أيها الغِرُّ قد خُصصت بعقل/ فاسألنه فكل عقل نبي (أبو العلاء المعري)

1
حللت في الحلقة الأولي ضرورة قيام العقلانية على كونية ووحدة العقل الضامنة للتقدم العلمي والتكنولوجي والابستيمولوجي والسياسي والأخلاقي أيضاً. عكساً لأطروحة د. الجابري عن تعددية العقول بتعددية الثقافات التي أقام عليها عمارة مشروعه الفلسفيquot;العقل العربيquot;. ألقيت الأضواء على تهافت هذه الأطروحة الفلسفي ولا معقولية النتائج الابستمولوجية والسياسية والأخلاقية الحاملة لها بالقوة. لو كان لنا من العقول بقدر ما لنا من الديانات واللغات (6000 لغة)، واللغة هي العمود

انظر: الحلقة الأولى

الفقري لكل هوية ثقافية، لإستحال منطقياً وجود علم عقلاني واحد، وأخلاق عقلانية واحدة، ونسق سياسي عقلاني واحد، وطريقة عقلانية واحدة، الحوار، لحل جميع النزاعات داخل كل أمة وبين جميع الأمم. والحال أن الواقع المعيش يشهد بعكس ذلك. العلم، منتوج العقل بامتياز، واحد في العالم كله؛وأخلاق حقوق الإنسان تعترف بشرعيتها العقلانية جميع الدول، وإن كانت لا تطبقها جميعاً بنفس المقدار، خاصة في أرض الإسلام حيث مازال الدماغان الغريزي والانفعالي لا يسلّمان- ولكن إلى متى؟- بمفهوم المواطنة الكاملة الذي يساوي بين الرجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، والمؤمن وغير المؤمن في حقوق المواطنة كافة كما تقضي بذلك عقلانية حقوق الإنسان؛ مبدأ شرعية الحوار العقلاني لحل النزاعات لا تنفيه أية دولة. ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي ُحلت نزاعات مزمنة بالحوار أوبفرض الحل العقلاني كما في البوسنة والهرسك بسبب العناد الهاذي لرئيس يوغسلافيا السابق ميلوزوفيتش. حتى النزاع العربي الإسرائيلي العويص، بسبب تدخل عنصر لاعقلاني فيه هو الدين، فهو اليوم يتقدم ببطء ولكن بيقين إلى الحل العقلاني: فلسطين التاريخية وطن للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. معظم قادة حماس تخلوا عن مادة ميثاقهم المطالبة بـquot;تحرير فلسطين حتى آخر ذرة ترابquot;، لصالح دولة فلسطينية في الأرض المحتلة في حرب 67... شرعية النسق الديمقراطي العقلانية الكونية لا يجادل اليوم فيها عاقل، حتى الصين الشيوعية تعد بتطبيقها تدريجياً خلال عقدين. التقدم التدريجي إلى الديمقراطية ضروري فهي تاريخياً تطورت تدريجياً. وعندما تحاول الإرادوية معاكسة منطقها الداخلي تنفجر. الديمقراطية كنواة الذرة، بتكسير النواة نستخلص الطاقة النووية. إذا استخلصناها بفظاظة تحولت إلى قنبلة، وإذا استخلصناها تدريجياً تحولت إلى مفاعلات نووية سلمية. وكذلك الديمقراطية.

انكار واقع كونية ووحدة العقل يفترض منطقياً سقوط البشرية مجدداً في الهمجية : غياب علم واحد وأخلاق كونية واحدة، ونسق ديمقراطي واحد وطريقة واحدة لحل النزاعات وتالياً اندلاع حرب الجميع ضد الجميع في عالم سيفتقد الحد الأدنى من المعالم والقاسم المشترك العقلاني. وهذا لحسن الحظ ليس واقعاً ولا متوقعاً في السيناريو المتفائل الذي تراهن عليه الإنسانية المفكرة والإنسانية المتألمة. سأبرهن في هذه الحلقة الأخيرة من الميثاق العقلاني، باقتضاب شديد يقتضيه المقام، عن كونية العقل وتطبيقاته العقلانية في بعض القطاعات. سأركز على العقلانية الدينية لكونها أهم ما يفتقده الإسلام منذ القرن 12 م افتقاداً مأساوياً، ولأن غيابها شكل، ومازال، عائقاً جدياً لإصلاح الإسلام حتى يتكيف، مثل اليهودية والمسيحية، مع الحداثة بما هي فصل ضروري بين الديني والدنيوي في المجال العام، وإحلال للعقل البشري محل العقل الإلهي وللرابطة السياسية الديمقراطية، لوحدة الاجتماع البشري المعاصر، مكان الرابطة الدينية التي قامت عليها المجتمعات ما قبل الحديثة، ومازالت تقوم عليها وحدة جل المجتمعات المسلمة التي لم تشرع بعد في الفصل بين المؤمن والمواطن الذي يشكل الباراديغم المركزي للحداثة السياسية والذي من دونه تبقي الدولة ما تحت- دولة:مجرد كيان طائفي ملغوم باحتمالات الحروب الدينية ومعرض للنبذ الرمزي أو الفعلي من المجموعة الدولية التي لم تعد تقبل المساومة على الحد الأدنى من العقلانية السياسية الضروري لإستقرار كل بلد وللإستقرار العالمي بالنتيجة.

