من مفكرة سفير عربي في اليابان
يعرف علم الاقتصاد بعلم اجتماعي متخصص في الإنتاج والتوزيع واستهلاك البضائع والخدمات، ويتعامل مع نظرية إدارة الاقتصاد والنظام الاقتصادي. وقد بداء تاريخ هذا العلم قبل حوالي عشرة آلاف سنة، باكتشاف الإنسان للزراعة فتغذى بمنتجاتها، وذخر ما أستطاع منها كرأسمال للمتاجرة، كما تبلورت في القرن السابع عشر ثورة صناعية، أخذت في تطورها لتتحول لثورة تكنولوجية في القرن العشرين. أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
ومع بداء الألفية الثالثة برزت ثورة معلوماتية ترافقت بذوبان الهرم الاجتماعي للاقتصاد التقليدي. فتطورت طرق الإنتاج، واعتمدت على التعاون المجتمعي، وبدأت تختفي هرمية السيطرة المركزية. واستخدمت الشعوب الصفحات الالكترونية لتبادل الإخبار والتحاور وتدارس الاختراعات والإبداعات وشراء البضائع. وتطورت بيئة العمل، فتبادل العمال والمختصون مناقشة المشاريع والاختراعات في الفروع المختلفة لمؤسساتهم عبر الانترنت، وتحول الزبون من مشتري سلبي إلى عضو مشارك في تقيم وتطوير، بل واكتشاف المنتجات الجديدة. كما تطور مفهوم الشركات الذكية المكونة من مجموعة مؤسسات تعمل بالمشاركة مع الزبون لتطوير منتجات جديدة من خلال البحث والتقييم والتصميم والإنتاج المشترك. وانتقلت الشركات من مرحلة المنافسة الشديدة والسرية الفائقة، والصرف الكبير على مكاتب المحاماة لحماية براءة الاختراع، إلى مرحلة الشراكة التعاونية والإبداع والعمل المشترك للإنتاج وتقديم الخدمات.
وتطورت صفحات الانترنت المعلوماتية المجانية، ومن أهمها الوكيبيديا الالكترونية، والتي يشارك الآلاف من شعوب العالم في نشرها وتحريرها وتنقيحها. وأخترع بعض المبدعين برامج الكترونية مجانية كبرنامج التشغيل الآلي لينوكس، والذي تم تطويره على صفحات الانترنت من خلال الآلف المتخصصين. ووفرت الصفحة الالكترونية لشركة أي بيي الفرصة للمتاجرة المباشرة بين البائع والمشتري وبدون وسطاء، كما طورت اليو تيوب قناة إنترنت تلفزيونية مجانية يشارك في تأليفها وتنقيحها واختيار بنودها المشاهدين. ومن المؤمل أن يستمر انتشار الاقتصاد الالكتروني ويترافق بانخفاض أسعار خدمات الانترنت والكومبيوتر، بتوفر برامج التشغيل المجانية، كما سينتهي دور وسطاء السوق وتختفي سيطرتهم وأرباحهم الكبيرة.
وقد صدر مؤخرا كتاب بعنوان ويكي نومكس، للبروفيسور الكندي دون تابكوست وزميله أنتوني ويليامز، ويناقش هذا الكتاب كيف ستغير تكنولوجية الانترنت اقتصاد الألفية الثالثة. والويكي نومكس هو تعبير مشتق من كلمتين، ويكي، وتعني السريع، وتعبر عن الصفحات الالكترونية التي يستطيع القارئ أن يشارك في تأليفها وتنقيحها، ونومكس وهي مشتقة من الكلمة الانكليزية ايكونومكس وتعني الاقتصاد. وتعبر هذه الكلمة عن اقتصاد العولمة الجديد التي تستخدم فيه المعاضدة التعاونية الجماهيرية بين الشركات العالمية والجماهير الغفيرة من الأفراد الموجودين في مختلف أرجاء الكرة الأرضية، ومن خلال الصفحات الالكترونية، لتطوير البحوث والإنتاج بهذه الشركات.
وتعتمد فلسفة اقتصاد الويكي نومكس على أربعة أساسيات، وهي الانفتاح والتناظر والمشاركة والعمل بتوجه عالمي، وبذلك تتحول عمليات التطوير والبحوث والإنتاجية للشركات من مرحلتها التقليدية في السرية والمنافسة العدائية وبنظرة المصالح الضيقة والقصيرة الأمد، إلى مرحلة الانفتاح وشفافية العمل المشترك مع الجماهير الغفيرة في أنحاء العالم المختلفة ومن خلال الانترنت. ويعتبر مؤلفي الكتاب المشاركة الجماهيرية في البيئة التجارية كنوع من تحويل جزء من عملية الإنتاج الصناعية للخارج وذلك بتحويل طلب حل معضلة تكنولوجية صناعية للمشاركة الجماهيرية على صفحات الانترنت. وتترافق هذه الخدمات بتعويضات مالية، والتي عادة لا يطالب بها المشاركين، وتقدمها الشركات لمساعدة البعض وبالأخص المتقاعدين المتخصصين والذين لا يرغبون بالارتباط الوظيفي ولكن يريدون الخدمة المجتمعية من خلال المشاركة بخبراتهم.
