فى فقه القانون، أن القانون يصدر عن أحد سبيلين، فهو إما أن يكون أمرا تفرضه السلطة، واما أن يكون عادات وأعراف قررها المجتمع فى هدوء وقدرها تقديرا سليما.
فلكى يكون القانون تعبيرا عن المجتمع، يتعين أن يكون هذا المجتمع واعيا مستنيرا، يعرف ما يفعل وما يهدف إليه، فتستقر خلال تعاملاته قواعد ومبادىء، يقبلها المجتمع ndash; إلا قليلا بالطبع ndash; فيرتضى أحكامها ويقبل نتائجها، دون تذمّر وبغير ضغوط.
أما صدور القانون عن السلطة، فقد بدأ ndash; كما أنف البيان فى دراسات سابقة ndash; منذ عهود سحيقة، كان أظهرها قانون حمورابى (1792 ndash; 1750) فى بابل، ثم قوانين دراكون وصولون فى أثينا، وقانون الألواح الاثنى عشر فى روما.
وقد كانت القوانين آنذاك ndash; ولو أنها تصدر عن السلطة ndash; ترعى مصالح الجماعة وصوالح الأفراد، من ذلك - على سبيل المثال ndash; أن الألواح الاثنى عشر حرمت الربا إذا زاد على ⅓8 ٪ فى السنة، ثم خـُفــَّض سعر الفائدة 347 ق.م إلى 5٪ ثم حُرّم الربا على الاطلاق سنة 342 ق.م. أى إن القانون كان يراعى أحوال الضعفاء من المواطنين فحدد سعر الفائدة، ثم خفضها بعد ذلك، وفى النهاية الغى الفوائد على الديون تماما.
فى العصر الحالى كان للسلطة مسار آخر مع القانون، وخاصة فى الايديولوجيا الطبقية (فى الاتحاد السوفيتى)، ثم فى الايديولوجيا القومية (فى النازية والفاشية). ذلك أن نظرية كارل ماركس (التى قلبت نظرية هيجل فى التطور الروحى فجعلته تطورا ماديا) كانت تقوم على أن المجتمعات تبدأ بالاقطاع، ثم تتحول إلى الرأسمالية ثم تنتهى إلى الاشتراكية التى تؤدى إلى الشيوعية. ومع التحفظات العلمية على هذا المنهج من واقع التاريخ، لأن كثيرا من المجتمعات لم تبدأ بالاقطاع الزراعى، فان ماركس توقـّع للاشتراكية أن تبدأ إما فى المانيا أو فى انجلترا، لأن الرأسمالية فى هذين البلدين كانت فى طريقها إلى النضوج والاستواء. ولما بدأ لينين تطبيق الماركسية فى الروسيا والبلاد التابعة لامبراطوريتها (فيما سماه السوفييت أى المجالس) فإنه إنتقل من الاقطاع إلى الاشتراكية مباشرة، متجاوزا بذلك نظرية ماركس، وملتفتا عن ضرورة التطور التاريخى. وقال فى ذلك ndash; عندما عورض بصحيح النظرية وواقع التاريخ ndash; إن الحزب (الماركسى)، أى حزبه هو، قام بعمل الرأسمالية، فنقل الاتحاد السوفيتى من الاقطاع إلى الاشتراكية رأسا. لكنه فى ذلك كان مخطئا، ذلك بأن الحزب لم يقم بدور الرأسمالية لينقل الشعب إلى الاشتراكية، وإنما لكى يصبح هو فى الواقع والحقيقة، الرأسمالي الوحيد. وبذلك تحولت مفاهيم الاشتراكية عند التطبيق إلى أن تكون رأسمالية الحزب أو رأسمالية الطبقة المسيطرة فى الحزب، أو رأسمالية الزعيم. ووجد لينين، ومن بعده ستالين، أنه لابد من حماية المصالح الجديدة لهم بالدعاية من جانب، وبالأمن من جانب آخر ؛ فلجئوا إلى جهاز الأمن القيصرى وكان قاسيا جدا، كما لجئوا إلى الأساليب الدعائية، بالأسلوب التجارى الرخيص، الذى يكرر ويعيد، أمجادا وهمية أو آمالا لم تتحقق ولا يمكن لها أن تتحقق، فى ظل نظام رأسمالي صارم، تضاف إليه مساوىء البيروقراطية حين تكون الرأسمالية بين يدى الحزب أو القائمين عليه، فيـُعهد فى تصريفها إلى موظفين أو إلى أشباه الموظفين.
