هي بالتأكيد رمية صائبة بغير رام، أو أن راميها لم يقصد أبداً، أو يخطر على باله ما سوف يفعله، فقد تفضل السادة ترزية القوانين والدساتير لنظامنا السياسي وحزبه الوطني (غير) الديموقراطي بتعديل المادة الخامسة من الدستور، لتنص على: quot;لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس دينيquot;، هو إعلان صريح لعلمانية الدولة، لكنه أقوى من النص المباشر على هذا، فهو أولاً يعتمد المفهوم المتداول عن اصطلاح العلمانية، وهو فصل الدين عن السياسة، وبدلا من النص على اصطلاح (العلمانية) قد نتفق أو نختلف على محتواه، كما هو شأن العديد من مفاهيم الدستور المصري، مثل دين الدولة وحرية العقيدة وما شابه، تفضل علينا السادة ترزية الدساتير باختصار الطريق، وأثبتوا مباشرة محتواه.

الأمر الثاني الأخطر والأعظم في النص الجديد أنه يتضمن حظراً على تداول الفكر السياسي الديني، وحظر ممارساته، والحظر الدستوري من المفترض أن يتبعه قانون تنفيذي يجرم انتهاك ما نص عليه الدستور، ويحدد عقوبات للمتجاوزين، وهذا حتمي وضروري لتفعيل مواد الدستور، خاصة ما يتضمن نهياً أو حظراً، هنا الميزة الكبرى لصياغة هذا النص، الذي جاء بأسلوب النهي أو الحظر، وهو ما لم يكن يتوفر في حالة الاقتصار على النص على quot;علمانية الدولةquot;، وهو يعني الاستبعاد السلبي للفكر السياسي الديني من الممارسة السياسية، دون أن ينص على الملاحقة والحظر لهذا النهج، وهذا ما نحتاجه فعلاً في الظروف السائدة في مصر سياسياً وثقافياً، لننتقل من العلمانية الدستورية إلى العلمانية السياسية، ومنها إلى العلمانية الثقافية والمجتمعية.

السادة الأفاضل الذين تكرموا علينا بهذا النص كان مقصدهم مجرد سد الطريق على quot;جماعة الإخوان المحظورةquot;، ولا نظنهم يمتلكون حقيقة قدراً من الاستنارة، يدفع بهم إلى السعي لتحديث الدولة والمجتمع، بل المظنون بهم العكس، وهو محاولة دفع الأمور باتجاه التجميد والتوريث للحكم، فالطرفان الرئيسيان في معركة التعديلات الدستورية وهما النظام وحزبه من جانب، وجماعة الإخوان المحظورة من جانب آخر، لم يكونا ممثلين لمعسكري الاستنارة والتخلف على الترتيب، بل هما معسكرين على ذات المنهج، وهو استغلال الدين لامتلاك السلطة ومن ثم الثروة، وانحصر الصراع فيمن يمتطي منهما صهوة الجواد الرابح، في مجتمعات غيبت وخربت عقولها الخرافة وتجاهل العلم والجهل به.

الأطراف الأخرى التي اشتركت في حوار التعديلات النخبوي تماماً وبالحصر من قوى الحداثة والاستنارة، كانت تلعب خارج الحدود القانونية للملعب، وكانت مداخلاتها في أحسن الأحوال تنويرية وتبشيرية، أكثر منها مؤثرة فيما سبق طبخه على نيران سرية، داخل دهاليز النظام المعتمة، وأغلب ما تطرقت إليه تلك الحوارات كان متعلقاً بمواد لم تكن مطروحة أساساً للمناقشة أو التعديل، فقد اشتدت المناقشات خارج الملعب حول المادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن quot;دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريعquot;، وهي المادة المتعارضة تعارضاً لا سبيل إلى تجنبه أو التخفيف منه، مع العديد من بنود الدستور، بل مع سياق الدستور كله، خاصة بعد التعديلات الأخيرة.

