الدستور هو الوثيقة الأهم لتأسيس دولة وطنية حديثة، وقد يكون الدستور مكتوباً، وقد يكون عرفاً تجسده الأحكام القضائية، كما في حالة الدستور الإنجليزي، ولكي تمتلك أمة دستوراً فاعلاً يلزم أن تكون هناك حالة إجماع أو شبه إجماع على خطوطه العريضة وتوجهاته العامة، بما يُلزم حين نبغي إنشاء دستور جديد، أو تعديل دستور قائم بغية تحديث المجتمع وسائر علاقاته، أن تتوفر الأجواء الثقافية (على الأقل) الموائمة لما نسعى إليه، فالدستور رغم عظم شأنه لا يقوم بضبط حركة المجتمع في اتجاه يميل بزاوية قائمة أو منفرجة على الخط السائد بهذا المجتمع، فما سيحدث عندها هو أن تظل بنود الدستور مجرد حبر على ورق، كما هو حادث اليوم مع الدستور الحالي، خاصة البنود المتعلقة بالحريات الشخصية والمساواة والفصل بين السلطات.

من هذا المنطلق لا أتصور أن المحاولة لتعديل الدستور المصري في الأوضاع السائدة بمصر حالياً يمكن أن تأتي بأي نتائج إيجابية، بل لا أتصور من الأساس أن الدافع لهذه المحاولة هو تحقيق إصلاح سياسي حقيقي، وإنما هو محاولة لتجميل واقع قبيح، أو محاولة للتظاهر بالسير إلى الأمام، فيما نحن محلك سر، والوضع على الأرض ثقافياً وسياسياً في حالة للخلف در.

لا أظن أن مقاربتنا هذه تدخل في تصنيف الإصرار على التشاؤم، فما هو الجديد الممكن لطالب الحرية أن يأمله من تعديلات دستورية، ونحن حكومة وشعباً نسير في عكس نقاط الضوء المنبعثة من الدستور القائم، فأين نحن من المادة 40 من الدستور، التي تنص على: quot; المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.quot;؟!
هل هذا مطبق فعلاً على أرض الواقع، وهل ينعم به الأقباط والبهائيون مثلاً لا حصراً؟! وهل تجرِّم الدولة والمجتمع من يتجاسر على تحديد تواجد هؤلاء في كثير من المواقع التي يعتبرونها حساسة؟! ولماذا بعض المواقع حساسة ضد المساواة وضد حقوق الإنسان وضد احترام الدستور؟!
وأين احترام حرية الرأي والنشر والبحث العلمي، التي تنص عليها المواد47، 48، 49 من الدستور، حين يضطر الباحث د. نصر حامد أبو زيد إلى الهرب بزوجته إلى أوروبا، وينال وزير الثقافة ما نال داخل مجلس الشعب وخارجه، بسبب رأي شخصي أبداه، في ذات الوقت الذي تفتح فيه الصحف المسماة بالقومية، وإصدارات وزارة الأوقاف صفحاتها لمحمد عمارة ليبث فكر الكراهية واستباحة دماء الأقباط وغيرهم، ولا يقدم للمحاكمة مع من أتاحوا له انتهاك الدستور والوثيقة العالمية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها مصر، وصارت ملزمة لها كما الدستور؟! أم أن تهمة تهديد السلام الاجتماعي صار تطبيقها مقصوراً على استخدامها كأداة قمع لأصحاب الفكر الحر والمستنير، الذي يحاول إخراج المجتمع من غيبوبة الجهل والخرافة والتعصب؟!

