سألني الكثير من الأصدقاء عن مآل مشروع quot;قناة فضائيةquot; ليبرالية التوجه، كنت أعلنت عنه قبل سنتين ونيف، دون أن يرى النور إلى حد الآن. وقد رأيت من حق القراء علي أن يكون الجواب علنيا كما كان الإعلان، فالهم لم يكن شخصيا بل عاما، والطموح لم يكن خاصا بي، بل هو طموح تيار فكري وسياسي عريض، شغلت أطروحاته وآراؤه حيزا كبيرا من الحقل الإعلامي العربي خلال السنوات الأخيرة، فكان موضوعا للهجوم عليه والتشكيك فيه، دون أن يفسح لكتابه ومثقفيه ورواده مساحة عادلة وكافية للتعبير عنه.
المتأمل في المشهد الفضائي العربي، سيلاحظ دون عناء، هيمنة ثلاثة أطراف رئيسية عليه، الأنظمة الحاكمة من خلال قنواتها الرسمية ذات الخطاب الخشبي، والتيارات الإسلامية على اختلاف أنواعها، من خلال قنواتها الدينية أو السياسية، ذات الخطاب الشعبوي، التهييجي أو التخديري، و المقاولات التجارية بقنواتها التي لا تعد ولا تحصى، والتي لا تجمعها سوى خاصية التنافس على مزيد تسطيح وعي المشاهد العربي، والتباري في إلهائه عن النظر إلى قضاياه المصيرية وتحمل مسؤولياته المستقبلية.
وعلى الرغم من كل ما يشاع عن الدعم الخارجي الذي يلقاه الليبراليون العرب من القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الواقع يثبت خلاف ذلك تماما، فالتيار الليبرالي العربي هو ndash; ويا للمفارقة- الأكثر فقرا بين سائر التيارات الفكرية والسياسية العربية، وليس أدل على هذه الحقيقة، من أنه لم يجد في غير إعلام الفقراء quot;الانترنتquot;، وسيلة للتعبير عن نفسه وإعلان مواقفه وأطروحاته على الجمهور العربي، فيما يكرس الإعلام العربي حالة الاستقطاب المشينة بين الأنظمة المستبدة والحركات الأصولية المتشددة.
فيما يتعلق بالدعم الخارجي المزعوم للتيار الليبرالي العربي، لا مناص من لفت النظر إلى أمرين، أولهما تردد الاتحاد الأوربي حيال قضايا الديمقراطية والحريات في العالم العربي، حيث غالبا ما تنتهي التصورات الأوربية عمليا إلى تفضيل عدم ممارسة أية ضغوط جدية على الأنظمة القائمة، لأن التغيير برأي الأوربيين غير مضمون، كما أن طبيعة الشعوب العربية ميالة أكثر لحكم المستبدين، وثانيهما عدم وضوح سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية، خصوصا فيما يتصل بقضايا المنطقة العربية والكيفية المثلى لمساندة البرامج الإصلاحية، فضلا عن تقدير بعض ساستها إمكانية استيعاب الأنظمة والإسلاميين معا لخدمة مصالحها الإستراتيجية.
لقد عجز الاتحاد الأوربي إلى حد الآن، عن لعب أي دور فاعل وملموس في مستوى الإعلام الفضائي العربي، الذي يعد الأكثر تأثيرا وحيوية بمقارنة بقطاعات الإعلام الأخرى، فالأوربيون لا يملكون قناة تلفزيونية فضائية واحدة ناطقة كليا بالعربية، وكل ما تحقق خلال السنوات القليلة الماضية، إقدام بعض القنوات الأوربية الشهيرة (دوتشي فيليه، راي...) على تخصيص ساعة أو ساعتين من برامجها، تعتمد في خطابها اللغة العربية، بينما ما تزال مؤسسة ذائعة الصيت كquot;بي بي سيquot; مترددة في المضي قدما في إطلاق قناة فضائية عربية، وقد كانت سباقة أواسط التسعينيات في التمهيد إلى ظهور قناة الجزيرة القطرية، التي انطلقت ليبرالية على الطريقة البريطانية، وانتهت أصولية شعبوية على الطريقة quot;الأحمد سعيديةquot; وquot;الزرقاويةquot;.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ظل يقال أنها شديدة الانزعاج من قناة الجزيرة، فإنها بعد طول انتظار قررت الدخول إلى المشهد الفضائي العربي، بقناة فاقدة لأي بريق أو حركية، تبث أفلاما وثائقية عن الحيوانات والبرية في البراري الأمريكية الواسعة، ويجهد مقدمو برامجها ونشرات أخبارها أنفسهم لتقديم مواد إخبارية أكثر تأثرا بالخطاب الإعلامي الخشبي الرسمي، منها بالإعلام المعاصر المتواصل حقا مع القضايا المطروحة فعلا في الشارع العربي، والتي من شأنها أن تجعل للقناة طعما ورائحة ولونا، بدلا من وضعها الحالي الباهت، غير المتفق مع ملايين الدولارات التي تنفق عليها من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
الدرس المستخلص من التجربتين الأوربية والأمريكية، ليس سوى التأكيد على أن الحراك المطلوب في المشهد الإعلامي العربي، لا يمكن إلا أن يحدث عن طريق مبادرات عربية في المقام الأول، فالعرب أقدر على فهم واقعهم ومخاطبة شارعهم، دون أن يعدم هذا الرأي إمكانية الدعم، فالإعلام كما الثقافة لا بد وأن يكون مدعوما، كليا أو جزئيا، بالنظر إلى أن قواعد الربح والخسارة فيه، ليست منضبطة تماما لقواعد العمليات الاقتصادية الكلاسيكية.
