أُلاحظ لدى الكثير من المتعلّمين وحتى بعض المثقفين العرب، أنّ ثمة التباساً غير بسيط في معنى كلمتي اللاهوتي والميتافيزيقي عندهم. فهما تحيلان تقريباً إلى المعنى ذاته: رجل يشتغل على الدين، بحثاً وفهماً، ويتخصص في جانب من هذا الدين دون جوانبه الأخرى. ولا أدري كيف شاع هذا الالتباس الخطير، في بُنية الثقافة العربية العامة، منذ قرن تقريباً. ربما لأن الثقافة العربية، في مجراها العام، لم تعرف بعد المرحلة الميتافيزيقية في التفكير والنظر والتأمل، بل عرفت وما زالت المرحلة اللاهوتية فقط. لكن ثمة فروق بالطبع بين اللاهوتي والميتافيزيقي، بل ثمة افتراق: فكلاهما مختلف عن الآخر: اللاهوتي رجل نقل، بالمصطلح العربي، فيما الميتافيزيقي، رجل عقل، لو استخدمنا ذات المصطلح. اللاهوتي رجل يكرّس التقليدي والغابر والمنغلق، ويدافع عنه حتى بأدوات العصر الحديثة لو لزم الأمر، بينما الميتافيزيقي، على العكس: مفتوح على كل الأفق: منذور لحدوسه وتأملاته الباطنية الفردية، منذور لفكره الشخصي، ولأصالته ككائن متفرّد، ولا يمنع هذا من استرشاده واستفادته من فكر الآخرين. لكنه في كل الأحوال، غير ملزم بما يقوله هؤلاء وأولئك، بل هو سيد تأملاته، حتى لو لم توصله هذه لشيء ذي بال.

أتكلّم هنا، كما يجدر بي أن أنوّه، ليس عن علم ولا عن ثقافة متخصصة، وإنما من واقع تجربتي الشخصية المحدودة، والبدائية ربما، فقد ذهبتُ إلى الكتب المتوفرة في مكتبتي، وشبه المتخصصة في هذا الفرع من العلوم، فلم أخرج منها سوى بقمحٍ قليل وزؤانٍ كثير، سرعان ما أنسى الأول في غمرة الثاني للأسف !

أتكلّم بحدس الشاعر، قبل وعي المثقف، إن صحّ امتلاكي للصفتيْن. لذا على من يقرأ هذه المقالة من المتخصصين، ألا يحمّلها ما لا تحتمل وما لا تزعم. وبناء على ذلك أقول التالي: إنّ اللاهوتي يعمل على الأديان السماوية تحديداً، ويتشرنق في شرنقتها الضيقة. بينما الميتافيزيقي أوسع مدى، بل لا تحدّه حدود. هو يعمل في جانب منه على تلك الأديان نفسها وعلى غيرها من الأديان الوضعية، لكنه يعمل في الأساس على البشري والكوني فيه بكثافة، ينطلق منهما ويعود إليهما، دون أن يربط بالضرورة بينهما وبين الإلهي: فثمة ميتافيزيقي ملحد لا يعترف بالله وبمملكة السماء، مثلما ثمة ميتافيزيقي مؤمن. لكن اللاهوتي هو مؤمن أولاً وأخيراً، ولا يستقيم له ألا يؤمن. بمعنى ثمة ميتافيزيق أرضي محض، لا يحترم سوى فكرة [ المُطلق ]، كفكرة أصيلة في وعي ولا وعي الإنسان، مثل بعض الصوفيين الملاحدة. فهؤلاء يعملون على فكرة المطلق لا فكرة الله. ولديهم وجهات نظر بل فتوحات تأملية جديرة بكل احترام عقلي. ولعلنا نجد أغلب من يعمل في هذه المنطقة، سواء في الشرق أم في الغرب، هم من فئة الفنانين والشعراء وأصحاب الرؤى الجوّانية الأصيلة، ذات الطابع الأدبي والإنساني عموماً.

لكل ذلك، لا ينبغي لنا الخلط بين معاني الكلمتين. فهذه من قارّة، وتلك من أخرى. وما يفرّق بينهما هو أضعاف ما يجمعهما. فإن قال أحد منا بأنّ عودة عالمنا العربي الحالي إلى الدين، هو شأن ميتافيزيقي، قلنا له كلا بل هو شأن لاهوتي مسيّس لا أكثر. هي عودة إلى اللاهوت، لا عودة إلى الميتافيزيقا. فلا ميتافيزيقا ذات شأن في الإسلام، كما في كل الأديان السماوية الأخرى. ولم يعرف المسلمون الأوائل، كما الأواخر، كما نحن هنا والآن، سوى أقل القليل من الميتافيزيقا. إن لم نقل أنهم وأننا لا علاقة لنا بالموضوع. فالإسلام بالأخص، وتراثه بالتعميم، لا يحبّذ الميتافيزيقا، كضرب من ضروب الاجتهاد المفتوح، بل يحرّمها ويجرّمها، بما هي ذات أفق أوسع، وغير معنية بالمرجعيات، والسبب أنها أقرب إلى النظر الفلسفي العقلي والوجداني، منها إلى حظيرة الدين. وبالتالي فهي مفتوحة على [ الهرطقة ] كما يراها هذا التراث. والهرطقة بالطبع مذمومة وملعونة. لأنّ الهرطقة توصل إلى الزندقة، كما التمنطق يوصل على التزندق !