في الواقع لا يهتم أحد في مصر بمسرحية التعديلات الدستورية هذه، اللهم إلا المكلفين بحكم مواقعهم في النظام بالترويج لها، ومن يستدرجون من قوى المعارضة للحديث عنها في وسائل الإعلام، فالجميع يدركون أن هناك إصراراً من النظام على إبقاء الوضع على ما هو عليه، وعلى إبقاء قاطرة السلطة متجهة نحو توريث دستوري، وأن التظاهر بالحركة هو تكريس للسكون والجمود، حتى الصراع الظاهري بين النظام وجماعة الإخوان المحظورة لا يبدو جدياً، فالإخوان في الحقيقة حريصون على تجميد الوضع على ما هو عليه بقدر حرص النظام ذاته، رغم ما تطلقه الجماعة من شعارات وصيحات، فهذا هو الوضع الأمثل بالنسبة لها، أن تظل في موقع المعارض والمزايد والداعي إلى الصلاح، فيما الطرف المقابل أسير الإمكانيات المادية المحدودة وأسير فساده، وهذا -بالإضافة إلى تمرس هؤلاء في العمل السري- يتيح لهم التوغل في القاعدة الجماهيرية، كذا في النقابات وجميع أجهزة الدولة، بما فيها الحزب الوطني ذاته، الذي رغم غيبة الإحصاءات إلا أن المرجح أن عدد المنتمين إلى فكر الإخوان والمتعاطفين معها بين صفوفه يفوق عدد الجماعة المحظورة ذاتها، أما الضربات الأمنية الدورية للجماعة فلا تعدو أن تكون جزءاً من السيناريو المعتاد، والذي يزيد الجماعة صلابة، ويزيد تشكيلاتها السرية إحكاماً ومقدرة، علاوة على أنها المنحة الثمينة من النظام إلى الجماعة، إذ تجعلها دائماً في موقع الشهيد المدافع عن الحق في وجه سلطان جائر، ليكون التعاطف الشعبي المتزايد معها متناسباً طردياً مع حجم الضربات وتكراريتها!!
ليس الواقع المعاش وحده هو ما يدفعنا لتلك النظرة للتعديلات الدستورية الجارية، بل تؤكدها أيضاً تلك التعديلات ذاتها، فما لم تتعرض له هو الأخطر والأكثر أهمية لأي محاولة جادة للتقدم باتجاه الحداثة والحرية:

النص في المادة الأولى على أن: quot;الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملةquot;، أليس هذا نصاً متحفياً لفكرة العروبة التي شبعت موتاً في فراش ناصر وصدام ومن سار على نهجهما؟! ألا يبدد هذا النص استقلالية مصر كوطن متفرد بذاته، وموجود قبل كل أوطان الدنيا، ولا يحتاج ولا يقبل نسبته إلى أي كيان آخر؟! ألا يخرج هذا النص عن حدود توصيف بنود الدستور الوطني، والتي تحدد علاقات أبناء الوطن الواحد، ليفرض على شعوب أخرى مصيراً من شأنها وحدها، قد تقره اليوم وتتراجع عنه غداً أو العكس؟! ألا تتناقض تلك الوحدة المزعومة مع الدستور ذاته، إذ تأتي باحتمال أن يحكم دولة الوحدة هذه شخص غير مصري، فيما ينص الدستور على أن يكون رئيس الجمهورية مصري ومن أبوين مصريين (مادة 75)، أم أننا ننتوي أن نفرض على العرب زعيماً مصرياً ملهماً؟!!

