ثمة أمور عجيبة ومريبة تجري و تدور أمام العيون المترقبة تفصح عن مكونات لعبة سياسية غامضة تدور في منطقة الشرق الأوسط تحمل من عناصر المغامرة و الغموض و التناقض ما يجعل المراقب المحايد في حيرة من أمره وهو يتابع سلسلة الحلقات المتناقضة وقد شكلت مشهدا سورياليا غريبا يعبر خير تعبير عن فوضوية المرحلة وعدميتها!!،ولعل تحركات بقايا عناصر و حلقات و رجال نظام البعث العراقي البائد النافق في اليمن السعيد هي واحدة من تلك الألغاز غير المفهومة للمواطن العربي،فالبعث العراقي أو بالأصح بقاياه يمتلك في اليمن حرية حركية لا سابق لها و العديد من قياداته السابقة في مستوى الصف الثاني أو الثالث لا يخفي تحركاته و يفصح عنها في بياناته الدائمة كالمدعو صلاح المختار الذي كان سفيرا للنظام العراقي البائد في الهند،لا بل أن بعض الأنباء تؤكد وجود المدعو ( عزة الدوري ) أبو الثلج نائب الرئيس السابق و الذي وضعت القوات الأميركية مبلغا خرافيا يتجاوز ال25 مليون دولار لرأسه في اليمن وحضوره حفل التأبين الذي أقيم هناك على روح زعيمهم المشنوق!!!،و لا نعلم بعد ذلك سر هذه التوليفة العجيبة رغم أن نظام اليمن من الأنظمة المتعاونة مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب الدولي! و رغم أن اليمن ذاتها كانت مسرحا لأهم الأفعال الإرهابية مثل تفجير المدمرة كول ومثل إنتشار الجماعات السلفية المسلحة و التكفيرية،ومثل ما هو سائد حاليا من صراع دموي شرس بين السلطة المركزية و جماعة السيد الحوثي وهو صراع ذو أبعاد طائفية وكلف الدولة و الشعب اليمني خسائر كبيرة إضافة لما يمثله من حالة إستنزافية كبرى لا تخطيء العين الخبيرة قراءة دلالاتها و أبعادها المنظورة و غير المنظورة.
الوجود البعثي في اليمن قد بات اليوم من الحقائق الميدانية و يبدو أن لصمت الإدارة الأميركية حول هذا الملف أسرار و مغاليق ذات صلة بأمور و تفاهمات سرية لا يعلم عنها الرأي العام المحلي الشيء الكثير!،فما قد يبدو لنا مستهجنا وغريبا لا يبدو كذلك في عيون بعض الدوائر الدولية المختصة.

جذور عميقة لعلاقات قديمة!.
ليس سرا بالمرة القول من أن العلاقات التي كانت تربط نظام العقيد علي عبد الله صالح بنظام الرئيس العراقي المشنوق السابق صدام حسين كانت من أوثق العلاقات الخاصة و الخاصة جدا!،وكانت لنظام اليمن في عقل و تفكير النظام العراقي السابق مكانة متميزة لا تدانيها أي علاقة مع أي نظام عربي آخر!،فمن المعروف عن النظام السابق في العراق أن علاقاته كانت متوترة بجميع دول الجوار الملاصق أو الأبعد وحتى العلاقات التي كانت قائمة مع الأردن كانت ذات أبعاد محدودة لا تتجاوز المصالح العامة بين دولتين متجاورتين و شابتها العديد من عناصر التوتر بسبب وجود أطراف فاعلة للمعارضة العراقية على الأراضي الأردنية و بسبب خلفيات النزاع العائلي في البيت العراقي الحاكم وقتئذ أيام هروب ثم عودة حسين كامل،أما مع اليمن فقد كان الوضع مختلف بالمرة لأن التفكير الستراتيجي للنظام السابق كان يعتبر اليمن بمثابة البوابة الجنوبية المهمة لدول الخليج و الجزيرة العربية مع كل ما يعنيه هذا الوضع من حسابات تكتيكية و أدوات ضغط سياسية،و لعل موقف اليمن من غزو الكويت وهو موقف تاريخي لا ينسى في دعم نظام صدام يظل واحدا من أهم محاور تلك العلاقة الخاصة التي نسجت بين نظامين تشابها تكوينيا في ملامح عديدة على صعيد تشكيل و تكوين بعض المؤسسات كالحرس الجمهوري مثلا أو في التركيبة العشائرية و العائلية للنظام.كما أن اليمن كانت أحد أطراف المربع الذهبي السابق فيما كان يسمى بمجلس التعاون العربي الذي ولد ولادة قيصرية و كان المولود مشوها سرعان ما أجهزت عليه مغامرة نظام صدام في غزو الكويت لينتهي ذلك المشروع قبل أن يبدأ بل ليمحى حتى من الذاكرة العربية المزدحمة بالأحداث و التحولات و تقلب المواقف و الصداقات و العداوات! فمن من الشعب العربي يتذكر اليوم قصة و حكاية ذلك المجلس الذي أهيل التراب على كل متعلقاته و ذكرياته و حواشيه...إنها سياسة العبث العربية التي لم تنتج سوى الأوهام.

