واصل الدكتور حسن عبد الله الترابي، الأمين العام للمؤتمر الشعبي المعارض والذي يعتبر من أهم المرجعيات الإسلامية المعاصرة، فتاواه الدينية المثيرة للجدل، وأفتى في ندوة بشمال السودان بعدم شرعية laquo;عقوبة الرجمraquo; في جريمة الزنا للمتزوجين وغيرهم. لكن الترابي الذي ظل خلال العامين الماضيين يفتي في شتى القضايا الدينية متى ما سنحت له الفرصة، قال إن ما يطرحه ليس فتاوى ولكن آراء. واعتبر الترابي أن الرجم من شريعة اليهود، وأن عقوبة الزنى حسب الشريعة الإسلامية هي laquo;الجلد فقطraquo;، وقال إن الرجم لا محل له في الدين الإسلامي، وذكر أن ما طبق منه في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم كان قبل نزول التشريع بشأن الزنى.
في شهر مارس2006 أصدر الدكتور حسن الترابي فتوى نسخت أحكام عدة آيات قرآنية لم تعد متكيفة مع حاجات المسلمين في هذا العصر. و تعتبر هذه الاجتهادات الجريئة استئناسا بالسنة النبوية الكريمة إذا اعتبرنا أن مهمة الرسول(ص) ليست تبليغ الوحي و تفسير النص فقط بل أيضا التدريب على استعمال العقل. وهو ما نستنتجه من الآيات الكريمة يتلو عليكم آياتنا و يزكيكم و يعلمكم الكتاب و الحكمة ( البقرة 151 ) ويعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة والإنجيل (عمران 48 ). تماما كما فعل أبوبكر الصديق(ر) عندما نسخ حق المؤلفة قلوبهم في الزكاة الذي ضمنته لهم دون قيد أو شرط الآية 60 من سورة التوبة. قائلا:quot; لقد قوي الإسلام ولا حاجة لنا فيهمquot; { أنظر تفسير الطبري لهذه الآية}.
وبالمثل نسخ عمر بن الخطاب(ر) وعلي بن أبي طالب(ر) ومعاذ بن جبل (ر)حق المقاتلين في الفيء الذي ضمنته لهم الآية 41 من الأنفال. وعاد الفيء كله إلى بيت مال المسلمين. وعلل الخليفة عمر(ر) نسخ الآية بحق الأجيال القادمة في الأرض المفتوحة قائلا في رسالة لقائد جيوشه في العراق متوجها للمقاتلين:quot; إذا أخذتم هذه الأرض ماذا سيبقى للذين يأتون من بعدكم؟quot;{quot;الخراجquot;،لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ص 18} ونسخ الفقهاء آية:quot;وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوهquot;{ 282، البقرة}، وعللوا ذلك، مثل سابقيهم، تعليلا عقلانيا بخشية ضياع حقوق الناس في الأمصار نظرا لانتشار جهل اللغة العربية فيها، ونسخ الفقيه المغربي الكبير، الونشريسي من فقهاء القرن التاسع الهجري، في كتابه quot;المُغرِب في فتاوى أفريقيا والمغربquot; الحديث الذي حرم الزكاة على آل البيت وصاغ فتواه نظما:quot; والوقت قاضٍ بجواز إعطاء/ آل الرسول من مال الزكاة قسطاً.quot; قائلا لقد حرم النبي (ص)الزكاة عليهم حفظا لكرامتهم، أما الآن وهم يتسولون في الطرقات فالزكاة أحفظ لكرامتهم من التسول. وهكذا اعتمد هذا الفقيه في فتواه كليا على المنهج العقلاني.
بدوره تمرد أخيرا حسن الترابي على فقه القرون الوسطى و قلد المصلح التونسي الطاهر الحداد أبو مجلة الأحوال الشخصية التونسية فنسخ آية quot;للذكر مثل حظ الأنثويينquot; {11، النساء} التي تعطي في الإرث المرأة نصف نصيب الرجل في الميراث فساوى المرأة بالرجل في الميراث. ونسخ أيضا الآية quot; واستشهدوا شاهدين من رجالكم، فأن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتانquot; {282، البقرة}. التي تعتبر المرأة نصف رجل في الشهادة وساوى بين شهادة الرجل والمرأة. ونسخ الآية quot; ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنواquot; {،221 البقرة} التي تحرم على المسلمة الزواج بغير المسلم؛ ونفى الترابي ndash; بعد المستشار العشماوي وجمال البنا ndash; أن يكون الحجاب فرضا على المرأة المسلمة. كما أجاز بعد جمال البنا إمامة المرأة للصلاة.

و نلاحظ أن هذه القراءات النسبية والتاريخية للقرآن الكريم، تطوّع النص للعقل وتقدم مصلحة الناس على النص، معتبرة الآيات القرآنية محكومة بالظروف التاريخية التي تطلبّتها... وهذا ما أسماه الفقهاء quot;علم أسباب النزول quot; كما أنها تجسد القراءة المقاصدية للنص المقدس و فقه الاجتهاد و الحوار و حقوق الإنسان الذي يعتمد أساسا على قراءة رمزية وعقلانية للقران الكريم و يقدم مصلحة الأمة على نصوص تراثها كما فعل الفريق الأكثر صلاحا من السلف الصالح لعلها تجعل منّا امة بين الأمم الراقية تقدم العقل على النقل ومصلحة الإنسان من لحم ودم على عبادة الأسلاف. اعتماد هذه القراءة سيجعل الإسلام قابلا، دون تحفظ أو شعور بالذنب، لجميع قيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية منع التمييز ضد المرأة، واتفاقية حماية الأقليات العرقية و الدينية، وضمان الحريات الدينية للأفراد و المجموعات وحقوق الطفل . و هذه القيم التي أصبحت اليوم بفضل تشكل رأي عام دولي ذات شان و ثقل دوليين و يحسب لها ألف حساب في أروقة البيت الاممي و يمكن أن تستخدم كسلاح فعال يمكن الضغط به على الحكومات المستعصية . و بقطع النظر عن هذه المعايير الدولية فهي أيضا التدابير الكفيلة بمصالحة الإسلام و المسلمين مع عصرهم.

تصريحات الترابي تذكّر بمقال نشره الكاتب السعودي مشاري الزايدي في جريدة quot;الشرق الأوسط quot; ونقله الموقع الليبرالي quot;الشفاف quot; quot; في مارس 2004. وكان المقال بعنوان: quot;بانتظار فقيه شجاعquot;. وجاء فيه هذا المقطع الذي نورده كاملا:
quot; لكن هناك فقيه نموذج لما اتحدث عنه، هو الشيخ الفقيه العظيم محمد أبو زهرة.. يذكر الباحث زهير ظاظا حادثة معبرة للشيخ أبي زهرة حدثت له آخر عمره، وحكى عن الشيخ القرضاوي عند حديثه عن مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء في ليبيا عام (1972)، قوله: laquo;وفي هذه الندوة فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد. وقصة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، ... وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟. هذا الرأي يتعلق بقضية laquo;الرجمraquo; للمحصن في حد الزنى، فرأيي أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور. قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة: الأول: أن الله تعالى قال: laquo;فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذابraquo; (النساء: 25)، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور:laquo;وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنينraquo; (النور 2) والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سئل عن الرجم..هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول الآية في سورة النور التي نسختها. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق، وما أن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيهraquo;.

ويتابع القرضاوي حكايته: laquo;وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟ قلت: جاء في الحديث الصحيح: laquo;البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارةraquo;. قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزيز، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال...raquo;، ثم يخبرنا القرضاوي أن الشيخ أبا زهرة لم تعجبه هذه laquo;التخريجةraquo;. وقال له : يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبد الله الرحمة المهداة يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟...
و مطارحة هذه القضية اليوم لا يعني بالضرورة إيجاد حل سريع لها بل هو طموح إلى استطلاع فكري و تأمل مثمر.

جامعة الزيتونة