عطيل (4/4)


(ياغو) أكثر الشخصيات حضورا في الدراما، دراما عطيل المذهلة، و(ياغو) هذا (يكاد) أن يكون الوحيد الذي يجري منه الفعل، فيما الأ خرون يجري عليهم الفعل، أي هو الذي يصنع التاريخ، يصنع زمن الفعل، والأخرون نتاج هذا الزمن، نتاج هذا الفعل، فإن حاصل المأساة من صنعه، أو بالأحرى من صنيعه، به بدأت وبه سارت وبه إنتهت، كان وَتَرُها ا المشدود بين كل عناصرها البشرية وعناصرها الحَدثَية، وَتَرُها الذي يعلم انه (مركز) لقاءها وتشتتها جبرا، بل هو مركز لقائها وتشتتها طوعا، بل تخطيطا وتدبيرا وتحكما، وعبقرية (ياغو) إنه لا يباشر الفعل الذي يخلق الفاجعة، بل يحوك له جوا، ويخلق له أسبابه، لأنه متأمر في جوهره. لم يكن (ياغو) هو الذي ينسج المؤامرة على هواه، بل هو الذي تنسجه المؤامرة على هواها، وقد إنطلق في عمله من خطة تعتمد مبدأ إرباك اليقين في ضمير (عطيل)، لا يخلق شكا مباشرا، إنه يلغِّمْ الجو المحيط بالمستمع، يشغل روحه بمجموعة من الإحتمالات أحدها سيء، ولكنه إحتمال خطير، بحيث يصبح هو المستحوذ على الضمير بسبب خطورة موضوعه، أنه صياد ماهر، يصطاد الفريسة بالشكل الذي تمنحه روحها راضية مرضية، وقد أبد ع (فن) إثارة الشك وكسره في آن و احد، فهو يرمي سنارته في وسط مشتبك الأسباب الموجبة للقبول والموجبة للرفض، ويرصد رد الفعل، فإذا لم تكن وفق مرام الخطة البعيدة، يستدرك حالا، وبلغةٍ هي الاخرى محيرة،!نها فلسفة الدَّوامة، فلسفة الحيرة المدمرة، بين إثبات ونفي، حركة مغلقة، ترهق الأعصاب، وتستل من الروح إرادة الفعل، وحينها يسهل قياد صاحبها المسكين، بلا وعي وبلا تبصر، تتلاعب به دمية مؤقتة، لتداس بعد ذلك هملا.

