خُلقنا على أشكالنا وصورنا وألسننا وانتماءاتنا القومية والمناطقية، ولم يكن لنا أي اختيار في ذلك. فتحنا أعيننا وكلّ منا وجد نفسه في أحضان أبوين معينين، ولسان معيّن. إذن العائلة والقومية واللسان والوطن إنما هبة من الله لكل واحد منا، ولسن تفضيلا، اخترناهن وفقاً لأهوائنا وأمزجتنا. ومن هنا فلا فضل لقوم على آخر حتى يتباهى أحدٌ منا، كونه من قوم عُلوي إزاء قوم آخر سفلي.
التفضيل في الدين للإنسان الأكثر تقوى. أي الذي يتقي الشر والذنوب والظلم، وهكذا يتقرب من الله ويعلو مقامه. لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلّا بالتقوى. وفي مواثيق حقوق الإنسان ودساتير الدول والفلسفات، خُتمت دون رجعة المسلّمة الواضحة في مساواة الإنسان مع أخيه الإنسان بغض النظر عن الجنس واللون والدين.

الانتماء القومي، وما يندرج ضمن ذلك من نضال وكفاح من أجل التحرر، يزهو ويتكامل بشرط لا مندوحة منه البتة، ألا وهو مبدأ العدالة. ومما يتفق عليه بين البشر أن الدائرة القومية أعم وأشمل وأكثر تطوراً من الدائرة العشائرية والقبلية.
إذن الوطن للجميع دون فوارق، فضلا عن الموارد والخيرات. والقومية هي الرابطة الثقافية بين الأفراد لفتح الآفاق معرفيا أمامهم في مضمار الحياة نحو المزيد من السعادة والتقدم. والحال فان أهمية الوطن تكمن في كونه أرضية الحياة ومصدرها. والقومية هي الماكنة التي تعمل فيه وعليه، أي الوطن. ومن هنا تتجسد قيمتهما، وليسا كونهما وثنين يُعبدان ويتحولان إلى مركزي حقد وكراهية وظلم وفقر.
بعيداً عن هذه المنطقة، وعلى بعد آلاف الأميال تقع جزيرة أستراليا، حاضنة لأكثر من 250 قوما ومّلة، تركوا بلادهم وأوطانهم باحثين عن الكرامة والأمن والخبز.

في أستراليا الجميع يريد أن يكون أسترالياً. وحين يُسال الواحد عن أصله وانتمائه القومي فان الانزعاج يبدو ظاهراً على مُحيّاه. ليس يحدث ذلك بضغط من الدولة والمسؤولين. فالقوميات أحرار أن تمارس لغتها، وتراثها، وتتمتع بطرائق عيشها وفقاً لأهوائها وأمزجتها.
السرّ في ذلك أن هذه الدولة تحافظ قدر الإمكان على مبدأ العدالة الإنسانية. وتحاول الحكومة أن تكون للجميع في شفافية ملموسة، وشفقة أبوية بأفرادها ومواطنيها. هذا الواقع نابع من احترام ذات الإنسان وكينونته. فالإنسان عظيم، هذا هو المبدأ المعمول به هناك، ودعك عن الماضي فنحن نعيش ليومنا بخبر، ونسعى جاهدين لمستقبل أفضل وأبهى من حاضرنا.

ليس هناك شيء أثمن من الحياة للإنسان. فكلاهما مندمجان، لا يقوم الواحد إلّا بالآخر.
وسرّ سعادة الفرد في أستراليا وفي عموم بلاد الغرب، أن هاتين الكينونتين مصونتان إلى حدّ ( التقديس). ومن هنا فالأفراد مستوون بغض النظر عن وظائفهم ومستوياتهم وانتماءاتهم. وعلى هذا الأساس فالوطن للجميع، والثروة للجميع توزّع بالقسطاس. وهكذا فإن القومية تزهو وتنمو وتتقدم. هذا هو المحتوى المعاصر لكينونة القومية.

في مقالات سابقة تناولت إلى حد ما البنية التكوينية للمكون الكُردي، على الصعيد الاجتماعي والقومي والثقافي والسياسي. لنتحدث قليلاً عن الجاذبية بين قطبي الحكم في بلادنا، أي العشيرة والحزب داخل المنظومة القومية.
في كُردستان العشيرة هي المركز وهي المحور. منزلة العشيرة في السياسة والحكم كمنزلة القطب من الرحى. مصلحة العشيرة تعني (المصلحة القومية) والعكس ليس صحيحاً. فمصالح بني الكُرد نزلت مراتب تُربك الموازين والمقاييس في عجز لا يُحتمل ولا يُصرف. إلّا أن العشيرة على مرمى من البؤس العام تعيش على أفخر ما تكون وعلى أكبر رخاء معلوم.
في النظام العشائري تضيق الدوائر إلى أصغر وأصغر، تنتهي بالقائد الأعلى الذي تعلو مصلحته مصالح الآخرين الذين يدنون منه، حتى يبلغ الأمر آخر إنسان هائم في هوامش الوطن المعتصر لشهوة الزعيم وحاشيته. والإنسان الأخير القابع في الزاوية الميتة في هامش الوطن المتكسر، لا حول له ولا مال ولا حقوق.

أما في الدائرة القومية/الوطنية السليمة فإن التكوين عبارة عن شبكة منسجمة لا يُهمّش فيها دور أي إنسان وقيمته. والدائرة تبدأ من أيّ واحد منهم وتنتهي إليه في أخذ وعطاء مستمرين.
العشيرة في كردستان نمط شامل، ولها الحضور الدائم والأقوى في السياسة، الثقافة، والاقتصاد بل وقطاع التربية والتعليم الذي لم يسلم أيضاً من تدخل العشيرة وتسخيره وفقاً لمزاجها وهواها. هذا الحضور إلزامي إرغاماً لمن جحد بالعشيرة وكفر.
وفي هذه الحال فليس لسلطة العشيرة وصلاحياتها حدود، تُلزمها الاستيقاف والمساءلة. فرئيس العشيرة رئيس الكلّ. وأبناءه، إخوانه، أبناء إخوانه، أعمامه، أبناء أعمامه و آخرون، حسب التسلسل النسبي زعماء، ووزراء، وأمراء. ولأيّ فرد من هؤلاء أن يقيم ويُقعد ويضرب ويهين من يشاء من أفراد المجتمع. ولهم ما يشاءون من الأموال والأملاك والنساء ( الجواري الحديثة ).

الإعلام لا يعرّف بنا هؤلاء كما هم، بل كما يريدون: أبطالاً قوميين، وسياسيين وطنيين مرموقين. وهكذا حجزوا كلّ مفاتيح الحياة والبلاد في أياديهم. ومن يرفض فعليه أن يختار بين ترك البلاد أو الاغتيال والقتل تعذيباً ( تقرير الوزارة الخارجية الأمريكية هذا العام، يؤكد القتل والتعذيب [قلع الأظافر والصعق الكهربائي] والإعتداء الجنسي على الناس في السجون الكُردية. نشرت اسبوعية (آوينه) هذا التقرير في 13/3/2007 ).
الرزق في ما يُسمى بــ (السوق الحرة)، أصبح في يد أولئك الذين يديرون دفة الأبواب والفصول وفي أياديهم المفاتيح. فالمثقفون عليهم أن يختاروا بين الموالاة فالعيش، أو القهر والعذاب والموت.

السوق الحرة، من الآن، أوجدت سوقاً لشراء العبيد للعشيرة / الحزب. لا يمكن مساءلة ثروات العشيرة والحساب الشخصي لأفرادها. فهم فوق القانون، في قانون الفوضى، القائم على قدم وساق في كردستان.
هناك اتفاق مطلق بين شرائح المجتمع الكردي على أن البرلمان ( الذي انتهت ولايته منذ عهد عاد وثمود ) ليس سوى دمية خرساء في يد مراكز القوى المتخلفة والمجرمة. والقضاء يكاد يكون أضعف حلقة في بنيان المجتمع، الذي يفترض قيامه على أسس سليمة، تُمكنه المضي قدماً نحو السلامة والازدهار.

وفق معطيات واقعية أمسى الاستيلاء جوهر المعادلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كردستان. الاستيلاء على الحكم (التحكم برقاب الخلائق)، الاستيلاء على الإعلام، الاستيلاء على الاقتصاد، الاستيلاء على القضاء، الاستيلاء على التجارة، والاستيلاء على القنوات الأخرى الحيوية في حياة الشعب. وقيامة الحزب / العشيرة تمتد من هذا الهلع الكامن في جوهرهما، مترابطين متناغمين، نحو ذلك الهدف الذي استقر في باطن عقلها. هذا الباطن الذي يزود العشيرة بالإرشاد، والمنهج، والصورة عن كيفية وجودها ووجوب التزامها. هذه التوليفة لا علاقة لها البتة بالقومية وأسسها ومصالحها.

لقد بان الهدف على حقيقته، بعدما سقط قناع العشيرة، في أول ترحال من النضال القومي المزعوم نحو تثبيت أركان الحكم. القناع هو الحزب. فالحزب الذي تتستر العشيرة وراءه يبدو اليوم على شفا جرف هار، لا يقوى على الوقوف إلّا على كُرسي العشيرة. إذن الفرد الحزبي كي لا يقع عليه أن يستكثر من حمد العشيرة، وإلّا سقط على قفا ظهره وانقطع عنه الحبل السرّي للحياة. الحياة التي استولت العشيرة عليها عبر الاستيلاءات التي لم تبق شيئاً للناس غير الفراغ.

والحال فان الجوهر الاستبدادي للبعث الذي ركب الموجة القومية العربية، ترسّخ في حزب العشيرة بكردستان، على موجة القومية الكردية.
والنظام القائم على هذا المنوال لا يستمر إلا بالظلم الذي يغلظ ويشتد يوماً بعد آخر. ولكن كمنطق تأريخي فان المنوال نفسه يقضي على النظام من حيث لا يحتسب!
هذا يجري في هلوسة القومية وخزعبلاتها وزيفها وفتنتها التي تعج بها منطقتنا من أقصى الرقعة إلى أدناها.

كم هو عمر أيّ واحد منا؟ أو لنقل كم سنة يعيش الواحد منا على وجه التقريب؟
حياة الإنسان قصيرة. ولو نظر كل واحد منا إلى نفسه لوجد أولويات عظمى تشغله عن الاستغراق المميت في خزعبلات وترهات مريضة تنتشر عبر قناة القومية، وما شابهها من أفكار وهلوسات، دمرت البشر وفتكت بهم، وجعلتهم يكرهون ويقتلون ويبيدون بعضهم بعضا.
إذن لماذا نعيش؟ ليسأل كلّ فرد منا هذا السؤال على نفسه برؤية أوسع وأشمل للحياة والوجود. إنه عبث قاتل ما يجري في بلادنا كلها، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من أحقاد وضغائن وصراعات وقتل وجوع ودمار بين القوميات والطوائف والأعراق، والدول الإقليمية.
العشائر / الأحزاب السرطانية إنما تنمو وتتغذى من عنصرياتنا وعصبياتنا التافهة، ثمّ ندفع بأنفسنا ضرائب جرمنا، ونحصد كل هذه الأهوال التي طحنتنا.
كل واحد منا ينتمي إلى قومية من القوميات. وكل قومية باقة من باقات الأزهار. وكل إنسان زهرة من باقة من جنة من جنان الله على الأرض.
حتى لا نفقد وجودنا وجمالنا، علينا أولاً الشفاء من هذه الأمراض. والمرض الأكبر الذي يفتك بنا اليوم هو آفة التعصب القومي، بل والرضوخ لقومية مزيفة ما هي إلّّّا مطية لنزوات العشيرة التي تتجسد في الزعيم وحاشيته وزمرته.