2

quot;لا يكفي أن يتمتع الإنسان بعقل سليم، بل الأهم هو أن يستخدمه استخداماً جيداًquot; (ديكارت). قلما إمتلكت النخب السياسية العربية، خاصة في المشرق، عقلاً سليماً لكي تستخدمه استخداماً جيداً في صناعة القرار السياسي الذي هو كل شيء في السياسة، بل في كل نشاط بشري مهما قل.
كيف ُيصنع القرار الواقعي العقلاني الذي هو القرار بألف ولام التعريف؟

فلسفة الأنوار في القرن الـ 18 بلورت المبادئ السياسية والقيمية للمجتمع الحديث. صانع القرارالفرنسي، غداة الثورة الفرنسية، التي قال عنها هيجل إنها كانت من صنع الفلسفة، صاغ تلك المبادئ في دستور وقوانين ملزمة. هذه جدلية العلاقة بين الفكر والسياسة : المفكر يقترح وصانع القرار يضع مقترحاته موضع التطبيق. غداة التفجيرات الإرهابية في الدار البيضاء، لاحظت لصانع القرار التربوي المغربي أن غياب الفلسفة، مصدر الفكر النقدي بامتياز، من المناهج التربوية الثانوية، جعل تلامذة وخريجي هذه المدارس فريسة سهلة لفتاوى الإرهاب التي لم يستطيعوا مساءلتها نقدياً. وفي 2004 أدخلت المملكة المغربية الفلسفة في السنوات النهائية الثلاث من التعليم الثانوي؛ في 2004 كتبت رسالة مفتوحة للرئيس بوتفليقة اقترحت عليه فيها إلغاء تدريس الشريعة من التعليم الثانوي. وفي 2005 ألغى تدريسها. يبدو أيضاً أن صانع القرار الليبي استجاب هو الآخر لمطلبي المركزي بإلغاء تدريس الجهاد وآيات السيف - وليس آية السيف كما يقول المفسرون-، وفعلاً فعل مشكوراً سنة 2006، إذ ألغى تدريس الجهاد وآيات السيف... غداة غزوتي نيويورك وواشنطن، طالبت صناع القرار في دول العالم بالضغط على صناع القرار التربوي في أرض الإسلام لتغيير المناهج الدراسية التي تغذي نقمة صغار المسلمين على الغرب... وبعد أشهر بدأت الدول الغربية تطالبهم بذلك... أخبرتني مديرة مدرسة ثانوية سعودية، أن يوم صدور مقال من كتابي عن نقد التعليم الديني الإسلامي في إيلاف كان quot;يوم عيدquot; عند المدرسين. هذا يؤكد توقعي، غداة الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت أشد ظلامية ودموية بما لا يقاس من نظام الشاه، بإمكانية التأثير في الأنظمة القائمة التي أخذت الدرس من الزلزال الإيراني، فاتجهت إلى الحداثة كرد عقلاني على هجمة اللامعقول الديني-السياسي في أرض الإسلام.

