزهر والأوقاف، والشارع المصري الديني، وكذلك رشوة الإخوان المسلمين، للسكوت عما هو آتٍ من توريث، وتحويل مصر الى جمهورية وراثية، أسوة بسوريا الماضية، وليبيا القادمة وغيرها. فليس حباً في الإسلام والتشريع الإسلامي، يريد مبارك أن يُبقي مسمار جُحا هذا، وليس كرهاً بالأقباط من مواطنيه، وهم الذين ساندوه، وكانوا ظهراء له، بدعوة البابا شنودة الى انتخاب مبارك صراحة، في الانتخابات الرئاسية. بينما عادوه الإسلامويون، وسبّوه، وعملوا ضده، بل إن منهم من حاول اغتياله في أديس أبابا في 1995. فهل هذا جزاء سنمّار؟ وإلى متى سيبقى الأقباط أكباش فداء الحكام المصريين، لتثبيت كراسيهم، وتأمين حكمهم، ودحض أعدائهم؟
هذا السؤال موجه للأقباط بالدرجة الأولى، ليس تحريضاً، وليس استفزازاً، كما سيفسره بعضهم من أهل الغرض والهوى الرخيص، ولكنه سؤال الذات للذات، في ساعة حساب الذات.

السلام عليكم