منذ تم الإعلان عن اتفاق مكة برعاية العاهل السعودي، والموقف الأمريكي منها غير مريح، بل باعث على الريبة والخوف. وقد تسرّبت أنباء في الأيام الثلاثة الأخيرة، تفيد بأنّ السفير الأمريكي في تل أبيب، أخبر الرئيس الفلسطيني، في اجتماع خاص معه برام الله، بأنّ الإدارة الأمريكية ترفض هذا الاتفاق، وأبعد من ذلك : هي عاتبة وغاضبة على أبو مازن. فهذه الإدارة ترى أنّ الأخير، ومعه حركة فتح، قدّما تنازلات كبيرة لحماس، أنقذت حكومتها من ورطة الحصار والأفق المسدود. وللأسف، فقد تأكّدنا من صحة هذه التسريبات، وفوق ذلك : قيل لنا بأنّ الرئيس بوش، يشدد من موقفه، إلى درجة التفكير في مقاطعة الحكومة العتيدة، ومواصلة فرض الحصار الظالم عليها بكامل طاقمها الوزاري، بمن فيهم وزراء فتح الستة. الأمر الذي يعني، فيما لو تحقق، أننا أمام سنوات أخرى طويلة من العذاب والبؤس ومناطحة جبل الفولاذ. فأمريكا هي سيدة العالم، وأمريكا ما زالت مصرّة، حتى بعد تحقيق هذا الاتفاق التاريخي، على رؤية القضية الفلسطينية والفلسطينيين ومأساتهم، بعيون اليمين الإسرائيلي : من أولمرت ونتنياهو، وصولاً ربما إلى تطرف ليبرمان! فماذا يعني هذا لنا نحن الفلسطينيين ؟ يعني أنّ علينا ومنذ هذه اللحظة، أن نتوّحد، ونستمرّ في توحدنا، وأن نظهر أمام كل العالم متوحدين متفقين، مجتمعين مجمعين على موقف سياسي واحد، خصوصاً في القضايا والشئون الجوهرية والمصيرية، كمفاوضات الحل النهائي واللاجئين وإقامة الدولة على حدود الرابع من حزيران. فبذلك وبذلك فقط، يمكن لنا أن نفتح ثغرة بل ثغرات في جدار الرفض الأمريكي، فنحن بعد هذا الاتفاق، غيرنا قبله. إذ تقف معنا الآن، وتؤيد حكومة الوحدة، معظمُ دول أوروبا، وهيئة الأمم المتحدة، وروسيا والصين، إضافة إلى العالمين العربي والإسلامي، وعشرات الدول الأخرى، باستثناء أمريكا وإسرائيل. بمعنى أنّ الشرط الذي تضعه أمريكا ومن خلفها إسرائيل [ شرط أن تعترف الحكومة القادمة بشروط ومبادئ الرباعية الدولية كسبيل وحيد لفكّ الحصار عن الشعب الفلسطيني ] هو عملياً شرط مكسور وغير متحقق، كون ثلاثة أطراف من هذه الرباعية، هم روسيا وأوروبا والأمم المتحدة، مع هذا الاتفاق، إما صراحة أو على نحو موارب وخجول! لكن هذا الحال، لا يعني ترك الجبهة الأمريكية، فأمريكا هي سيدة العالم كما هو واقع الحال، لذلك علينا جميعاً، شعباً ورئيساً وحكومةً قادمة، أن نطلب مساعدة الأشقاء العرب، وعلى رأسهم العاهل السعودي، والرئيس المصري، والملك الأردني، لتليين موقف أمريكا، وجعلها تقبل بما اختاره وأجمع عليه الشعب الفلسطيني بمختلف ألوانه وقواه السياسية والمجتمعية. فهذه هي المرة الأولى في تاريخنا الحديث، التي ننجح فيها بتشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية جامعة، على هذا النحو الواسع والمانع، حيث في الحكومات العشر السابقة، كان الوزراء كلهم تقريباً من فصيل سياسي واحد، وإن دخل الوزارة وزيرٌ من فصيل آخر، فهو الاستثناء الرمزي، لزوم الديكور ليس إلا. أما الآن، فسوف تكون لنا حكومة وحدة قولاً وفعلاً، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير، دفعنا ثمنه من دماء أولادنا، ومن قوت عيالنا. ولسنا في وارد تقديم تنازلات أبعد، فقد فرغت جعبتنا!
