الارهاب مرض من الأمراض، يصيب الأمة في طور من أطوارها. وهو كذلك كأي مرض يصيب الإنسان في طور من أطواره أيضاً. وكما أنه لا يوجد لمعظم الأمراض الصحية والنفسية والعصبية سبب واحد، وإنما هناك عدة أسباب لمثل هذه الأمراض، فكذلك الحال بالنسبة لمرض الارهاب. ففي مرحلة من المراحل، يمكن للارهاب أن ينتج عن هشاشة الثقافة، ويمكن أن يكون نتيجة لظروف اقتصادية، واجتماعية معينة. وهذا المقال سوف يكون في معظمه عن أن ارتفاع وتيرة الارهاب في العالم العربي هذه الأيام، يمكن أن تكون نتيجة حتمية لاخفاق تحقق العلمانية في هذا العالم.
العقل والحياة السياسية
في العالم العربي مثلاً، لا يوجد توافق بنيوي تام وكامل ndash; كما تم في الغرب - بين تطور العقل العربي من جانب، وبين تطور الحياة السياسية والاجتماعية بالإضافة إلى تطور الفكر النظري السياسي من جانب آخر. فميلاد المفاهيم السياسية العربية الحديثة لم يكن نتيجة لتحول واضح وملموس في الوجود والواقع السياسي العربي، حيث ان ظهور هذه المفاهيم لم يكن بمثابة إعلان القطيعة مع quot;عصر الانحطاطquot;، وإعلان الدخول في quot;العالم الجديدquot;، ولكن هذه المفاهيم جاءت نتيجة لتلاقح جزئي على مستوى النخبة الفكرية الأكاديمية، وليس على مستوى النخبة السياسية الحاكمة. وقد نشأ عن هذا أزمة ديمقراطية، بدأت من مسألة الشراكة الممكنة بين الحاكم والمحكوم في تقرير السياسة. وبدأت من فكر العامة ولم تنته في فكر الخاصة. ففي فكر العامة تغيب السياسة كمحظور، ويُحكى عنها كمُحرَّم مقبول شعبياً، كقولهم quot;السياسة كناسةquot;، و quot;السياسة وجع راسquot;، و quot;من دخل السياسة غرق في النجاسةquot;.. الخ.
مشكلتنا التخلف لا الفقر
في ظل موجة العقلانية، التي بدأت تجتاح العالم العربي في نهاية التسعينات، ونحن نودع القرن العشرين الذي انفجرت في نهايته ثورة المعلومات، وشهدت فيه البشرية ثورة التكنولوجيا، بدأ بعض المفكرين العرب يضعون أصابعهم على مواطن الداء الحقيقي الذي يُعيق تحقيق الوحدة العربية، وهو داء التخلف وليس الفقر.
فبعضنا أغنياء متخلفون، ومعظمنا فقراء متخلفون. إذن: فكلنا متخلفون، وليس كلنا فقراء. والفقر لا يعني دائماً التخلف، كما أن الغنى لا يعني دائماً التقدم. فبلد كالهند مثلاً تُعدُّ من الفقراء المتقدمين علمياً، وكذلك الصين. فهناك وحدة مع الفقر، ولكن لا وحدة مع التخلف. وما اتحدت أمريكا مثلاً، إلا بالنور الذي جاء به الأوروبيون من أوروبا، ذات التنوير والإصلاح الديني، والثورة الصناعية، والثورة العلمية، والاكتشافات المذهلة في القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر. وما الوحدة التي حققتها أوروبا في نهاية هذا القرن إلا نتيجة لهذا كله، ونتيجـة لعصر ثورة التكنولوجيا والمعلومات، ولم تأتِ من فراغ. أما نحن، فلا زلنا quot;مجتمعات متخلفة، وشعوبنا مُذلَّة مستعبدة، تحكمها أنظمة استبدادية فردية شمولية، وقوانا وحركاتنا السياسية متخلفة وقاصرة.
انغلاق المفكرين الإسلاميين
إن عدم تحقيق العَلْمانية العربية، في فترة النصف الثاني من القرن العشرين، وسقوط عصر النهضة في التيه الفكري، كان سببه أن المفكرين الإسلاميين الذين كانوا يتجادلون مع المفكرين العَلْمانيين، لم يكونوا على مستوى وعي وثقافة المفكرين العَلْمانيين، الذين درس معظمهم في جامعات غربية، ومكث بعضهم في الغرب يتعلم ويدرّس في جامعات الغرب، مما أمكنهم من الاطلاع أكثر فاكثر على فكر العَلْمانية الغربية، وأمكنهم من أن يتزودوا بزاد حديث ومتتابع من الثقافة الفكرية الغربية، الخاصة بمسألة العَلْمانية. في حين أن كثيراً من المفكرين الإسلاميين انغلقوا على أنفسهم، وحصروا جدلهم، طوال نصف قرن، في زاوية مقولة أن الإسلام دين ودولة، والتي أطلقها حسن البنا في النصف الأول من هذا القرن. وهذه حقيقة وليست تهمة للمفكرين الإسلاميين بحيث أن الشيخ راشد الغنوشي يثبتها، ويدلل على انغلاق الباحثين الإسلاميين على أنفسهم وتراثهم بقوله: quot; إنه لمحزن جداً، أن لا نعثر من بين قائمة طويلة لمراجع كتاب، أو بحث إسلامي، على مرجع واحد، من غير المدرسة التي ينتمي إليها الباحث. أما مكتبات الحزبيين الإسلاميين، فنادراً ما تتوفر فيها مصادر من خارج الحزب، أو المذهبquot;. (مقاربات في العَلْمانية والمجتمع المدني، ص190). فكان الحوار بين المثقفين العلمانيين والمثقفين الدينيين، وكأنه حوار طرشان. لا فريق يفهم ما يقوله الفريق الآخر.
