لم تنم بغداد من وقع اطلاق النيران يوم أمس.. لم يكن طقسا من طقوس الموت اليومي، و لا دورية أمريكية رأت شبحا، و لا فرقة للموت تمر كملك الموت ليلا، أو عصابة قاعدية تزرع الفناء..كانت بغداد تحتفل عفويا كما اعتادت منذ عقود بإطلاق النار في الهواء، فقد فازت شذى..
التحفت العلم العراقي و بكت، فأبكت الجميع و أعادت الى القلوب قبل الأذهان مشاعر جميلة نسيها الكثيرون في خضم الملهاة الدموية التي تحصد المئات يوميا، فذكرتنا بأن هنالك عراق و له علم و به شعب لا يزال جميلا يعشق الفن و الجمال، أو لم يكن أول من صنع الموسيقى و الأدب، كما صنع الدولاب و اليراع؟
لم تنم بغداد، و رقصت اربيل حتى الصباح، و شهقت الحلة فرحا.. إنه العراق الذي لا يموت، و يهرع للتصويت في برنامج تلفزيوني رغم كل هذا الموت، و كل تلك الفاقة، و كل هذه الأحزان، فقدم سبعة ملايين صوت و تأملوا. لم يسأل أحد إن كانت شذى رافضية أم ناصبية و غير ذلك من تسميات هذا العهد الأغبر التي فرضها علينا شذاذ الآفاق في غفلة من الزمن، بل و لم يتساءل احد من أية محافظة هي..عراقية هي، و كفى ذلك شرفا و فخرا و انتماء. أعادت الينا شذى صورة الموهوب هوار أبن كردستان ، الذي ما أن سجل هدفا للعراق في بطولة الخليج حتى رفع فانلته ليقرأ الجميع و الملايين من مشاهدي التلفزيون شعار quot;أنا عراقيquot; المحفور في قلبه قبل أن يكون مكتوبا على قميصه، فأوصل رسالة بليغة إلى من يهمه الأمر.
نسي العراقيون في لحظة من الزمن كل الفتاوى و الخطب المريضة و الوجوه الكالحة القبيحة القادمة من عهود التكايا و السبايا التي تملأ الشاشات ليل نهار، و اتجهوا بالفطرة الحقيقية الوحيدة و هي فطرة حب الحياة إلى عالم قد يكون وهميا من الموسيقى و الجمال و الإبداع، عالم بعيد عن كل انواع الكبت و القسر و القتل التي أدمنوها ليشاركوا عصفورتهم الموهوبة فرحها و انتصارها باسمهم و تحت رايتهم. أنتصر العراقيون للحياة و قيم الفن و الحب و الجمال، قبل ان ينتصروا لابنة بلدهم، التي حملت تلك القيم بأمانة و أناقة. و لا تجد شعبا متحضرا في العالم الا و هو عاشق لكل هذه القيم، لم يشهد قديم التاريخ و حديثه مدنيات ازدهرت بدون الفن و الأدب و الموسيقى و الرسم، و لا يؤرخ للمدنيات الا بتراثها الثقافي و الفكري و العلمي، ومن الصين الى أمريكا، و من أقصى أفريقيا الى شمال أوروبا المتجمد، تعمل الشعوب و تبدع، و لكنها تغني و ترقص ، فلم يصنع فرسان و قتلة حرب طروادة الإلياذة ، بل هي التي صنعتهم، و لم يصنع عنترة بن شداد و لا الهلالي التاريخ، بل صنعهم الحكواتية و الشعراء..
ليس في عراق اللحظة مكان لشذى و أمثلها، فالسكاكين أكثر من العصافير في جمهورية رامسفيلد الإسلامية المعتدلة السخيفة، إلا انها استراحة للزمن، سيعتدل بعدها مزاج الكون وفق تعبير الكبير مظفر النواب، و تعود الشمس لتشرق و الأشجار لتزهر، فللحياة ميزان لا بد و أن يستقيم يوما..
للوطن قيمة نستردها في لحظات الفرح النادرة هذه ، بعد أن نتغافل عنها لشهور أو سنوات أو عقود. قد يسلبها حاكم مستبد أو معمم مخبول ، و لكننا نستعيدها ربما في أغنية، أو في قصيدة، و حتى في مباراة لكرة القدم. تنهار الدول و تسقط الأنظمة و تدور عجلة التاريخ، و لكن الأوطان ليست دولا.. الدولة حالة مادية تتمثل في علم و حدود و جواز سفر و سيادة، و دولتنا علم مختلف عليه و حدود مستباحة و جوازات سفر متهرئة و لا سيادة فيها إلا للعصابات، و لكن الوطن أغنية و قصيدة و صخرة و نهر و نخلة و ذكريات و حالة عشق..
شكرا مرة أخرى لشذى عصفورة الرافدين الجميلة.. شكرا لك لايقاظك كل هذا الكم من المشاعر الجميلة التي راهن الكثيرون على اندثارها لقتل العراق.