لهذا ولغيره من الأسباب لم تعط الثقافة العربية على امتدادها التاريخي، رجالَ ونساءَ ميتافيزيقا، يُشار إليهم بالبنان، سوى آحاد فقط، هم في الحقيقة مشاريع رجال ميتافيزيقا وليسوا رجال ميتافيزيقا بالمعنى الناضج والمحترم للكلمة. آحاد ملعونين ومُكفّرين وخارجين على الذمة والشريعة _ باستثناء أبو العلاء المعري، الذي كان رجل ميتافيزيقا عظيماً بل الأعظم في تاريخنا كله.

بينما بالمقابل، أعطت الثقافة الغربية، أسماء أعلام كبيرة وعملاقة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، كلاً من مونتاني وديستويفسكي ونيتشه وأخيراً الراحل إميل سيوران. فلقد عمل هؤلاء وسواهم في بيئة بلا رقابات وبلا محظورات: بيئة لحمتها الحرية وسداها احترام الاجتهاد، فأبدعوا الروائع، ومضوا، ليأتي مَن يمشي على طريقهم ويراكم.

ذلك أن أخصّ ما يلزم للميتافيزيقي، هو أن يكون حراً بالإطلاق، فلا يثقله خوف من البطش والتنكيل، ولا يرعبه احتمال أن يُشوى ويُقطّع في تنور، كما حدث في تاريخنا لبعض المجتهدين الأصلاء، ممن لم يمشوا على الدرب المطروق.
إنّ الميتافيزيقي حرّ، وتلك هي أهمّ خصيصة فيه، ولا مرجعيات لديه سوى ذاته ورؤاه فحسب. ما يشكّل النقيض المضاد للاهوتي العربي الإسلامي. الميتافيزيقي فرد خارج عن القطيع، ولا يتماهى مع العقل الجمعي للأمة، ولا ينصت سوى لأصواته الداخلية ولصمته الكبير وسط ضجيج التابعين والمنوّمين مغناطيسياً. الميتافيزيقي يحب العزلة والليل وسماع موسيقى الكائنات والأجرام السماوية، وموسيقى الكلاسيك الغربي الحديثة. بينما اللاهوتي العربي ينصت لصوت المؤذن والمرتل وجعجعات خطباء الجمعة.. الخ.

وعليه فمن الخطل الكبير وسم قادة الإسلام السياسي لدينا بالميتافيزيقيين، مثلما وصفهم أحد مثقفينا العرب قبل فترة في التلفزيون. هيهات ! بل هيهات وهيهاتان ! فهؤلاء أبعد الناس طراً عن الميتافيزيقا. ومن أين لهم مثل هذه الصفة السامية وهم الحربجيون الحسيون المؤمنون بأنّ [ المسلم أكول نكوح ]. أكول نكوح ! يا له ضرباً من وعي حيواني، يختزل الكائن البشري، في درك من الحيوانية البهيمية، لا تقبل به حتى بعض الحيوانات !

ميتافيزيقيون ؟ يا ليتهم كانوا كذلك، لكان هذا واحداً من أسباب سعادتنا الكبيرة.. فلو كانوا ميتافيزيقيين لكنا معهم، لكنهم لاهوتيون، وتلك هي المعضلة.حيث مرحلة اللاهوت، تجاوزها كل العالم تقريباً منذ أزمان وأزمان. لماذا ؟ لأنها مرحلة تصادر العقل البشري، وتمنع عليه حقه في الاجتهاد والخصوصية والتأمل الفردي. اللاهوت نتاج ووليد النمط الزراعي والإقطاعي، بالأحرى، وبانتقال العالم إلى مرحلة العصر الصناعي وما بعدها، شحُبَ اللاهوتُ وتراجع وتوارى خلف جدران مؤسسات ضيقة، يقوم عليها رجال متخصصون في هذا الجانب دون غيره. لذا فإن العودة إلى حضن اللاهوت، هي عودة ضد سُنن التاريخ، وعودة إلى الوراء، لتصادرَ الأمام. بل قل عودة إلى العماء، هرباً من تحديات الواقع، بوقائعه وحقائقه، نحو ضباب مخدّر، يقي صاحبه من مغبة مواجهة الحقيقة القاسية ولو مؤقتاً.

هذه هي الحقيقة أو بعضها، وهذا هو الواقع. لذا سننتظر طويلاً، ربما بعد أن ننتقل إلى العصر الصناعي، حتى يولد بين ظهرانينا ميتافيزيقيون كبار.وإلى أن يأتي ذلك العصر، علينا أن نقف في وجه اللاهوتيين العرب الجدد، لكي لا يؤخّروا وصول ذلك العصر، فننتظره مئة عامٍ أخرى، فيما غيرنا وصله قبل مئتي عام وربما أكثر !