قادسية صدام...و الدور اليمني؟
لعل نمو العلاقة بين نظام اليمن و نظام صدام البائد قد بدأت خيوطها الأولى مع مؤتمر قمة بغداد أواخر عام 1978 و الذي عزل مصر عن العالم العربي وسرعان ما تعززت تلك العلاقة مع هيمنة صدام حسين على مقاليد السلطة في العراق بعد الإنقلاب الداخلي الدموي الذي أقدم عليه صدام و جناحه في حزب البعث في تموز/ يوليو 1979 و الذي أبعد الرئيس السابق البكر مع مجموعة مهمة من أعضاء القيادتين القطرية و القومية لحزب البعث تم إعدام غالبيتهم و منهم زعامات تاريخية في الحزب من أمثال عبد الخالق السامرائي الذي أعدم عام 1979 رغم أنه معتقل منذ عام 1973 في سجن المخابرات في عمارة الحياة!! و أتهم بمحاولة قلب نظام الحكم رغم أنه في السجن المحكم منذ أكثر من ستة أعوام سابقات!! هذه الجريمة لا يتذكرها السلف الطالح من بقايا البعث النافق اليوم وهم يدافعون عن نظامهم المباد بقادته الفاشيين و المجرمين الذين أولغوا بدماء رفاقهم قبل دماء الشعب العراقي الذي ورطوه في حروب عبثية لا ناقة لهم فيها و لا جمل! كما كان الموت كمدا مصير عضو القيادة القومية الأردني منيف الرزاز في ظل صمت و جبن قيادة عفلق و العيسمي و غيرهم من خراف البعث التاريخية الصامتة،مع وصول صدام لقمة التسلط و سيطرته المطلقة على العراق قام بصياغة تحالفاته الداخلية و الإقليمية و ركز على دول الخليج و الجزيرة العربية و خصوصا اليمن كما قدم مشاريع عمل قومية تمويهية مثل ميثاق العمل القومي الذي أعلنه في الثامن من شباط/ فبراير 1980 و كانت أهم بنوده هي تحريم اللجوء للسلاح في حل الخلافات العربية/ العربية!! رغم أنه و يالسخرية الأقدار كان النظام الوحيد الذي إخترق ميثاقه في غزوته الكويتية بعد عشرة أعوام عجاف على ذلك التعهد القومي المزيف ليؤسس لفتنة قومية كبرى لم تنته إشكالياتها حتى اليوم!،وكان دعم فروع البعث في بلدان المنطقة هي واحدة من أهم إهتمامات النظام العراقي و لفرع الحزب في اليمن الذي يقوده عضو القيادة القومية اليمني قاسم سلام دور مركزي في توجهات تلكم الأيام التي كانت أزهى أيام نظام البعث المباد فالإحتياطي المالي الضخم الذي تجاوز 37 مليار دولار،و حالة الفراغ القومية التي سببها إبتعاد مصر عن العمل القومي سبب حالة من الإنتفاخ السياسي و الزهو المزيف حتى تصور صدام وقتها من أنه رجل المرحلة و قائدها الهمام،فكان مشروع ( قادسية صدام ) و إعلان الحرب على النظام الإيراني الجديد وقتها تحت ذرائع و مبررات قومية و أمنية كان يمكن حلها سلميا،و لكن الهدف كان أبعد من ذلك و يرتبط أساسا بملفات دولية خاصة و بعقدة ذاتية للنظام العراقي نتيجة لتنازله عن نصف شط العرب لنظام الشاه الإيراني في آذار 1975 و تصوره الواهم من أنه يستطيع غسل عاره و تفريطه بالسيادة العراقية و إسترداد ما فرط به في معركة سريعة و حرب خاطفة على النمط الإسرائيلي المعروف في الحرب الخاطفة!! و لكنه كان الخطأ الكبير في الحسابات و الهفوة القاتلة التي أجهزت على العراق بأسره و كانت تلك الحرب المشؤومة واحدة من أعقد التحولات الستراتيجية في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين بسبب كون وقائعها و نهايتها و دمويتها قد فرشت الطريق لحروب أخرى في المنطقة..وذلك موضوع آخر سنعود لمناقشته فيما بعد.