الصناعة العقلانية للقرار اليوم لم تعد في البلدان المتقدمة من صنع الحاكم الفرد، الذي اختفى منها، بل من صنع المؤسسات، التي تعمل كطائرة من دون طيار. الكومبيوتر هو اليوم، في هذه الدول، المسؤول الأساسي عن صناعة القرار. سؤل الجنرال جياب:لا شك أنك لا تثق في الكومبيوتر الذي تنبأ في 1962 بهزيمتكم ؟ أجاب:كلا. نثق فيه. هو لم يخطئ، إنما البنتاغون هو الذي طرح عليه سؤالاً خاطئاً فرد عليه بجواب خاطئ :لو سأله متى سينهزم الجيش الأمريكي؟ لأجاب بدقة. لماذا غدت اليوم المؤسسات هي الوحيدة المؤهلة لصنع قرار واقعي عقلاني؟ لصعوبة صناعة القرار. لم يعد بإمكان فرد، ولو كان علاّمة، أن يحيط بكل شيء علما. اللامتوقع، في حقبة تسارع التاريخ، أكثر من القابل للتوقع، والمتغيرات أكثر من الثوابت. فقط المؤسسات المتخصصة المتضافرة والمستعينة بالكومبيوتر هي القادرة على تحديد المخاطر التي يمكن التحكم فيها وقادرة خاصة على تعريف-واعادة تعريف- المصلحة القومية تعريفاً صحيحاً. إذ القرار هو في خدمة هذه المصلحة حصراً. المعرفة العقلانية، هي نقيض الفطرة السليمة le bon sens والحدس وquot;الحلم الصادقquot;، لا تستطيع معرفة عناصرها الأساسية إلا المؤسسات المختصة في علم السياسة، والسسيولوجيا السياسية وعلم النفس السياسي وجميع المعارف الخاصة بموضوع القرار المطلوب. موازين القوة هي اليوم أكثر تشعباً من الماضي، وحدها المؤسسات تستطيع قراءتها بأقل هامش ممكن من الخطأ. بالمثل، وحدها المؤسسات هي التي تستطيع تعريف الواقعية السياسية التي لا سياسة من دونها. القرارات الإرادوية الهاذية كانت دائماً من صنع الحكم الفردي الذي يدعي معرفة المستقبل والقدرة على تحقيقه ولو بالقوة. وأخيراً المؤسسات هي التي تستطيع معرفة أن الاتجاه التاريخي العميق اليوم هو إلى الحكم الصالح:حكم وسط اليمين ووسط اليسار المتداولين عليه سلمياً ؛ حتى الصين وكوريا الشمالية، وإيران الاسلامية وسورية البعثية سيصلها جميعا هذا الاتجاه في المستقبل المنظور. مما يجعل مشروع أقصى اليمين في الغرب ومشروع نظيره عندنا، الإسلام السياسي، محكوماً عليهما بالفشل. إلا إذا استطاع هذا الأخيرالتراجع عن تطرفه بسرعة كما فعل الإسلام السياسي التركي الذي انتقل في لمح البصر من اليمين المتصلب المعادي للغرب وإسرائيل إلى وسط اليمين المتحالف مع الغرب وإسرائيل. لماذا كان الحكم الصالح هو حكم تداول وسط اليمين ووسط اليسار؟ لأن جناحي الطبقة الوسطي غير ميالين للمغامرة سواء بالسعى لإمتلاك أسلحة الدمار الشامل أوبالحرب أو بالتحالف مع الإرهاب، بل هما ميالان إلى المساومة والتفاوض والحوار في السياسة الداخلية والخارجية ومنفتحان على الحداثة والحداثة السياسية.