اللاعبان الأساسيان إذن (الحكومة والإخوان) ومعهما التيار الأكبر من الجماهير أبعد ما يكونون جميعاً عن الحداثة والاستنارة وبالتالي العلمانية، لهذا يأتي هذا التعديل للمادة الخامسة قفزة رائعة على كل مستنقعات الواقع الآسنة، هي خطوة سابقة للعصر، ولكل حقائق الواقع المتردي في المناخ الثقافي وفي مجموعة النظم والعلاقات على الأرض، فالمفترض أن تأتي أي تعديلات دستورية لتكون بلورة وترجمة لما يموج به الواقع من إرهاصات تعتمل في عقول وصدور غالبية الجماهير، بل وأن تكاد تكون منهجاً لحياتها وممارساتها الواقعية، مثل ما حدث من تعديل بالدستور يتعلق بالنصوص التي تتضمن الاشتراكية وتحالف قوى الشعب العاملة، فقد تخطاها الواقع، ليأتي التعديل الدستوري ليقنن الوضع الراهن، ويعطي دفعة أبعد للأمام، ولا يعني ترحيبنا بما تحقق من علمانية دستورية أن نتجاهل افتقادنا إلى الشق الأهم، وهو تحقيق العلمانية السياسية، وما تستلزمه من علمانية ثقافية ومجتمعية.

نقصد بالعلمانية السياسية علمانية الممارسات السياسية الرسمية، وعلمانية الخطاب السياسي المتداول في الساحة، سواء من جانب المحسوبين على النظام أو المعارضة، فالنص الجديد للمادة الخامسة، الذي يحظر أي نشاط سياسي على أساس مرجعية دينية، يفهم منه الحظر ليس على الممارسات العملية فقط، ولكن أيضاً على الخطاب المتداول، والذي هو جزء أساسي من الممارسة السياسية، ولكي يتحقق هذا يتحتم أن تلتزم به الدولة ورموزها أولاً، لكي تلتزم به باقي الأطراف ثانياً، فليس من المتصور أو المقبول أن تضع الدولة هذا النص بالدستور لتحرم جماعة الإخوان المحظورة من ميزتها الوحيدة وهي توظيف الدين والتلاعب بمشاعر المؤمنين البسطاء، لكي يحتكر النظام وحده هذا الأمر، وأعتقد شخصياً أن النظام في اندفاعه لمحاصرة خطر الإخوان على الدولة والمجتمع لم يفطن لأن السلاح الذي يجردهم منه لابد وأن يتخلى عنه هو أيضاً، فهو أول وأكبر اللاعبين به، ليس في مرحلتنا هذه فقط، بل منذ بدء التاريخ المصري قبل أكثر من خمسة آلاف عام، ولنسترجع معاً على الأقل محاولة الملك فاروق تنصيب نفسه خليفة للمسلمين، وهي المحاولة التي ربما كانت إشارة البدء لتيار الإخوان المسلمين، والذي جاء متزامناً معها.

على الدولة مثلاً أن تتوقف نهائياً عن استدعاء رجال الدين للإدلاء بفتاوى دينية تعضد توجهاتها السياسية، وينبغي أن تكون الفتوى السياسية الأخيرة لفضيلة شيخ الجامع الأزهر، تلك التي أوردتها جريدة المصري اليوم في 24/3/2007، وقال فيها فضيلته أن quot;مقاطعة الاستفتاء على التعديلات الدستورية كتمان للشهادة ومن يكتمها آثم قلبهquot;، فلو كان قد أدلى بمثل تلك الفتوى بعد إقرار التعديلات لتحتم مساءلة فضيلته على انتهاكه للدستور، كما يتحتم أن تكف الدولة ووسائل الإعلام عن استنطاق بابا الأقباط، ليدلي هو الآخر بتصريحات تؤيد مواقف الحكومة وتوجهاتها، فهي توظيف للدين حتى لو كان مستتراً خلف صياغات تبدو سياسية محضة، فلا ينبغي بعد الآن أن نستمر في خداع أنفسنا، فرجال الدين بوظائفهم الرسمية وزيهم الخاص سيؤخذ كلامهم مهما كانت صياغته على أنه رأي الدين، بل وتعودت الجماهير أن تأخذ كلامهم ليس على أنه رأي وفهم بشري، بل على أنه كلام الله عز وجل.