وقد كان نظام صدام حريصا منذ إعلانه الحرب على إيران في 22/9/1980 على إضفاء الصفة القومية على تلك الحرب بإعتبارها دفاعا عن عروبة الخليج رغم أنه لم يفوضه أحد من العرب للتحدث بإسمهم!! وقد كان الموقف اليمني منها متميزا بقدوم الرئيس اليمني لجبهات القتال بل بفتح المجال للمتطوعين اليمنيين بالمشاركة في جبهات القتال و التورط في أوحال تلك الحرب رغم أن تلك المشاركة كانت رمزية و لم تساهم في تقرير مسار الحرب التي إستمرت لسنوات ثمانية على شكل معارك إستنزاف رهيبة و مكلفة ولكنها رسمت تحالفات و أسست لوقائع و توجهات مستقبلية تبينت نتائجها الفعلية في أزمة غزو النظام العراقي لدولة الكويت عام 1990 وحيث تميز الموقف اليمني بالدفاع عن نظام صدام و الوقوف معه علنا في الأمم المتحدة أو في الجامعة العربية لا بل أن الخلايا المخابراتية لنظام صدام كانت تتخذ من اليمن قاعدة مهمة لتوسيع الحرب الأهلية لتضرب المملكة السعودية و أهداف خليجية أخرى كانت في المخطط السري الذي لم ينشر عنه الكثير،و لكن بسبب الحسم السريع لمغامرة أم المعارك وقيام عاصفة الصحراء بتحرير الكويت لم يتسن للخطط السرية أن تنفذ مطلقا،فمنذ عام 1990 كان العسكريون العراقيون من الخبراء يتوافدون على صنعاء تحت عناوين وظيفية تمويهية كمدرسين و مهندسين للبترول وهؤلاء كانت لهم مساهماتهم في إعادة تنظيم القوات المسلحة اليمنية على الطريقة العراقية و بنى النظام اليمني مؤسسة الحرس الجمهوري اليمني على النمط و النسق العراقي وسلمت قيادة الألوية الرئيسية لعائلة الأحمر و أشقاء الرئيس اليمني كما كان عليه الحال في العراق،كما خصصت للحرس الجمهوري اليمني ميزانية سخية خاصة من عائدات النفط بلغت نسبتها 15%!!!! و بعد قيام الوحدة اليمنية في مايو 1990 تكثف الوجود العراقي السري و العلني في صنعاء و كان البعثيون يلعبون دورا ستراتيجيا في تخريب العلاقة بين قادة الحزب الإشتراكي اليمني في الجنوب و بين أهل الشمال،كما دخلت المخابرات العراقية على خط التيارات السلفية المقاتلة في اليمن مكونة معها العلاقات و التحالفات و دعم معسكرات تدريب ( الأفغان العرب في اليمن ) في صنعاء و صعدة و كان الهدف إزاحة الحزب الإشتراكي اليمني الخصم التاريخي للبعث العراقي و في حوزة المعتقل حاليا ( طارق عزيز ) معلومات في غاية الأهمية عن ذلك التحالف و خيوطه و كل أسراره و لا أدري لماذا الصمت وعدم إستثمار المعلومات التي بحوزة المتبقين من قيادات النظام العراقي البائد!!؟ فطارق عزيز كان مسؤولا عن ملف التحالفات في اليمن وفي المغرب العربي كذلك؟ و عندما جاءت حرب الشمال و الجنوب في صيف 1994 قدم نظام صدام رغم الحصار المفروض عليه مساعدات لوجستية مهمة لدعم الشمال اليمني بالتعاون مع مافيات السلاح في روسيا و أوروبا الشرقية و أنشئت في بغداد غرفة عمليات خاصة لتأمين إحتياجيات صنعاء من الميزانية السرية العراقية و ساهم كل من حسين كامل و برزان التكريتي بأدوار مهمة في توفير السلاح للنظام اليمني و كان هنالك وقتها أكثر من 100 خبير عسكري عراقي في صفوف الجيش اليمني و طواقم كاملة من الطيارين و طواقم و خطط حرب الدبابات هذا غير عملية شراء الولاءات القبلية في اليمن و الدور التعبوي الذي لعبه البعثيون اليمنيون في هذا المجال،لذلك فإن لعلاقات النظام اليمني بالنظام العراقي البائد محاور ستراتيجية و مصيرية لا تنفصل حاليا عن ملف الوجود القياديين البعثيين السابقين تحت الحماية اليمنية و لا تنفصل أيضا عن تحرك الجماعات السلفية اليمنية وغيرها في الأعمال الإرهابية في العراق فقائمة الحساب بين النظامين تظل واحدة من أهم الأسرار في الشرق العربي الحافل بكل ما هو مثير و متناقض...و قديما قيل..إذا عرف السبب...بطل العجب...؟
[email protected]