العراق بالنسبة إليك، حديثٌ مترَفٌ تتسلى به وتقضي وقتك في جلسة استرخاء عابرة.. وبالنسبة لي، جرحٌ غائرٌ في الأعماق يقتلني كل يوم وأعرف تماما تفاصيله الصعبة أمس واليوم وما سيحدث غدا.
أنت سائحٌ في الحديث عن العراق وما يجري فيه، وأنا مقيمٌ في أحزانه التي تجاوزت حدود الاحتمال، ليس لأنني إبنه وإنما لأنه أبٌ لا يعرف أبناءه!
أنت تقول كلمتك عابرا دون أن تدرك أبعادها التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية، وأنا أجاملك وأسكت أحيانا، وأحيانا أقول كلاما مبسطا لكي أنهي مابدأته حتى لاأضعك في دائرة المشهد الحقيقي لأنني أعرف تماما أنك لاتريد ذلك أصلا بل ولاتستطيع استيعاب الحقيقة لو شرحتها لك آلاف المرات وعلى مدى ألف ليلة وليلة..
أنت مثل أي مذيع في الفضائيات العربية، يتناول المحاور من رفوف الإعداد السطحي ويدخل الى الاستديو ليقسم المناطق كما يشاء، ويسمي الفئات كما يشاء وحين تنتهي الساعة المحددة لوقت البرنامج يقول هاقد وصلنا الى الختام شكرا لكم والى اللقاء.. وأنا لاأحد أقول له شكرا، ولا أعرف كلمة الى اللقاء مع العراق في الليل والنهار وفي الشارع والمائدة وفي الأمس الذي لم أذق فيه طعم البلاد وفي الآن الذي يخيفني حد الجنون.. فأنت تقول كلمتك وتضحك، تنخرط في ضحك متواصل حول أمر آخر وقد تعلم، أو لا تعلم أنني أبقى أشرب من الكأس المرة، في دوامة التساؤل والخوف...
أنت لاتخاف من شيء حولك، لأنك لاتعرف ذلك العمق العجيب، الغارق في الطين، غير المطل على بحر، الملتبس حد الموت اليومي والولادة اليومية.. وأنا أخاف، نعم أخاف وأرتعب حد العرق المتصبب مع كل سيارة مفخخة تنفجر في مصيري الغامض، ومع كل نشرة أخبار ملطخة بالدم العراقي، وكل عنوان يتصدر الصفحة الأولى بطريقة ملتوية..
ومع أنني أحترمك، وأحسن الظن بك، لكنني أشم في حديثك أحيانا رائحة ليست طيبة، ومع ذلك لاأضع يدي على أنفي، بل أشمها كاملة حتى لاتشعر بأني ضدك ولا أرغب أن أضع على كلام الآخرين شروطا، لكنك لا تملك ميزانا عادلا لأنك لست صاحب الذهب لتعرف قيمة وزنه وطريقة التعامل معه..
أنت جاهزٌ دائما للحديث عن العراق دون أن تقرأ كتابا واحدا عن تاريخه، ودون أن تعرف التموجات الهائلة في الحياة العراقية أمس واليوم، ودون أن تعرف كيف دخل الجيش العراقي إلى عبادان وخرج منها، وكيف دخل إلى الكويت وخرج منها، ومن هم عشائر النجف والموصل والرمادي ( مثلا ) وأين تقع السماوة؟ وما هي ظروف التواجد الأميركي في العراق وما الذي حدث قبل أن يحدث ذلك؟ ومن هم الأكراد؟ إنك تعرف ما يعرفه أي عابر يجلس بعض الوقت أمام التلفزيون وسط أطباق الفاكهة ومعطيات الحياة المترفة.. وأنا أعرف كل ذلك وألعنه، وأبكي، وأسافر في روحي بحثا عن سنتمتر واحد لأمل أو مطار عراقي وليكن ربع مطار بلدك..
أنت لا تشعر بالخسارة! الخسارة المرة التي أشعر بها أنا وأعيشها في كل لحظة منذ المليارات التي ذهبت أدراج رياح النووي المزعوم، إلى المليارات التي ذهبت أدراج حرب الـ 1200 كيلو متر على الحدود مع إيران، إلى المليارات التي ذهبت أدراج طريق الموت بين الكويت والبصرة، إلى المليارات التي ذهبت أدراج جيوب الهاربين إلى الخارج، إلى المليارات التي تذهب وستذهب أدراج جيوب القادمين من الخارج.. لكن في الكفة الأخرى من الخسارة ثمة روح لاتقدر بالمليارات هي الأخرى ذهبت وتذهب اليوم أدراج التكالب العجيب على الضحية..