3
العقلانية السياسية هي تاريخياً حاضنة العقلانية الدينية التي هي بدورها وسطية. وليس مصادفة أنها لم تولد في أي بلد عربي إلا في تونس حيث الطبقة الوسطى تشكل ثلثي السكان، وهي الطبقة السائدة سياسياً وثقافياً، والـ9000 جمعية التي تشّكل المجتمع المدني التونسي منها أيضاًَ.
نحمل جميعاً، كما يقول النفساني، فليكس غواتاري، ميكروفاشية متأصلة في شخصياتنا النفسية العميقة تدفعنا لا شعورياً إلى البحث عن الاستمتاع السادي بالتسلط على الآخر. التربية الإسلامية السائدة الهاذية تغذي فينا هذا الميل منذ نعومة أظفارنا، بحشو جماجمنا وغسل أدمغتنا بقوامية الرجل على المرأة وضربها وهجرها في المضجع، واعتبارها نصف رجل في الشهادة والميراث والدّية، وصفر- رجل في حقوق المواطنة، كما يعلمنا حديث بأن النساء quot;أخوات يوسفquot; إشارة إلى المكيدة التخييليه التي دبرتها زوجة فرعون ليوسف، ويوصينا حديث آخربـquot;شاوروهن وخالفوهنquot; ربما لأن الشيطان ينطق بأفواههن فإذا عملنا بعكس نصيحتهن نجونا من كيده وكيدهن. هذا على الأقل ما كان يقوله لنا شيخ الحديث في الزيتونة مصطفى القمودي! كما تشحننا التربية إياها باحتقار المواطن غير المسلم الذي عليه أن يؤدي الجزية وquot;هو صاغرquot;، وككافر ديته نصف دية المسلم. نقرأ في كتاب quot;تباريح الشبابquot; للعلماني المصرى اسماعيل مظهر، مدير مجلة quot;العصورquot; أن العقود بين المسلم والمسيحي في مصر في الثلاثينات كانت تكتب هكذا:quot;باع الهالك بن الهالك جوزيف إلى المكرّم بن ساكن الجنان محمد... quot;، تدرسنا أيضاً العقوبات البدنية الشرعية، والتي هي دعوة صارخة إلى ممارسة ساديتنا وميكروفاشيتنا على ضحية الشريعة على أبشع صورة : جلد شارب الخمر، قطع يد السارق، رجم الزاني والزانية ودق عنق المرتد... فضلاً عن العقوبات التعزيرية التي لا تقل وحشية؛وتدرسنا الجهاد، جهاد الدفع[= الدفاعي] وجهاد الطلب [= الهجومي] : أوصى مرشد الإخوان المسلمين السابق مصطفى مشهور، الشباب المسلم بالإستعداد للجهاد، دفعاً وطلباً:quot;أجمع أهل العلم مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفيين، على أن الجهاد [= جهاد الطلب]فرض كفاية على الأمة الإسلامية [= إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين] لنشر الدعوة، وفرض عين [= جهاد الدفع] لدفع هجوم الكفار عليهاquot;. (مصطفى مشهور، الجهاد هو السبيل، مطبوعات الاتحاد الإسلامي الطلابي، الطبيعة الثانية ص 19). هذا التحريض على غزو الشعوب الأخرى مازال يدرسه التلميذ والطالب في 98 % من المدارس والجامعات الإسلامية !.