المادة الثانية تنص على: quot; الإسلام دين الدولة . . . . ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.quot;، إذا تغاضينا عن أن الدين هو إيمان يعتنقه الفرد الطبيعي، ويحاسبه الله عليه في الحياة الآخرة بالجنة أو النار، وأن الدولة كيان اعتباري مكون من مؤسسات تعمل وفق نظم ولوائح وقوانين، ولن تحاسب الدولة في الحياة الآخرة (وإن كان العاملون بها سيحاسبون)، فإنه من الواضح لكل من لا يخشى مواجهة الحقيقة، ولا ينتوي التلاعب بالمشاعر الدينية لشعب مؤمن منذ فجر التاريخ، أن هذه المادة متناقضة مع روح الدستور ومع نصه، الذي يقول بالمساواة التامة بين جميع المواطنين (مادة 40)، ومتناقضة أيضاً مع الاتجاه في التعديلات إلى إقرار مدنية الدولة ومبدأ المواطنة، علاوة على انعدام جدواها الموضوعي، بالنظر إلى أن التشريعات موكولة لمجلس منتخب، من الطبيعي أن يكون أغلبه (إن لم يكن كله) من المسلمين، وبالتالي لن يعوقهم عائق عن سن ما يشاءون من تشريعات تتوافق مع إيمانهم ومثلهم العليا، بشرط دستوريتها ومراعاتها لحقوق الأقليات وحقوق الإنسان، وبشرط أن يأتي تطبيق هذه التشريعات بنتائج إيجابية باتجاه تقدم ورفاهية الشعب وحسن تدبير أموره وتنظيم علاقاته، سواء الداخلية أو الخارجية في عصر العولمة، وهو العصر الذي نحن غير مهيئين لدخوله بإيجابية حتى الآن، لكن لهذه المادة تأثيرها السلبي على الصورة العامة عموماً، وبقاؤها نافذة يتسلل منها دعاة العنصرية، ودعاة الانقلاب بالنظام إلى دولة دينية طالبانية خومينية، وكان يمكن لو حسنت النيات، وامتلكنا ما يكفي من الشجاعة، أن نعدل تلك المادة لتأخذ صيغة مثل: quot;مصر دولة مدنية، والدين الإسلامي دين أغلبية مواطنيها، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية، وتقوم الدولة على رعاية المقاصد العليا للأديان، ورعاية القيم الإنسانية النبيلة.quot;.

المادة 19 تنص على: quot;التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام.quot;، هذه مادة عجيبة، فالدستور لا يحدد ويعدد مقررات التعليم، والدين والإيمان متجذر في قلوب المصريين قبل أن يعرفوا الدستور والمدارس، ثم مَن مِن المصريين يعتمد في تعليم الدين لأبنائه على التعليم المدرسي، وهل كان للمدرسة الفضل في تعليم الدين لمن وضع هذه المادة في الدستور، ومن وضع الدين ضمن مقررات التعليم؟، لو كان الأمر من قبيل الحرص على الدين فعلاً، لكان يكفي ما جاء في المادة 9 التي تنص على: quot; الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية. وتحرص الدولة على الحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة المصرية وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد، مع تأكيد هذا الطابع وتنميته في العلاقات داخل المجتمع المصري.quot;، لهذا نرى أن تدريس الدين في المدارس والنص على هذا في الدستور، ليس من قبيل التدين الحق، وإنما من قبيل المسايرة والمزايدة على الاتجاهات السياسية، التي تستخدم الدين أداة للوصول إلى السلطة، ولإغلاق جميع النوافذ عدا رؤيتها الخاصة والمتعصبة للدين، والدين منها براء!!

المادة 87 تنص على أن يكون نصف أعضاء مجلس الشعب من العمال والفلاحين، نعرف جميعاً أن الغرض من هذه المادة ليس الحرص على العمال والفلاحين، فالعامل والفلاح إذا أراد مجرد كتابة عريضة لأي جهة حكومية يذهب إلى ابنه أو جاره المتعلم، ليس فقط لمجرد إجادة الكتابة، ولكن بالأساس لأن المتعلم هو الذي سيترجم وينظم له أفكاره التي يريد تسجيلها، الغرض الحقيقي نعرفه جميعاً، ونستحي أن نكتبه صراحة احتراماً للجميع، خاصة وأن كثيراً من الحاصلين على أعلى الشهادات العلمية حالياً يعانون أمية ثقافية وسياسية، وكان من الطبيعي ونحن في الألفية الثالثة أن يلغى هذا النص، ما لم ندرج نصاً معاكساً، يشترط في عضو مجلس الشعب الحصول على مؤهل عال على الأقل!
ما عرضناه جزء من كل، كان ينبغي أن تتناوله التعديلات الدستورية من وجهة نظرنا، لو كان هنالك نية حقيقية خالصة للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، لكن لا النية الخالصة متوفرة، ولا الظروف المصرية مهيأة لأي تحرك إيجابي حقيقي.

[email protected]