لو خمس سيارات مفخخات ( لا سمح الله ) في بلاد أخرى، لو خبزٌ معجون ببرادة الحديد، لو حصارٌ لشهر واحد، لو جواهري واحد أو بياتي واحد يموت خارج بلاده منفيا، لو حربٌ واحدة، لو حسرة واحدة من حسرات العراق في بلاد أخرى.. ما الذي سيحدث؟ أنت أيها الصديق تلتقط اللحظة من العراق، وأنا كله بثقله الخرافي أحمله على كتفي، ألم ترني محني الظهر؟ إنك لاتراني لأنك منشغلٌ بعاطفتك الطائفية! وأذكر مرة ً كنا معا نشاهد نشرة الأخبار والمذيع يتحدث عن سقوط عشرات القتلى إثر انفجار سيارة مفخخة، ولاحظتك مهتما إلى درجة الوثوب عن مقعدك، ثم حين أكمل المذيع الخبر رجعت إلى استرخائك متنفسا الصعداء بعد أن عرفت أن القتلى ليسوا من طائفتك! يا الله.. حزنت ساعتها على هؤلاء الضحايا من العجائز البسطاء الذين يحملون أكياسهم المتسخة في سوق شعبي يجمعون أشلاء الخضار، وإذ بأشلائهم تتطاير، والتفت إليك : ياصديقي هؤلاء بشر، فرددت علي إنهم ليسوا من طائفتنا! حسنا وماذا يعني؟ قلت لي إنهم ليسوا عراقيين! ثم ماذا؟ قلت أيضا إنهم ليسوا عربا! حسنا هل عندك شيء آخر؟ قلت إنهم ليسوا مسلمين!
هل تعلم أيها الصديق؟ إنك وحدك لاتخيفني بحديثك هذا، لكنني أعلم أنك ابن مكان وبيئة وثقافة وتسلسل زمني وطبيعة فكرية، وهذا هو الذي يخيفني أكثر منك فردا! إنك تعبيرٌ عن آخرين، فهناك فعل وهنا رأيٌ إيجابي بالفعل وتكتمل الدائرة! لكن ومع ذلك سوف أقول إنك وحدك تمثل نفسك لاغير، وسوف أقول أيضا إن أهلك ربما لايرتضون لك هذا الموقف، وأكيد ثمة نساء في بيتك يبكين لهذا المشهد غير الانساني، وثمة أخوان لك يأسفون لمنظر الضحايا الجاثمين على الطين في عراء الموت، وأقول أيضا إنك في ضميرك لاتتمنى أن ترى عزيزا لك في مثل هذا المشهد الدموي، وسوف أراهن أيضا على إنسانيتك الدفينة.. ولا أشك في ذلك.
أنت تحب العراق، وتقول دائما إنه عمقنا العربي، ولكن تتمنى أن يتطهر من الذين لا تحبهم! أي تتمنى أن تقع حرب أهلية هناك، لكن دلني أيها الصديق على حرب أهلية في التاريخ ربح فيها طرف على آخر! لماذا أيها الجميل تقبل أن تنجرف إلى هذا المنحدر؟ وتنسى أنك إنسان، أنا شخصيا لا أقبل لك ذلك.. وأرجوك أن تنتبه..
لقدعرفتك منذ سنوات طويلة، منذ أكثر من عشرين سنة، ولم أعهدك هكذا، ربما لأن ما طفا على مستنقع الإعلام اليوم لم يكن هكذا، لكن صدمتي بك أكبر من صدمتي بما حدث ويحدث، فنحن ـ كما كنت أظن ـ متفقان على روحية عالية في التعامل مع الفكر وحرية الانتماء والتعددية وعدم الانحياز الأعمى فكيف تحولت وما الذي جعلك فجأة تحزن لمقتل هذا وتفرح لمقتل ذاك؟! أليس القتل أمرا بشعا في كل مكان وكل ظرف؟
أستطيع أيها الصديق أن أنسحب من صداقتك، وأن أتحاشى لقاءك، لكنني أبدا لا أستطيع أن أنساك...
التعليقات