الفهم الخاطيء
يقول الباحث اللبناني عادل ضاهر، عن طريقة فهم رجال الدين للعلمانية، بأنه فهم خاطيء quot; تُمليه اعتبارات أيديولوجية، أكثر مما تُمليه الرغبة في الوصول إلى فضِّ المكنون الجوهري لمفهوم العَلْمانية. والدافع الأساسي لهؤلاء المفكرين، هو الحفاظ على مقولة إن الإسلام دين ودولة، بحكم طبيعته. ولذلك كان ضرورياً لهم أن يفترضوا أمرين:
الأول، هو أن العَلْمانية في جوهرها رفض للدولة الدينية، في الغرب المسيحي.
والثاني، هو أن الإسلام، بما هو دين ودولة، لا يحمل في طياته مفهوم الدولة الدينية، ولا أي مكوِّن من مكوِّناتها، بل العكس تماماً هو الصحيحquot; (الأُسس الفلسفية للعَلْمانية، ص42،43).
والعَلْمانية ليست كلها فصل الدين عن الدولة، كما يفهمها كثير من الإسلاميين، بقدر ما هي إبعاد رجال الدين عن السياسة، وذلك من خلال نظام سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي متكامل. وحوار الطرشان هذا بين المفكرين الإسلاميين وبين المفكرين العَلْمانيين، كانت من أسبابه أن الحركات الإسلامية، تعتبر نفسها هي الإسلام، وأن هزيمتها الفكرية والسياسية، هي هزيمة للفكر الإسلامي وللدولة الإسلامية. وأن من يكره هذه الحركات فإنما يكره الإسلام ذاته، كما يقول راشد الغنوشي (مقاربات في العَلْمانية والمجتمع المدني، ص196)، وهو ما أدى بالتالي إلى تسفيهٍ لبعضهم بعضاً، وقطيعةٍ، وتوقفٍ، وطريقٍ مسدود إلى حد ما.
أسباب فشل العلمانية
إن من أسباب عدم تقدم العَلْمانية في العالم العربي، فهم اليمين الإسلامي لها فهماً خاطئاً، وتشويه هذا الفهم، وتعميم هذا التشويه بين صفوف المسلمين لكي يقاوموا العَلْمانية، ويبقى صدر المجلس السياسي محفوظاً لرجال المؤسسة الدينية. فهـم يقولون إن العَلْمانية Secularism معناها العربي والغربي quot;لادينيquot; كما قال أنور الجندي في كتابه (سقوط العلمانية، ص7). في حين أن معناها الحرفي quot;الزمنيquot;، حتى أن بعض المفكرين المعاصرين، ومنهم فؤاد زكريا، ترجموها بـ quot;الزمانيةquot;. وبعض رجال الدين يريدون من وراء هذا الفهم الخاطيء والمقصود للعلمانية، تأليب الشارع الإسلامي والعربي على العَلْمانية، التي إن طُبِّقت تماماً في العالم العربي، سلبت رجال المؤسسة الدينية كثيراً من امتيازاتهم الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والمالية.
كذلك فإن من أسباب فشل تحقيق العَلْمانية في مجتمع كالمجتمع العربي الآن، تأتّى من اغلاق أبواب الاجتهاد، حيث قال الإسلاميون quot;إن ما أغلقه السلف لا يفتحه الخلفquot;. وأن القرآن موجود وهو يحتوي على كل ما نريد ونبغى، ولا داعٍ لاستيراد أفكار غربية ليست من ثوبنا، وليست من عاداتنا وتقاليدنا. وسوف يستغرق تحقيق العَلْمانية زمناً طويلاً في مجتمع كالمجتمع العربي، يخيم عليه طقس أيديولوجي غائم، وتسيطر عليه الجماعات الإسلامية السياسية التي تستعمل الدين كمتراس تحتمي وراءه اتقاءً من كل ما يوجه إليها من نقد ومقاومة.
هل كل هذا يبرر الارهاب؟
لا يبدو فشل تحقيق العلمانية في العالم العربي حتى الآن مبرراً لرفع وتيرة الارهاب، في العالم العربي، على هذا النحو. ولكن لو قرأنا بعمق، في خطابات الجماعات الإسلاموية عموماً، لرأينا أن هذا العداء المُستحكم للحداثة وللغرب بشكل عام، ناجم عن هذا الغرب وهذه الحداثة، تريد بناء دولة عربية جديدة، لا يكون لرجال الدين دور سياسي فيها، مما يعني عزل هذه الجماعات، وليس الإسلام، عن الحكم. وبالتالي، فإن هذه الجماعات quot;تجاهدquot; الآن ليس من أجل الإسلام، ولكن من أجل عدم عزلها عن الحياة السياسية. وهو ما يبرر ndash; ربما- ارتفاع وتيرة الارهاب، أو quot;الجهادquot; كما هو في القاموس السياسي لهؤلاء.
السلام عليكم.
التعليقات