غير أنّ ما سبق لا يعفينا من التفكير الجدي في موقف أمريكا مرة أخرى. فثمة خشية من أن تتعامل الإدارة الأمريكية، في الاحتمال الأفضل، مع جميع الوزراء القادمين مستثنية وزراء حماس. ما يعني أننا أمام احتمال جدي لوجود حكومتين داخل الحكومة الواحدة. حكومة مرفوع عنها الحصار بشقيه المالي والسياسي، وحكومة من وزراء حماس ممنوعة من السفر ومن الحصول على المساعدات. ما يعيدنا ربما إلى المربع الأول. غير أننا، يتوجب علينا، في حال حدوث ذلك، ألا نرضخ للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، وألا نرجع عما اتفقنا عليه، بل على العكس : أن نتوّحد ونسمرّ في وحدتنا، وأن نخاطب العالم كله بلغة واحدة، عقلانية، تفضح حقيقة الموقف الأمريكي والإسرائيلي، سياسياً وأخلاقياً، وتوضح للعالم بأننا قدمنا أقصى ما نستطيع، وعلى العالم بالمقابل، بما فيه هاتان الدولتان، أنّ يقدّم لنا ما يتوجب عليه تقديمه، سياسياً وأخلاقياً أيضاً، فيفتح أمامنا أفق الحل النهائي، ويرفع عنا الحصار المالي. فنحن طلاب حق، وأصحاب قضية عادلة، وقد آن الأوان لطيّ صفحة الاحتلال، والعيش بسلام في دولة مستقلة مسالمة، تتمتع بالسيادة، وبمقومات التطور الاقتصادي.
لقد فرحنا وابتهجنا ليلة أمس، كأشد ما يكون الفرح والبهجة، حين أعلن السيد الرئيس ومعه السيد رئيس الوزراء، عن تنفيذ اتفاق مكة، واستقالة الحكومة العاشرة والبدء بتشكيل الحكومة الحادية عشرة : حكومة الوحدة الوطنية والإجماع الوطني. فقبل ذلك سمعنا بوجود خلافات ما بين فتح وحماس، فخشينا، وبناء على تجارب قريبة محبطة، من ألا ترى هذه الحكومة النور. خصوصاً وأنّ ثمة قوى في الداخل والخارج، ليس من مصلحتها ولادة هذه الحكومة. لكن خطاب أبو مازن وهنية، قطع الشك باليقين، وأثلج صدور كل أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. هذا الشعب الذي تابع باهتمام شديد وقائع المؤتمر الصحفي للرئيسيْن، وحينها حينها فقط تنفس الصعداء. ذلك أنّ أي خلاف بين فتح وحماس، كان يمكن له أن يعيدنا إلى الأيام السوداء التي لا نرغب في عودتها. وذلك أنّ أي خلاف بين فتح وحماس، بعد الذي جرى، يعني في عقل ومخيال المواطن الفلسطيني، شيئاً واحداً فقط : نشوب حرب أهلية بين سكان البيت الواحد.
لقد تحقق الحلم أو جزء كبير منه. لكن أمامنا وأمام الحكومة العتيدة أشواط وأشواط، وعقبات وعقبات، بل أمامها التحدي الأكبر وهو الخروج إلى العالم برؤية سياسية متوافقة منسجمة، تطلب المعقول والمقبول، أي دولة في حدود الرابع من حزيران، ولا تقترب من طلب المستحيل. فيكفينا ما دفعناه من وراء الشعارات العاطفية، ويكفينا ما عانيناه وما زلنا نعانيه منذ نحو الستين عاماً.
ستظهر خلافات داخلية في المستقبل، على الأرجح. وهذا حال كل حكومة وحدة وطنية مشكّلة من عدة قوى. يحدث هذا في كل دول العالم، ويحدث في إسرائيل جارتنا. فعلينا أن نتجاوز خلافاتنا بالحوار وبالحوار، كما يفعلون. أما التحديات الخارجية الكبيرة التي سنواجهها في المستقبل، سواء من قبل أمريكا أو إسرائيل، فأظنّ أنّ بإمكاننا، لو خلصت النوايا وتوفرت الإرادات، ولو وقفنا أمام العالم ككتلة واحدة، وغلّبنا الوطني على الفصائلي، أظنّ بإمكاننا أن نواجهها ونتجاوز الجزء الأكبر منها، فأمريكا، ليست في الأخير، هي كل العالم، حتى وإن كانت سيدته الآن، وإسرائيل ليست رباً يأمر فيطاع إلى الأبد...

مبروك للشعب الفلسطيني حكومته القادمة.
ومبروك علينا خروجنا من عنق الزجاجة السوداء.