العقلانية الدينية لن تقوم إلا على أنقاض هذا اللامعقول الذي تلقنه للناشئة هذه المدرسة السلفية التي ينزّ الدم من أفواه مدرسيها والتي مازال يعامل غالباً فيها المسيحيون كأهل ذمة :quot;المناهج في الجامعات تدرس ضد الكتاب المقدس ويلزم الطالب المسيحي بالإمتحان فيها ويجبر على الإجابة عن سؤال يهاجم عقيدتهquot; (الأنبا بشوي، وطني، 7/11/2006) ! فما هي العقلانية الدينية المأمولة؟ هي التي لا تقيل من الدين، خاصة في المعاملات، إلا ما كان متفقاً مع العقل. المعتزلة سبحوا ضد التيار فوضعوا المسودة الأولى للعقلانية الدينية إذ أخضعوا-عكس ما كان سائداً لدى المدارس السنية- النقل للعقل، والحال أن الوحدة الفكرية للقرون الوسطى كانت إخضاع العقل للنقل:توظيف أرسطو في خدمة الكنيسة. لخص ابن رشد رأي المعتزلة:quot;إن الله أعطانا عقولاً ولا يمكن أن يعطينا شرائع مخالفة لهاquot; إذن إذا تعارضت الشريعة مع العقل أُولت الشريعة لصالح العقل، ووضعوا، بمبدأ quot;التحسين والتقبيح العقليينquot;، حجر الأساس في عمارة الأخلاق العقلانية، أخلاق حقوق الإنسان، التي لا تأخذ في الإعتبار قيمتي الحلال والحرام الفقهيين، بل تنطلق مما حسنه العقل ومما قبحه العقل، كمنطلق عقلاني لأخلاق إنسانية. لكن لا يمكن بعد عشرة قرون أن نتسمّر حيث وقف المعتزلة، إذ بذلك نتجاهل كل ما قدمته علوم الأديان الحديثة للبشرية من إمكانية فهم عقلاني للظاهرة الدينية تحرر العقل البشري راديكالياً من التبعية للعقل الإلهي، واضعة الدين في مكانه الطبيعي كخيار شخصي حصراً. وأكثر من ذلك للفرد مطلق الحرية في أن ينتقي من دينه ما يشاء ويدع ما يشاء. لأنه فرد. والفرد يختار قيمه بنفسه ويقرر مصيره في حياته اليومية بحرية. بدأت الكنيسة الغربية تتكيف مع هذا الفاعل الجديد في التاريخ : الفرد. ولا تجادل-أو لا تجادل كثيراً- في خياراته. هذه الانعطافة التاريخية في ذهنية الفرد المسيحي المتدين هي ما حلله السوسيولوغ شيلجل في كتابه quot;الدين كقائمة طعام مطعمquot; la religion agrave; la carte
أي أن الفرد الحر المتدين يعتبر واجباته الدينية كوجبات في مطعم، ينتقي منها ما لذ له وطاب ويدع الباقي. هذا الفرد السيد غائب بمأساوية في الإسلام. لقد محته القبيلة محواً ثم أجهزت عليه الأمة، والأمة كلمة عبرية تعني القبيلة. لا وجود لحد الردة في القرآن الذي أباح للمسلم الردة quot;فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرquot;التي فسرها محمد عبده بـquot;من شاء أن يدخل فيه [الإسلام]فليدخل، ومن شاء أن يخرج منه فليخرجquot;. لكن الفقهاء، استجابة لا شعورية للذهنية القبلية المعادية للفرد، أقروا بالإجماع حد الردة الذي استعاروه من سفر التثنية، بناء على حديث آحاد. حتى الشافعي الذي يرفض نسخ القرآن بحديث الآحاد قبل نسخ الآية بهذا الحديث!.
ينبغي للعقلانية الإسلامية أن تنطلق من حق الفرد في الحرية الدينية وفي حرية الاعتقاد اللتين أقرهما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأقرهما البرلمان التركي باقتراح من حكومة أوردغان حيث غدا المسلم، لأول مرة في تاريخ الإسلام، يستطيع تغيير دينه دستورياً، كما ألغت حكومة quot;حزب العدالة والتنميةquot; الإسلامي التركي عقوبتي الزنا والإعدام بطلب من الاتحاد الأوربي. وهذا برهان على الدور التحديثي الذي تلعبه الشراكة الأوربية مع البلدان الإسلامية. الاعتراف بحرية الفرد يعني تحرير المجتمع كله من الرابطة الدينية-العشائرية القديمة كأسمنت لضمان وحدته العضوية- الدينية، وتعويضها برابطة المواطنة العقلانية التي توحد المواطنين فيما بينهم، وبرابطة العقد الاجتماعي الذي يوحد المواطنين بالدولة.
هذا الفرد المتحرر من الرابطة الدينية- العشائرية هو الذي سيشكل مصدر التجديد الديني، والفكري، والعلمي والتكنولوجي والسلوكي في مجتمع الأفراد الأحرار المرتبطين بحكوماتهم بعقد اجتماعي حصراً.
تحرير الفرد في أرض الإسلام من الروابط العضوية- الدينية يتطلب حكماً تحرير البحث العلمي والفكري والفلسفي وتحرير الإبداع الأدبي والفني من وصاية المؤسسات الدينية وسيف الفتاوى الدموية المسلط على رقاب الباحثين والمبدعين. مثل هذا الإجراء يندرج في منطق ثورة الاتصالات الواعدة بتغيير الأسلوب الشائع في التفكير، وأسلوب الحياة وتطوير وتقريب الهويات من بعضها البعض، وتنميطها في هوية عالمية، الفرد هو الفاعل الأساسي فيها. أستاذ بالكوليج دو فرنس في سوسيولوجيا الأديان توقع أن يؤدي تلاقح الهويات وتهجينها إلى ظهور دين انتقائي عالمي واحد...

4
تحرير البحث العلمي يفترض شرطين: الانتهاء من أسطورة ان القرآن موسوعة علمية، والفصل الحاسم بين إسلام الإيمان وإسلام التاريخ.
اعتبار القرآن موسوعة علمية والترويج لخرافة الإعجاز العلمي في القرآن شكلا معاً عائقاً دينياً مخيفاً للبحث العلمي الحر- والذي لا يمكن إلا أن يكون حراً من وصاية الدين والدولة وإلا مات في المهد -. أصدر الأزهر سنة 2000 قراراً بتوقيع شيخه يحرم نشر أي كتاب عن نظرية التطور، ونظرية التطور لا تدرس في مدارس دول الجامعة العربية. البيولوجيا التطورية تدرس في كليات الطب بمصر، لكن الأساتذة الإسلاميين، وهم الغالبية، يوصون طلبتهم quot;اعرفوها للإمتحان فقط... إنها غلط في غلطquot;.