وقد بدأت فكرة هذا الاقتصاد الجديد مع خبرة شركة جولدكورب الكندية المتخصصة في التنقيب عن الذهب، والتي كانت تعاني في سنة 1993 من صعوبات مالية، لفشل محاولاتها المتكررة لاكتشاف مناجم جديدة للذهب. فأستلم رئاسة الشركة شاب طموح يدعى مكوين، وحدد عشرة مليون دولار للبحث عن مناجم جديدة للذهب، ولكن باءت جميع المحاولات بالفشل، وقربت الشركة من إعلان إفلاسها. ومن محاسن الصدف أن يتعرف مكوين على لينوس تورفولد خلال مؤتمر بجامعة هارفارد، وهو يقدم محاضرة يعرض فيها برنامجه للتشغيل الالكتروني، لينوكس. وقد ناقش خبرته في عرض البرنامج على صفحات الانترنت، ليراجعه المختصين ويطوروه مع فريقه. وقد كانت هذه الفكرة الهام لمكوين، فرجع لشركته، وقام بعرض جميع المعلومات السرية الجيولوجية عن مناجم الذهب التي كانت تملكه شركته على صفحات الانترنت، وطلب من القراء مساعدته في تحديد المواقع التي يجب حفرها، وعرض نصف مليون دولار لمن يدله على مناجم الذهب. فرد القراء بمعلومات هائلة ساعدت شركته على اكتشاف مائة وعشرة مناجم غنية بكميات هائلة من الذهب، وارتفعت قيمة الشركة من مائة مليون دولار إلى تسعة مليار من الدولارات. وقدا بدأت شركات الأدوية الاستفادة من هذه التجربة لتطوير أدوية جديدة بالتعاون مع قراء الانترنت المتخصصين. فمن المعروف بأن شركات الأدوية تحتاج لحوالي مليار دولار تكلفة للأبحاث لاكتشاف دواء جديد. وقد أدى تعاون الانترنت ألمعلوماتي لاكتشاف أدوية جديدة وبتكلفة ومدة أقل، مع التخلص من مشاكل براءة الاختراع والتكاليف الباهظة لشركات المحاماة للدفاع عنها.
وقد حاولت شركة البيوينغ لصناعة الطائرات التأقلم مع الثورة المعلوماتية الجديدة. فقد أنشأت نظام جديد للتعاون والملازمة في إنتاج طائرتها الجديدة مع التعاون مع عدة شركات وفروعها المتعددة. فناقشت فكرة الطائرة الجديدة مع شركائها، ثم عرضت التصميمات المقترحة على صفحات الإنترنت واستفادت من ردود المختصين. ثم جزئت مسؤولية إنتاج الطائرة على مجموعة كبيرة من الشركات العالمية. فقسمت صناعة هيكل الطائرة لأجزاء ووزعت مسؤولية صناعتها على شركات عدة فرنسية وألمانية وأمريكية ويابانية وأسيوية. كما وزعت مسؤولية إنتاج المحركات النفاثة على شركات مختلفة كشركة رولز رويز البريطانية وشركة ميتسوبيشي اليابانية.
وقد علق اوري برافمن ورود بيكستورم في كتابهم السمكة النجمة والعنكبوت، بأن شركات المستقبل ستكون شبيهة بالسمكة النجمة والتي لا تملك رأسا ولا عقلا، بل هي مجموعة من الخلايا تعمل مع بعضها البعض بتناسق جميل. وقد استفادت الصين من هذه الثورة الجديدة، فحولت صناعة الدراجات إلى مجموعة من الشركات المتلازمة والموزعة على مختلف أرجاء الصين والتي تعمل معا لإنتاج ملايين الدراجات سنويا ومن خلال التعاون وعمل التصاميم على شبكات الانترنت المختلفة. وقد تعلمت كثير من الشركات الغربية من هذه التجربة الصينية، فمثلا شركة بركتور اند غامبل حينما احتاجت لمنتج لإزالة بقع النبيذ من الملابس، نزلت طلباتها على صفحات انوسنتف الالكترونية، وقام المختصون من جميع إنحاء العالم بالمشاركة لاكتشاف المنتج اللازم، واشترته الشركة وبرخص التراب. فوفرت بذلك الشركة تكلفة إنشاء مراكز أبحاث وتوظيف مئات الباحثين وصرف المبالغ الطائلة لشراء الأجهزة وصيانتها.
ومن الجدير بالذكر بأن الانترنت سيؤثر أيضا على طبيعة العمل مستقبلا. فستقل مؤسسات التوظيف والحاجة لتوفير وتجهيز المكاتب، كما ستقل الحاجة للمواصلات للوصول لمواقع العمل. فستتحول الوظائف إلى وحدة عمل تشترى من خلال صفحات الإنترنت، ويقوموا بها العاملات عبر الانترنت وهم في بيوتهم وبين أطفالهم. كما لو أحتاج مصنع لإنتاج جهاز جديد لتقديم خدمة معينة، سيعرض المصنع طلباته على شبكات الانترنت وستصله ردود من كبار المتخصصين تعرض تصميمات لصناعة هذا الجهاز وبتكلفة بسيطة جدا.
والسؤال لعزيزي القارئ هل حان الوقت ليستوعب عالمنا العربي تطورات اٌقتصاد ألألفية الثالثة؟ وهل سنوجهه التعليم لتجهيز القوى العاملة المستقبلية اللازمة للتعامل مع تحديات هذا الاقتصاد الجديد؟ وهل ستصدر برلماناتنا العربية تشريعات اقتصادية مستقبلية تسهل المشاركة بهذا الاقتصاد بسلاسة فائقة؟
التعليقات