وفى الايديولوجيات القومية (كالنازية والفاشية) استند هتلر إلى القانون ndash; حين يصدر عن السلطة ndash; فأساء استخدامه بشدة، وجعل منه أداة تبرر الإبادة الجماعية التى وصلت إلى ضعفاء من شعبه مثل الغجر والمتخلفين عقليا، بزعم أن فى ذلك تطهير للجنس الآرى. وفى حماية حزبه ndash; ونفسه ndash; أصدر قانونا يعاقب بالسجن أى مؤرخ يذكر واقعات تضر بالشعب الألمانى (وفى الحقيقة تضر زعامته أو حزبه) حتى ولو كانت هذه الواقعات صحيحة. وهذا مثل بالغ على كيفية تحول السلطة فى يد الحاكم والقانون - بتقدير الزعيم ndash; إلى تبرير الكذب وتجريم الصدق، وهو أمر ينافى كل المبادىء الأخلاقية، التى لا تقوم شرعية لأى حكم إن تعداها أو تخطاها، لأنه يكون بذلك قد خرج عن سنة الطبيعة وعن القانون الالهى ؛ وكتب على نظامه الهلاك والسقوط.
وعندما قامت الانقلابات العسكرية فى بلاد العالم الثالث وجدت العسكرتاريا أن استخدام القانون لصالحها هو أفضل سبيل لحماية مصالحها، مع الادعاء بأنها ترمى بما تشرّعه من قوانين إلى حماية الشعب، وهكذا تحولت كل أو جل العسكرتاريا إلى ما سمّته الاشتراكية، وكان معنى ذلك أن تكون هى الرأسمالي الوحيد فى الأمة ndash; بالتأميم أو المصادرة ndash; وأن تـُحول كل العاملين فى الدولة إلى عاملين لصالحها هى وحدها، ثم تقيم جهازا دعائيا ضخما يقلب الحقائق، فيجعل من الباطل حقا، ويقلب الباطل إلى الحق. وهكذا فى كل شىء، إذ تصير الهزيمة نصرا، ويكون انخفاض مستوى الدخل القومى DNP ارتفاعا لمستوى الشعب، ويعتبر تدنى الخدمات تجديدا ومساواة (لا تشمل الحزب وأفراده طبعا).
وهكذا انحرف القانون فى يد السلطة، فأصبح حماية لمصالحها وحدها، ومن بعدها الطوفان. ولم يعرف الناس، من انعدام التنمية البشرية، سببا لذلك، ولا عرفوا كيف يعدلونه وكيف يكون الاصلاح !
إن القانون أداة ذات حدين، أحدهما وأقلهما، يكون الصالح العام، أما فى الأغلب الأعم ndash; وحين يصير أداة فى يد السلطة ndash; فإنه يصير قوة مدمرة، ساحقة ماحقة، للأغلبية من الناس، فى حين يرتع أفراد السلطة التى تستغل القانون لنفسها فى رفاهية لا مثيل لها. وقد لجأت العسكرتاريا فى بعض البلاد ndash; بالقانون أيضا ndash; إلى نظام الأمن ذى السطوة الشديدة، وإلى المحاكم الاستثنائية التى تبرر المظالم وتكرس المفاسد.
القانون الحقيقى هو سنــّة الله فى الكون، وهو العدل. وقد قيل قديما quot; قد يقوم الحكم على الشرك لكنه لا يدوم على الظلم quot;. وعلى الناس فى كل مكان فى العالم، أن تعرف وتعى، أن القانون قد يكون سبيلا إلى الصلاح، كما قد يكون طريقا إلى الفساد. والذى يقيم الاصلاح ليس فى حاجة إلى تبريره والدعاية له، أما الذى ينشر المفاسد، فهو الذى يقلب الأمور، فيجعل من الظلم عدلا، ومن الجمود استقرارا، ومن الهزائم نصرا. ولا تقوم الأمم ولن تنهض البشرية حقا إلا إذا آمن الجميع بالحق والعدل والمساواة بين الناس جميعا، دون تحريف وبغير سفسطة.
لقد قال أرسطو فى القرن الرابع قبل الميلاد (إذا فسدت الدولة كثرت قوانينها) فكثرة القوانين هى أكبر الدليل على الفساد وانتفاء الاصلاح، لهذا يجب تكوين البشرية ndash; بالتربية والتنمية ndash; على الحق والعدل والمساواة، ليكون الطفل حينما ينمو ويكبر ويصبح أحد المسئولين، قد نشـّىء على مفاهيم الحقوق والعدالة والمساواة، فلا يعبث بأى عنصر منها، ولا يخبث فى التلاعب بها، ولا يستطيع إلى ذلك سبيلا.
والقانون من ثم لا بد أن يركن فى النهاية إلى النظرية الاجتماعية، التى تجعل منه تشريعا للأعراف الصالحة والأعمال الصادقة والمناهج الصحيحة والتطبيقات الواضحة، والأحكام ذات الشفافية.

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر تسبب ملاحقة قانونية