ما العمل؟
المطالبة بتدريس ذات البرامج التي يدرسها تلامذة التعليم الثانوي وطلبة الجامعات في العالم لوضع حد للإستثناء quot;العربي الإسلاميquot;، الذي هو عنصرية ضد الذات. إيقاف مهزلة مؤتمرات quot;الإعجاز العلمي في القرآنquot; واضطلاع الأطباء والجغرافيين والفيزيائيين بتشريح آيات العلم التي اعترف الشاطبي بأنها غير علمية:quot;لأن الله، كما قال، خاطب العرب على قدر عقولهمquot;وأيده محمد الطاهر بن عاشور، صاحب تفسير التحرير والتنوير، في هذا الرأي. وقد سبق لبنت الشاطئ أن كتبت quot;في القرآن أخطاء تاريخية ولكنه ليس كتاب تاريخ، هو كتاب روحي فقط، فهل فيه خطأ روحي واحد؟quot;... في المؤسسة التعليمية العالمية يدرس المتعلم أن الكتب المقدسة ليست مصدراً للتاريخ، لكن في مدارسنا وجامعاتنا مازال القرآن مصدراً للتاريخ!.
الحداثة فصل : الفصل بين السلطات، الفصل بين المجال العام والمجال الخاص، الفصل بين الدين والدولة وأخيراً وليس آخراً الفصل بين دين الإيمان ودين التاريخ. منذ القرن 17 بدأ مسار الفصل بين دين الإيمان ودين التاريخ. أما اليوم فدين التاريخ علم مستقل له كتبه ومنهجيته وأخصائيوه بعضهم ذووا شهرة عالمية. مثلاً مسيحية الإيمان من اختصاص رجال الدين في علاقتهم بالمؤمنين. أما مسيحية التاريخ فاختصاص آخر يقاربه أهله بعلوم الأديان المرصودة لفهم الظاهرة الدينية في تجلياتها وسياقاتها التاريخية بعيداً عن المعجزات وسلطة النص اللذين أصبحا هما أيضاً موضوعاً يدرسه العلم. شرعية مسيحية التاريخ العقلانية فرضت نفسها على الجميع بما في ذلك الأنتلجانسيا المسيحية المؤمنة. حتى البابا بنوا 16 استعان في كتابه المهم، بل الفائق الأهمية في نظري، quot;يسوع الناصرةquot; بعناصر مهمة من مسيح التاريخ ودمجها في يسوع الإيمان. فمتى يكتب شيخ الأزهر كتاباً عن محمد الإيمان مستعيناً ببعض حقائق محمد التاريخ؟ ذلك اليوم ليس ببعيد. ردُّ تحدى الإرهاب الديني يفرض على صنّاع القرار التربوي إعادة هيكلة المناهج لمقاربة الإسلام بجميع علوم الأديان بدلاً من الطريقة الحالية العقيمة: تدريس الدين بالدين، وأيضاً تجديد طرق التدريس وإعادة تكوين المدرسين لتأهيلهم للإضطلاع بمهامهم الجديدة. الإهتمام بجودة المدرسين المهنية والأخلاقية حاسم. بعض مدرسي الفلسفة في المملكة المغربية، من ذوي الهوى الإسلامي على الأرجح، لا يدرسون لتلامذتهم الفلسفة بل يكفرونها ويحذرونهم منها: بعضهم يقول لهم إن مؤسس الفلسفة، سقراط، كان لوطياً، فإذا درستم الفلسفة فستنتقل لكم عدواه!