نستطيع أن نسند لكوادر جماعة الإخوان المحظورة -في صمتها وحصارها الأبدي القادم- مهمة متابعة وملاحقة ممارسات توظيف الدين لصالح النظام السياسي القائم، ويمكن لهم ممارسة هوايتهم في رفع قضايا الحسبة، التي يستهدفون بها الآن الفنانين والفنانات والمفكرين والمبدعين وأساتذة الجامعة، ليحولونها إلى مطاردة المتلاعبين بالمشاعر الدينية، طمعاً في ذهب المعز أو رهبة من سيفه، وهم إن فعلوا ذلك ستكون سابقة أولى في تاريخهم الدموي الطويل، أن يفعلوا شيئاً من أجل صالح هذا الوطن، ومن أجل صالح هذا الشعب الذي وقع طويلاً بين سندانهم ومطرقة الحكام!!
المجال السياسي يشمل الاقتصادي أيضاً، بما يعني مثلاً أن الخطاب الديني بتحريم أو تحليل فوائد البنوك لا ينبغي أن يتعدى الوعظ الديني في أماكن العبادة، وفي سياق التعليم الديني البحت، وأن لا يتجاوز ذلك إلى مانشيتات الصحف وبرامج القنوات التليفزيونية الفضائية، ليوظف سياسياً تأييداً أو معارضة أو ترويجاً لهذا الطرف أو ذاك، وسوف نكون بهذا قد أغلقنا إلى الأبد ذلك النهج الذي بدد مدخرات المواطنين ببركة شركات توظيف الأموال المنتحلة صفة الإسلامية.

نتوقع أن ينص القانون المطلوب لتفعيل المادة الخامسة على تجريم توظيف الدين خارج نطاق المجال الديني، وأن يشمل التجريم من ارتكب الممارسة ومن ساعده عليها، كما نتوقع أن ينص القانون على عقوبات تتدرج من التنبيه إلى الإنذار إلى غرامات مالية متدرجة، على أن لا يتعدى الأمر بالطبع العقوبات المالية، وفي حالة موظفي الدولة تضاف إلى العقوبة جزاءات إدارية تصل إلى الإعفاء أو الإقالة من الوظيفة، هذا بالطبع إذا ما كنا جادين فيما نفعل، أما إن اقتصر الأمر على حرمان جماعة الإخوان المحظورة من توظيف الدين لتحتكر ذلك الحكومة، فإننا نكون عندها في وضع أسوأ، فعندما يتنازع الضحية (الشعب) ذئبان (الحكومة والإخوان) فإن هذا يطيل عمر الضحية لبعض الوقت -وإن كان يضاعف عذابها- عن أن يتمكن منها ذئب واحد، ليفترسها في قضمة واحدة!!

عندما تخفت النجومية وأضواء الشهرة حول رجال الدين ليتفرغوا لمهمتهم الجليلة، عندها ستصلح أحوال التدين، ويتعمق بفضل جهودهم إيمان العامة، فيستقر الدين في القلوب والمعاملات اليومية الأمينة، ولا يتوقف عند المظاهر والأداء المظهري للشعائر أو الطقوس، عندها أيضاً ستصلح أحوال السياسة والمجتمع، لننتقل إلى المرحلة الأخطر والأهم، وهي تحقيق العلمانية الثقافية والمجتمعية، بعد أن بدأنا بالعلمانية الدستورية ثم السياسية.
هل تتكاتف جميع قوى الاستنارة بالمجتمع، اليسارية والقومية والليبرالية، وتكف صفوتها عن الافتتان بالصراخ والضجيج والمزايدة بالشعارات التي أكل عليها الدهر وشرب، ويخلصوا لشعبهم ولوطنهم، ليدفعوا معاً باتجاه تفعيل ما تحقق من إنجاز لعلمانية مصر؟! أم أن المتاجرة بالشعارات والجعجعة خاوية المضمون صارت جزءاً من ثوابت أمتنا، لا يجوز بأي حال التفريط فيه أو التخلي عنه؟!!


[email protected]