لقد كان الأمل معقودا، في أن يجد مشروع القناة الفضائية، قناعة لدى بعض رجال الأعمال العرب، المتطلعين إلى لعب دور جدي وصادق لأجل مستقبل أفضل لمنطقتهم وشعوبهم، وكان بعضهم وعد بمساندة المشروع، غير أن النهايات أثبتت دائما أن الرأسمال العربي الحداثي المستقل عن السلطة غير موجود تقريبا، وأن طبقة بورجوازية شبيهة بتلك التي قامت في أوربا خلال عصر الأنوار، وكانت الداعم الأساسي لحركات الإصلاح الفكري والسياسي والمطالب الرئيسي بالديمقراطية، لم تتبلور بعد، وبالتالي فإن تعويل الإصلاحيين العرب على رأسمال وطني ليس متاحا في المدى المنظور، فالرأسمالية العربية الحالية ليست غير حلقة من حلقات السلطة، إما هي من صنيعتها أو هي في حاجة إليها وليس بمقدورها معارضتها.
وأما بالنسبة للدعم الدولي، أوربيا كان أو أمريكيا، فلا يمكن الاعتماد عليه في إقامة مشروع بحجم قناة فضائية، فكل ما هو متوفر لدى الجهات الخارجية، أغلفة دعم مالي محدودة لمؤتمرات أو ورشات عمل أو برامج متواضعة لجمعيات غير حكومية. وعلى الرغم من أهمية هذه الأنشطة والفعاليات للمشروع الديمقراطي والإصلاحي العربي، إلا أنها تظل في فعاليتها على أرض الواقع أقل بكثير من سلطة الفضائية.
وإن الطموح أيضا، كان أكبر من أن تكون القناة المطلوبة مجرد دكان فضائي يبث لساعات محدودة، مواد إعلامية متواضعة الجودة الفنية، أو مجرد quot;مقهى فضائيquot; يلتقي فيها بعض المثقفين والسياسيين العرب، من المنفيين والمهجرين غالبا، للثرثرة أو الصياح وتبادل الشتائم وتهم التخوين، ولهذا فقد كان الاختيار عدم الانطلاق في العمل إلا إذا توفرت كافة العناصر الضرورية القادرة على المنافسة الجدية في حقل شديد الازدحام، وإلا فمن الأفضل الانتظار، إذ الصورة إما أن تكون جامعة مؤثرة محترفة تحترم المشاهدين، أو أنها ستحول صاحبها إلى مجرد كاريكاتور ومادة للتندر أو الشبهة.
الخلاصة إذا، أن فضائية تحمل تطلعات الليبراليين والإصلاحيين والديمقراطيين، ما تزال ضرورة ملحة يجب العمل على إيجادها، وأن الرأسمال العربي داخل العالم العربي وخارجه ما يزال غير مستعد لتحمل أعباء هذه الفضائية، لخوفه من الأنظمة الحاكمة أو ارتباط مصالحه بها، كما أن الدعم الدولي الأمريكي أو الأوربي لم ولن يبلغ درجة شجاعة تمكنه من احتضان مثل هذه المشاريع، وهو دعم متردد في الغالب، تحكمه تقديرات غير واثقة أو واضحة فيما يجب أن يكون عليه العالم العربي مستقبلا.
أما الحالات التي أتيح للتيار الليبرالي العربي فيها فرصة للمشاركة بفعالية في الحياة السياسية، فقد طغت على حسابات القادة فيها الاعتبارات الوطنية، وهم معذورون كثيرا في ذلك، إذ ما كان لتيار 14 آذار في لبنان، أو التيار الليبرالي العراقي، أن يلعب دورا أكثر فعالية على الصعيد العربي، بحيث تتحول القنوات الفضائية القريبة من الليبراليين العراقيين أو اللبنانيين إلى قنوات فضائية عربية بالمعنى الشامل للكلمة..وعموما، فإنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.

كاتب تونسي