تعميم الفلسفة على جميع مستويات التعليم الإعدادي والثانوي ضروري ضرورة تدريسها للأطفال أيضاً. صدرت في فرنسا سلسلة قصص فلسفية مرصودة للأطفال ابتداء من الفئة العمرية 8 سنوات. لماذا لا تُترجم وُتدرج في المناهج المدرسية؟ تدريس حقوق الطفل والإعلان العالمي لحقوق الإنسان-كما في تونس والمغرب- واتفاقية منع التمييز ضد المرأة وحماية الأقليات وحرياتها الدينية، ضروري بالدرجة ذاتها لتخصيب وعي الناشئة بالقيم العقلانية الكونية وإعدادهم للإندماج القيمي الضروري في عصرهم. مهد العقلانية الدينية هو المدرسة العقلانية الدينية، النقيض المباشر للمدرسة الحالية ولا معقولها الديني الهاذي ! لماذا لا ندرس علوم الأديان في الإعدادي والثانوي والعالي؟ أقترح ترجمة وتدريس كتاب المستشرق دوبريمارquot;في أصول القرآنquot; الذي يساعد على قراءة تاريخية-نقدية للنص الإسلامي المؤسس.
ميلاد العقلانية الإسلامية مشروط بتعويض القراءة الحرفية السائدة المنتجة للتعصب والإرهاب بقراءات أخرى منفتحة على المعقول مثل القراءة التأويلية، والقراءة المقاصدية وخاصة القراءة التاريخية، براءة الاختراع تعود للجابري، التي تنزل النص في التاريخ فتنسخ ما لم يعد متكيفاً مع المستجدات أو المصلحة. مارس القرآن هذه القراءة بالناسخ والمنسوخ(بين 500 و800 آية)، ونسخ أبو بكر وعمر ومعاذ وعلي، ونسخ الفقهاء، ونسخ الطاهر الحداد تعدد الزوجات والتمييز بين الذكر والأنثى في الميراث، ونسخ المؤرخ التونسي الإسلامي، محمد الطالبي، آية ضرب المرأة كما نسخها أيضاً جمال البنا. أما حسن الترابي فقد نسخ 5 آيات على الأقل منها آيتي التفاوت بين الذكر والأنثي في الشهادة والميراث... هذا النسخ الظرفي وبالقطارة قليل الجدوى ما لم يندرج في مبدأ أصولي ناسخ: كلما تعارضت النصوص الدينية مع العقل أو المصلحة أوالقيم الكونية أو القانون الدولي تنسخ حكماً. إقرار تدريس هذا المبدأ سيشكل طفرة للعقلانية الدينية في العالم العربي بإزاحة عائق تعارض الحداثة مع النص. وهي كلها متعارضة معه، وخاصة مع ظاهر النص وقراءته الحرفية.

العقلانية الدينية لن تولد من الحمل دون دنس. بل لابد لها من تخصيب صناعي في عدد من المخابر. الترجمة لا تقل أهمية عن المدرسة، ولا الإعلام يقلّأهمية عن عقلنة الخطاب الديني. الحضارة العربية الإسلامية حضارة نص لم تعرف العقل إلا كزائر ثقيل. العائق الأول أمام ترجمة العقلانية الدينية الغربية، خاصة الدراسات الاستشراقية عن نبي الإسلام وعن القرآن والحديث والإسلام، هو عدم نضج الشخصية الجمعية الإسلامية لإستقبال نقد الغير لها بصدر رحب، وممارسة نقدها الذاتي بشجاعة. كتاب فولتير عن quot;محمد أو التعصبquot; لم يترجم بعد، وسير المستشرقين الألمان عنه، (4 على الأقل)، لم تترجم هي الأخرى. وعشرات الكتب الإستشراقية تنتظر الترجمة بينها كتاب مهم، لأنه مثير للجدل وما أحوجنا للجدل العلمي في الدين للخروج من السبات الشتوي الديني. هو كتاب المستشرق الفرنسي جاليه:quot;المهدي المنتظر ونبيه:عودة إلى أصول الإسلامquot;. الترجمة كانت صك ولادة الحضارة العربية الإسلامية. أول فيلسوف عربي، الكندي، كان مترجماً. العالم العربي يترجم 300 كتاب كل عام لحوالي 300 مليون نسمة، وإسرائيل تترجم 10000 كتاب سنوياً لـ 6 ملايين إسرائيلي !. الترجمة ليست ضرورية لإغناء وتحديث الثقافة العربية وحسب، بل وأيضاً ضرورية كجسر للحوار مع الغير :مع الغرب. كراهية الغرب بما هو غرب، وكراهية حضارته quot;اليهودية المسيحيةquot; فعل عنصري ولا معقول بامتياز. الغرب اليوم هو غرب العلم والتكنولوجيا والثورة الثقافية الدائمة، غرب المعارف والفنون، غرب الاقتصاد الديناميكي، غرب الإعلام المهني، غرب حقوق الإنسان والديمقراطية. وبإختصار، غرب الحضارة في عالم تهدده الهمجية. هذا الغرب يستطيع اليوم مساعدتنا للخروج ظافرين من أزمة الحداثة التي نمر بها. الترجمة اليوم لم تعد مبادرات فردية، بل غدت إختصاصاً مؤسساتياً. معجم لاروس، ألفه بيار لاروس وحده في القرن التاسع عشر، وبعد حوالي قرن من وفاته شارك في سبعينات القرن الماضي، ألف معجمي في مراجعته.
بيل جيتس، أغنى أعنياء العالم، تبرع بـ 95 % من ثروته للعمل الخيري ؛ ألا يوجد في العالم العربي 10 أغنياء يتبرع كل منهم بـ 1 % فقط من ثروته لتأسيس مؤسسة ترجمة عملاقة تترجم سنوياً 10000 كتاب كما تفعل إسرائيل ؟! هل مات الخير في quot;أمة الخيرquot; ؟!.

5
الإعلام، في عصر ثورة الاتصالات وحاملها الانترنت، هو مدرسة بلا أبواب، وأحد أهم مخابر العقلانية والعقلانية الدينية بوجة خاص. سمى هيجل قراءة الجريدةquot;صلاة الفجر الحديثةquot;.
فلسفة الأنوار لم تتغلغل في جمهور عريض، كان سر نجاعتها ونجاحها، إلا بفضل الإعلام الذي عممها. استقبال فولتير، لما عاد إلى باريس دون استئذان الملك، استقبال الفاتحين دليل على شعبية فلسفة الأنوار. وقد قال له ديدرو مهنئاً:quot; أمة بكاملها حيتك تحية قلما ظفر بها ملوكها منها. تلقيت تحية النصر في وطنك، العاصمة الأكثر تنوراً في العالم ؛ من منا لا يعطي حياته ليوم كيومك ؟quot;. هُزم العقل في اليونان لأنه ظل حبيس أكاديمية أفلاطون وليسيه أرسطو وحديقة أبيقور وأروقة الرواقيين... ولم يتغلغل في قطاع عريض من الجمهور الذي ظل يتغذى بالفكر الأسطوري على ربابة منشدي الإلياذة والأوديسه. بالمثل هزم العقل الكلامي في أرض الإسلام، لأنه بقى حبيس صالونات الخلفاء بينما كان الوعاظ والفقهاء يحشون أدمغة العامة باللامعقول الديني في الجوامع والشوارع. في الحالتين اليونانية والعربية هُزم العقل لغياب الإعلام. لأن اكتشاف المطبعة كان مازال غير ممكن. المطبعة هي التي جعلت خروج العقل من سجن الأكاديميات والليسيات والصالونات ممكناً وهذا ما تفعله اليوم، وستفعله عدا أكثر، الانترنت. باراديغم عصر الثورة العلمية والفلسفية، ق 17، quot;أنا أفكر فأنا موجودquot;. أما باراديغم عصر ثورة الاتصالات فهو quot;أنا أفكر في الإعلام فأنا موجودquot;. في فرنسا الكتاب الفلسفي الذي ُيناقش في التلفزيون يبيع 75 ألف نسخة سنوياً ؛ والذي ُتفرض عليه quot;الرقابةquot; الإعلامية يبيع خمسة آلاف! إني لأشعر بالسعادة وأنا أكتب في إيلاف لربع مليون قارئ في القارات الخمس. من الأهمية بمكانأن يكون للعقلانيين إعلامهم الخاص :جريدة إلكترونية، مجلة ورقية، إذاعة، فضائية... والنشر ما أمكن في الإعلام الذي يفتح صدره لهم. ألا يوجد في العلم العربي عقلاني واحد ليهدي للعقل فضائية واحدة للرد على لامعقول quot;الجزيرةquot;وquot;المنارquot;وquot;إقرأquot; وأخواتهم؟.

6
هذا الميثاق الذي تناولت فيه بضع قضايا أساسية والذي أقترحه على قرائي وعلى العقلانيين في دول الجامعة العربية وأبعد إن أمكن، ليستخدموا جميعاً في نقاشه عقلهم النقدي، أي دماغهم المعرفي؛ هذا النقاش النقدي المتعارض غائب في الساحة الفكرية؛ والحال أننا في غيابه لن نتقدم إلى التقدم في عالمَ من لا يتقدم فيه يتأخر. في عالم تكثف فيه التلاقح الثقافي، وتعولم على نحو غير مسبوق، بات من أكثر واجبات العقل إلحاحاً أن يحاول تسريع انتقال الذهنية العربية الإسلامية من ذهنية القرون الوسطي اللامعقولة، إلى ذهنية القرن الحادى والعشرين العلمانية والعقلانية المنفتحة. هذا الميثاق هو إسهام فردي ناقص بالضرورة، يحتاج إلى إسهام جمعي أوسع وأعمق للدفع في اتجاه غلغلة العقلانية في جميع مناشط حياتنا وعلى أوسع نطاق ممكن. وأنادي جميع العقلانيين في العالم للعمل على ترسيخ حقيقة حقبتنا العقلانية بامتياز: ضرورة اقتسام خيرات الأرض واقتسام نتائج البحث العلمي والتكنولوجيا بين الشمال والجنوب بتفادي حرب الجميع ضد الجميع.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية