قبل أيام عرضت قناة quot;كافنسquot; البلجيكية الفلامانية حوارا مع مرشد الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، أجراه أحد مندوبيها في القاهرة، ربما بمناسبة إعلان الإخوان عن نيتهم إنشاء حزب سياسي، وربما أيضا بمناسبة إعلان القيادي الإخواني عصام العريان ما قيل أنه تمهيد لاعتراف أكبر الحركات الإسلامية وأعرقها بإسرائيل، في سعي ربما، إلى رفع quot;الفيتوquot; الغربي، الأوربي والأمريكي، على وصول الإسلاميين للحكم في العالم العربي. أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
الأمر الذي استوقفني في الحوار البلجيكي مع مرشد الإخوان، جوابه على سؤال تطرق إلى نموذج الدولة الإسلامية التي يحلم الإخوان بتشييدها في مصر أولا، وباقي العالم العربي والإسلامي لاحقا، أما ما تعلق بالحزب الذي يتطلع الإخوان إلى تأسيسه، أو تلميحهم إلى نظرة مختلفة لقضية العلاقات العربية الإسرائيلية، فعلى الرغم مما قد يظهر من جدة فيه، فإنه في نظري لا يعدو أن يكون حديثا مجترا، مثله كمثل كرة القدم ذات البقع البيضاء والسوداء، يقوم اللاعبون كل مرة بتدوريها، فتبدو للناظر إليها من جنب كأنها مختلفة، لكنها في حقيقة الأمر لم تتبدل أو تتغير.
لقد نفى السيد مهدي عاكف بشدة أن يكون نموذج الدولة الإخوانية المنشودة، مشابه لما هو قائم في المملكة العربية السعودية أو إيران أو السودان أو باكستان، وهو بالتالي نموذج مفقود في الجغرافيا، وأحسب أنه مفقود في التاريخ أيضا، فالدولة الإسلامية التي يعترف بها الإخوان وغيرهم من الحركات الإسلامية، كمرجعية وملهم، ليست عند التمحيص والتدقيق التاريخي، غير وهم طوره الخيال المأزوم بالاستبداد أو التطرف عبر القرون، و نزهه بالتدريج عن تجارب البشر السياسية بغير دليل غير العاطفة الدينية أو الخديعة السياسية.
إن التأمل العملي في دولة الرسول (ص)، إن وجدت هذه الدولة من الأصل، أو في دولة الخلفاء الراشدين (رض)، فسيجد أن الغالب على زمنها القصير حروب ونزاعات وأزمات ومجاعات وخلافات حادة بلغت في الغالب حد التصفية الجسدية، حيث مات أربعة من الخلفاء الراشدين (مضاف إليهم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز) غيلة، ولم ينعم المسلمون الأوائل طيلة ما يقارب الأربعة عقود الأولى من الإسلام المبكر، إلا بفترات نادرة متقطعة من الاستقرار والرفاهية.
لقد أمضى الرسول (ص) تسع سنين من زمن دولته في حروب متواصلة، استهلت ببدر في السنة الثانية للهجرة وانتهت بحنين في السنة التاسعة، أي قبل أشهر من إلتحاقه بالرفيق الأعلى، أما أبو بكر (رض) فقد خاض حروب الردة بعد ستة أشهر من حدث السقيفة، وظلت جيوشه تحارب إلى أن توفي بعد سنتين ونيف من ولايته، ليرث الحرب ويتوسع في رقعتها خليفته أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب (رض)، الذي اغتيل وهو يصلي بالناس في المسجد على يد مناوئ فارسي، وجيوشه متوزعة في الأمصار، في العراق وسوريا ومصر وايران، وقد ذكر الإخباريون أن المجاعة ضربت بلاده مرتين أثناء حكمه الممتد على عشر سنين ونيف.
أما الخليفة عثمان بن عفان ذو النورين (رض)، فقد قسم المؤرخون عمر دولته البالغ أيضا عقدا وبضع أشهر أو يزيد، إلى نصفين، أولهما حروب خارجية واصل فيها فتوحات الفاروق عمر (رض) على تخوم الروم والفرس والرومان في شمال أفريقيا، وثانيهما فتن داخلية بدأت باضطهاد ونفي بعض صحابة الرسول(ص) ممن بدأ ينبه إلى الانحرافات السياسية والمالية التي ظهرت على حكم الخليفة الثالث، وانتهت بثورة أهل الأمصار، الذين تنادوا على المدينة مطالبين بالعدالة الاجتماعية وتقسيم أكثر إنصافا لموارد الدولة الإسلامية وثرواتها، حيث أبانت السيرة على توسع مهول وفجوة كبيرة في الحالة المادية بين قلة من أغنياء المسلمين، من بينهم صحابة ماتوا وفي بيوتهم ما يكسر من الذهب بالفؤوس، وغالبية من المؤمنين المعدمين.
و قد مات الخليفة عثمان (رض) ميتة درامية شنيعة، مرغت لحيته في التراب، وضرب عنقه الشريف وهو يتلو آيات من المصحف الشريف، وستكون خلافة الإمام علي كرم الله وجهه من بعده، عبارة عن خمس سنين مريرة من الاقتتال الداخلي الشنيع، فانقسم المسلمون أولا إلى فريقين، ثم إلى ثلاث فرق، ثم إلى ما لا نهاية من الفرق والملل والنحل والأحزاب والجماعات، وأضحى التاريخ الإسلامي كما وصف الشاعر العربي الكبير نزار قباني، فيما معناه quot; كل الأرض كربلاء، وكل يوم عاشوراءquot;.
ولقد وردت لحظة مضيئة خلال التاريخ الأموي جسدها عمر بن عبد العزيز (رض)، لكنها كما قيل لحظة لا غير، سنتان فقط من تاريخ أموي امتد حكمه ما يقارب القرن من الزمان. ولا يدرى ما إذا كان عدل عمر بن عبد العزيز، قد بلغ الأمصار المتناهية التي شملها السلطان الأموي، المليء بالجرائم وحملات الإبادة الجماعية ضد المسلمين وغير المسلمين، أم أن قرارات العدل العمري ذائعة الصيت، لم تتجاوز حدود العاصمة دمشق، أين اغتيل الرجل أيضا بعد عامين فقط من توليه السلطة، في إطار عملية انتقال مزاجي غير محسوبة، أراد من خلالها خليفة دموي سابق أن يكفر عن خطاياه بتولية رجلا ورعا، غير أنه لم يكن للورع والتقى حظ أبدا في تاريخ غلبت عليه الدسائس والمؤامرات والسياسة بمعناها الغير أخلاقي، المتدثر دائما بلباس الدين، حيث لم يعدم حاكم مسلم مهما كانت طبيعة حكمه، كما يقول الدكتور الطاهر لبيب عالم الإجتماع التونسي، في أن يجد لسيرته المعوجة سند من قرءان أو سنة، من خلال النصوص القابلة لكافة أنواع التأويل.
بقيت الإشارة إلى أمر مهم وحاسم في كل تناول لموضوع الدولة الإسلامية خلال التاريخ الإسلامي، ففي ظل تواضع المرجعية على مستوى الممارسة السياسية بالنظر إلى ندرة الرصيد زمنا وفعلا، فإن الشعارات الرائعة التي رفعت خلال فترة الدولة النبوية أو دولة الخلفاء الراشدين، وخصوصا تلك المتعلقة بقيم العدل والحرية، لم تكن في واقع الأمر نشازا في التاريخ الإنساني، فقد رفعت من قبل في حضارات أخرى سابقة.
وما يمكن قبوله هو أن الفترة الإسلامية في تاريخ البشر قد ساهمت في تدعيم ونشر هذه الشعارات، وكانت أكثر تقدما في تطبيقها في اللحظة التي ظهر فيها الإسلام، قياسا بما كان سائدا، لكنها لن تكون متقدمة قياسا بما ستعرفه البشرية لاحقا، بل إن تاريخ العدل والحرية والمساواة، سيشهد قفزات نوعية فيما بعد، وسيواصل حتما التقدم مع تحول العالم بالتدريج إلى وحدة واحدة.
وخلاصة القول أن الإسلام قد يكون أدخل قيمة مضافة على التاريخ السياسي للبشر، لكن هذه القيمة المضافة ستصبح جزءا من الماضي لا أكثر، وأن قيما مضافة متتالية ستضحي أكثر أهمية وجدارة بالانتباه إليها والالتقاط منها، للمسلمين وغير المسلمين.
بالعودة إلى نموذج الدولة الإخوانية المنشودة، فإن اهتزاز السند التاريخي يظل هينا أمام الورطة التي يخلقها السند الجغرافي، فحكم الإسلاميين في السودان وإيران، جعل قادة الإخوان في حرج كبير، أقرب إلى التبرؤ من الحالة، من تبنيها أو الدفاع عنها، فقد جاءت الحركات الإسلامية إلى شعوبهم بالحروب والحصارات والمجاعات، حتى أن إيمان غالبية السودانيين والإيرانيين لم يضعف ويتزعزع طيلة قرون، مثلما بلغ على أيام حكم المشايخ والملالي بإسم الدين.
لم تكن الدولة في الإسلام إلا حدثا عارضا، أوجبته حالة الفراغ السياسي التي كان يعيشها عرب شبه الجزيرة، وقبلها اضطهاد القرشيين للنبي (ص) خلال الفترة المكية، وهي حالة تاريخانية سرت عليها قواعد التاريخ البشري في النشوء والتطور والانحدار، أما الثابت الذي لا يناسب أطروحات الإخوان فهو أن الإسلام القابل للاستمرار والتواصل والصلاحية لكل زمان ومكان، هو الإسلام الدين والرسالة الروحية والإجابة الكونية على أسئلة الإنسان والكون والحيوان، وهي أسئلة تتجاوز الطبيعة وقدرة العلم على التفسير، وهو أيضا كلمة التوحيد وطريق إلى الله من طرق كثيرة موجودة بعدد خلقه كما يقول المتصوفة، أما السياسة والدولة فلم تكن إلا اختراعا إنسانيا خالصا، لم تكن موضوعا للحيرة والتساؤل، بقدر ما كانت موضوعا للصراع والتحايل.
إنني أعبد الله على طريقة محمد بن عبد الله (ص)، و لا يضير إيماني الروحي إيماني الزمني بأن السياسة شأن بشري، وأن كلمة الله كامنة في تشجيع الناس على اكتشاف عظمة عشقه ومحبته، وهي كلمة تعلو فوق صراعات البشر، وتسمو فوق نزعات الدم والشر، كما تحث على التواضع والنأي بالنفس عن كل رغبة في التحدث بإسم الذات الإلهية، و زعم تمثيلها على الأرض وتمثل إرادتها واستغلال كلمتها في حسم المعارك مع المناوئين، و حصد أصوات الناخبين، وتوزيع الأوهام على اليائسين والمساكين والتائهين..
دولة الإخوان بلا نموذج في التاريخ والجغرافيا، لأنها دولة أسطورة، كما أساطير كثيرة طالما غيبت العقل واستغلت النقل و تسببت في خراب الحرث والنسل..ما عدد الجرائم التي ما تزال سترتكب بإسمك اللهم يا ترى؟ على أيد جماعات وأحزاب وحكومات ودول، يزعم قادتها أنهم يصعدون إلى السماء وينزلون بأوامرك التفصيلية المباشرة، تنزه إسمك في الأرض والسماوات العلى.
* كاتب تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات