quot;حينما تعجز السياسة عن ايجاد الحلول لمشاكل المجتمع، عندها لا بد وأن نعول على الثقافة في ايجاد ماعجزت عنه السياسةquot;..


هذا ما قرأته يوما ما لأحد المفكرين، وللأسف لست متأكدة ان كان هو ميشيل فوكو او سواه لكن القول قد رسخ بذهني منذ زمن..من هنا انطلق بمقالتي هذه عن بحث اسباب بقاء ارتفاع نسب الأمية والجهل حتى استغرق الماضي حياتنا اكثر من الحاضر وبات التأريخ مقدسا بكل شيء وإن كان ظالما، كما تراجعت القيم الحضرية لحساب قيم البداوة وافكار القرون المظلمة، وإدمنتنا الديكتاتوريات بعد ان خدرت شعوبنا واركعتها، وان من أهم اسباب ذلك هو موقف المثقف العربي من الأحداث او المشاكل التي تعصف ببلداننا، المثقف العربي الذي اصبح مشروعه الثقافي ذاتيا بحتا، بعد ان استطاعت المؤسسات التي شكلتها الحكومات العربية والمؤسسات الدائرة في فلكها ان تشتريه وان كان معارضا لها، وأحيانا بدون علمه،او ان صوت المثقف نراه غالبا توفيقيا وبعيدا عن الموقف الجريء القادر على التغيير..

فحينما يكتب البعض بجرأة وباسلوب ناقد للمظاهر المتخلفة في بلداننا العربية وبحرص المريد للتقدم وسعادة الشعوب العربية، نجد الهجوم عليه من قبل الذين يعيشون في قرون مضت ويعتبرون الاخلاق هو الابقاء على نمط الحياة القديمة دون تغيير، هؤلاء الذين لا ينظرون لما يحصل للعالم ويقارنونه بحياتنا العربية البائسة والمتناقضة والمليئة بالقهر والغبن والفساد..
هذا لايعني ان ليس هناك من يشجع النقد وقول الحقيقة وعرض المشاكل بصراحة وجرأة لكنهم قلة مهمشة ويهمشون يوما بعد آخر ليبقى المنتفعون في الصدارة مع الاسف.

ان مراعاة المثقفين لمصلحة تأتيهم من مؤسسة ما، او المحافظة على النشر في زاوية في مجلة او جريدة هنا، وتملق قناة فضائية لاجراء مقابلة معه هناك، جعل من المثقف العربي انسانا بعيدا عن الصدق في طرح وعرض مشاكل المجتمع وايجاد الحلول، وقد تحدثت الى الكثير من المثقفين بهذا الشأن وطالبتهم الكتابة عما يطرحونه في اللقاءات العادية وفيما بينهم، لكنني أجد الخوف من كذا أمر والخوف من فقدان كذا مصلحة والخوف على فلان من الناس، وكان جوابهم الاول هو عدم رغبتهم في اثارة الاحقاد ضدهم من قبل الغالبية الموهومة، او حكومات البلدان العربية التي يسافرون اليها، والكثير من المصالح غير المعلنة احيانا، حتى باتت الثقافة مشروعا تجاريا ذاتيا بحتا ليس له اية علاقة بفكرة الطليعة والنخبة القادرة على الارتقاء بالمجتمع والهادفة للتغيير الفعلي.

فأين منا رواد النهضة الذين كان جل اهتمامهم قول كلمة صدق تفتح خيط نور للغالبية الغارقة بالجهل والوهم والخوف من السلطة ؟
عندما أرى أن مجموعة من المثقفين العرب في بلد ما عقدوا مؤتمرا، او أسسوا جمعية ثقافية، أو مهرجانا دوريا او تنظيما، أعرف مسبقا ماستؤول اليه اعمالهم، وأعرف تماما انهم سوف لن يستطيعوا أن يغيروا من الواقع الثقافي سوى هذه السفرات للمؤتمرات والاجتماعات واللقاءات التي للأسف يتبادلون بها وجهات نظرهم التي لا يطبق منها على ارض الواقع شيء، لأنها لا تطرح فكرة المواجهة، إنما تكرس واقعا موجودا منذا اكثر من الف عام..

ان كل أساليب الحياة تغيرت باالثورة الالكترونية. وأساليب المجتمعات العربية باقية كما هي،ان كانت في تنظيمات الاحزاب التي لم تغير شيئا حتى ولا استطاعت ان تغير قانونا واحدا لصالح مقهور او مظلوم، منذ عشرات السنين، اساليبهم هي هي، مؤتمرات، وكتابة اوراق عمل، واجتماعات، واناس توفيقيين على حساب الحصول على اصوات في المؤتمرات هذه، أو تنظيمات ثقافية تحصل على اموال يذهب نصفها اكثر الاحيان الى جيوب المتنفذين على انعقادها، والممول غالبا غير معروف، او لا يريد الكشف عن اسمه ndash; لا ادري لماذا ؟ - ربما حتى لا يـُعرف وسيط اية جهة هو..
فمن يستطيع الاجابة على معرفة اغلب الممولين للفضائيات العربية أو الصحف والمواقع الالكترونية ؟
ومن يستطيع ان يقول لي اين دور المثقف العربي من تغيير واقعنا في الارهاب وانتشار الجهل والتخلف والفساد، وتحويل الاعلام الى ادوار متطرفة لا تخدم المجتمع باي حال، فأما رقص خليع هدفه الإثارة وأما لحية وعمامة متطرفة..

لابد من التوقف مع كل ما فعله المثقف العربي على مدى عقود لنغير اساليبنا بشكل جذري ونعترف بالفشل والبحث عن اساليب جديدة لتغيير مجتمعاتنا الغافية على واقعها المر الذي ترضى به عجزا وضعفا وانهزاما..
انني عندما اتحدث عن المثقف والرغبة بان يكون اكثر جرأة، فذاك لإيماني بانه قادر على لعب دور بارز يبز به الديكتاتوريات والسلطات التي تصر على بقائها ولو على جثث الشعب.. نعم هو يستطيع ان توحد بصوت واحد بصرخات تملأ الصحف والمجلات والفضائيات.. يستطيع ان يدحر الارهاب حينما يجعل من كتاباته صرخة توقظ النيام..

وحتى اكون موضوعية، فأنا أقدر وضع المثقف الذي تذبحه عجلة الإرهاب يوميا او يقتله التجويع في المجتمعات العربية الجائعة غالبا، لكنني الوم الملايين التي تعيش خارج المجتمعات العربية على الاقل او التي تمتلك القدرة على التحدي والوقوف بوجه الخطأ.. لماذا الصمت ؟
لو احصينا نسبة المثقفين العرب الذين يعيشون خارج بلدانهم لوجدناهم أكثر من المثقفين داخل البلدان العربية، وكلنا يعلم ان quot;بلاد العرب اوطانيquot; تهزم المثقفين وتطردهم خارجا، منذ الدولة العثمانية حتى وقت الرؤساء المزمنين والملوك والسلاطين والامراء الوارثين..
اذن لماذا لايكتب هؤلاء جميعا، المثقفون العرب المتناثرون على سعة خارطة العالم ؟

ان شئنا ان نغير ونتغير فلابد من ان يقول المثقفون- المؤمنون بالديمقراطية والتقدم على الأقل- قولة واحدة في الإرهاب، وفي الامية، التي تنتشر حتى بين صفوف الرؤساء والملوك التي أذهلتنا في مؤتمرات القمة، وفي التزمت والاصولية الظلامية التي تستشري كالنار بالهشيم، وفي مكانة المرأة الفعلية والقوانين الجائرة بحقها كانسان، وفي عدم سماع الرأي الاخر،وفي الفساد المنتشر في جميع الاجهزة والمؤسسات ومنها الاعلام، بل بجميع القضايا التي لا بد من التوقف عندها للارتقاء بالمجتمع، نحن اليوم لسنا من الشعوب السعيدة لنسترخي ونكتب فقط ما يرضي الاخر المتسلط او ما يريده اصحاب المواقع والفضائيات والمجلات والاحزاب، انما لا بد وان نكتب لأن ألانسان العربي بحاجة للوقوف معه، الانسان العربي المستلب، والمذعور من التغيير والقابع بعيدا عن الواقع في زاوية الأوهام والخرافات..

لقد اصبح مشروع المثقف العربي اما طلبا للشهرة او الاسترزاق على الأغلب، لهذا لا نرى اليوم روادا لنهضة عربية رغم هجوم الظلام وعودة عصره اليوم.. فرواد النهضة العربية لم يؤسسوا المؤسسات ولا التنظيمات والمؤتمرات، انما كتبوا المقالات والقوا القصائد وتحدوا سلطة الطغاة ووقفوا بوجه الخطأ، فاستطاعوا استنهاض وتغيير الجماهير العربية التي كانت تغرق بالامية اكثر من اليوم، برغم صعوبة التواصل وغياب وسائل الاتصال ونشر الافكار كما اليوم..

وحتى نصبح فعلا من رواد النهضة العربية لا بد لنا ان نصرخ بوقت واحد وبهدف واحد عن طريق الكتابة واتخاذ المواقف الواضحة والصريحة بلا مداهنة وانتهازية لنستصرخ العالم والامم المتحدة وشعوب الداخل العربي المختطف والمظلل، ولابد لنا من التحديات السلمية ومواجهة الظلم بالمنطق والمحاججة..

لكننا للاسف لازال اغلبيتنا غير مؤمنين بالنضال الحديث الذي يتلائم مع مكتسبات العلم والحضارة الحديثة، ولازالت المصلحة هي الهدف الاول قبل هدف التغيير، ولازال المثقف يخشى غيره من المثقفين الشجعان او يحسده، وقد ينتقد جرأته على بـُعد، ولا زال يتحسس رقبته ويتأكد من وجودها بعد كل كلمة جريئة او مقالة تسير خارج السرب الغافي بعيدا عن دوران الأرض، لهذا فالشعوب العربية لا زالت تقول لنا: قلوبنا معكم وسلاحنا مع السلطات..
ومع هكذا حالة، من أين وكيف يأتي التغيير؟