ستراتيجية مهولة كانت !
كان (عطيل) يصرخ بعد أن هيَّج فيه (ياغو) بدايات المحنة، يصرخ باعلى صوته المغربي (أريد أ ن أرى قبل أن أشك، وأتثبت إن شككت، وعند التثبت فليس ثمة إلا الإطاحة حالا بالحب أو الغيرة) / ص 129 من جبرا /.
فالبداية إذن هي الإثارة، الإثارة، لأن المغربي شديد الغيرة، شديد الشكيمة، شديد الحب، فالضربة القاضية مرة واحدة يستحيل أن تجد لها محدَّ محزًّ جاهز ا.
لم يكن هدف يا غو التشكيك في طهارة ديزدمونة، بل كان هدفه إيجاد إنسان ذُهاني، إنسان محطّم، وجود مشتت، متوزع على نقاط قلقة، كان يهدف إلى حذف (عطيل) ليس من الوجود بل من الحياة، من الشعور با لذات، توكيد الذات، من الإسم والمسمى، من تاريخه الذي أسسه بنفسه، وكانت تلك الاستراتيجية اللعينة تستند إلى الشك، كان (ياغو ) يعمل على تفريغ ذات (عطيل)... أعماق (عطيل) من كل مستقر يرجع إليه كمقياس في حياته، يعمل على تحول (عطيل) إلى شبح، ينهي علاقته الراسخة مع الحياة، يجهد على تسميم روح عظيم، قوي، ثابت، مستقر، يريد تحويله إلى إنسان ممسوس، يرى في الجدار شبحا، وفي الماء شبحا، وفي الإنسان شبحا.
لم يكن هدف (ياغو) إلا تحطيم هذا الشموخ، ولكن هي البداية، المستوى الواطئ، أما المستوى العميق فهو تحطيم الحب، تبديد الطهر، تسميم الحياة، كان لابد من (عطيل)، (عطيل) ضحية الهدف الكبير، وسيلة على الطريق، هناك يكمن الهدف السري، تبديد الصباح، تلويث الضوء، تغبيش الحقيقة، سلخ الحياة من مرحها الداخلي، فلم ولن يطيب له ضوء يمارس حريته المرحة !!
لم يكن شك (ياغو) بسبب دواعي معرفية، لم يكن شكه معرفيا كي يصل الى الحقيقة، بل شكه من أجل تحطيم الحقيقة، من اجل تأثيم الماء والهواء والتراب، ذلك أنه لم يكن يثق بنفسه، لم يكن يشعر بوجوده حرا، لم يتحسس إنْ كانت أعماقه تحوي أعماقه. لم يشك بالشر كموضو ع أبدا، بل كان يرى في الشر سيد الوجود، وشكه كان بالخير، كان شكه بالنور، أي شك بالطهارة والنقاء والضوء، فهو شك محسوب بموضوعه، ولس مجردا، كليا، شاملا، إنه الشك بالجمال، بالحب، بالصدق، بالإيثار... ذلك أن الوجود كله عبارة عن خطيئة.
لم يكن عطيل غريمه، ولا كاسيو، ولا رودريغو، ولا ديزدمونة، ولا اميليا زوجته، بل غريمه الحب، الجمال، الخير، ا لعدل، ومن هنا كانت الدسيسة لا تعرف حدودا.
يقول (ياغو) وهو يتحدث عن (كاسيو): ــ
ـ [... إن في حياته جمالا يوميا
يجعلني أبدو دميما...] ص 180 من جبرا /
تلك هي العقدة، وذلك هو السر، ومن هنا تتنبثق الدسيسة، كمؤامرة كونية، تتواصل بخيوط خفية مع كل ذرة من ذرات الحياة، خيوط مسمومة، تغري الحياة بالموت عن غفلة مما يحاك حولها !
لقد استحوذ على مسكوكات مخدومه (رودريغو) وشحذ همته لغرض الوقيعة بين تاريخ مغرور و تاريخ أريد له القدر أن يكون جميلا / بين أب دزدميونة وعطيل / وكان مملوءا بالشك الخبيث، عن قناعة تقاوم كل تردد بين (نعم) ومراجعة ــ ولو على مستوى ا لتثبت ــ لمجمل أسباب (النعم ) هذ ه رغم غموضها، شك قاتل بزوجته، شك قاتل بكل ما يحيط به !
لم يكن شكه مفردة متعلقة بهمِ شخصي، بل هو شك نابع من شكوكه بذاته، من شكوكه بكيانه، و لذلك سجل صراحة شكه بالمرأة، منطلقا من تقدير واه لنفسيتها وطبيعتها.
ــ [ هيا ! إنكن خارج بيوتكن صور
أما داخل حجراتكن فأجراس، وفي مطابخكن
قطط وحشية
في أذكن أنتنَّ قديسات، وإذا أستأتن فشيطانات،
وفي أشغالكن المنزلية عابثات، أما في الفراش فسليطات !]
تلك هي نظرته الى المرأة، شر كلها، وشر لا بد منه، ولم يؤسس لمبدأ هنا كي يبدأ، بل هو المبدا الذي ساد نظرته الفطرية لهذا المخلوق الجميل، فجاءت أصيلة وعرضية، أصيلة نظر وتصور وفلسفة، وعَرَضيَّة موضوع كان له أن يكون بحكم القدر.

لم يكن (يشكك) بالحقيقة الجميلة تدبيرا وحسب، بل عقيدة، تدبيره جزء من عقيدته، أو بالأحرى كان شكه بالحقيقة الجميلة سابقا على عملية تشكيكه بالأشياء والناس والمواقف، لم يكتف بنار شكه، بهواجس شكه، بل يصر على تعميمها وتسييدها الحقائق، كي يخلق كونا مأزوما بحد ذاته.
هل كان (ياغو) يشك بعلاقة مريبة على نحو ما بين (دزدميونة) و (كاسيو) ؟ فجاء حساب الحب مساويا لحساب البيدر، وضرب القدر ضربته الحاسمة ؟ أم هي مؤامرة بحتة، لا علاقة لها أصلا بالتكوين المريب لنفسية وضمير ياغو ؟
مسألة تحتاج إلى مزيد من النظر.
الشك بالحقيقة الجميلة عندما يتحول إلى تشكيك، يدمر الوجود، وينم ـ ربما ـ لا عن مرض معرفي، بقدر ما ينم عن مرض أ خلاقي مخيف يلتهم كل شي، ولا يبقي على شي، هناك من يعتريه الشك بالاشياء، فيحتفظ بشكه، ولا يسربه كفاعلية تأسيسية لذوات على طبق ذاته، يخشى على الآخر، يخشى على جمال الوجود، ولكن هناك من يشك، ويريد أن يعبث بنفوس الاخرين بتوريد الشك إليهم كطريق للتعامل مع كل شي، فيشعل نار الهواجس في كل شي، من ذرات الكون البسيطة حتى سجايا النفوس، وخبايا الضمائر، وهو تشكيك بالثابت المستقر على حُسْنِ حال وسريرة، وصورة إشراق وإيمان، وهوية حب وإطمئنان.

شك بالحقيقة الجميلة وتشكيك بها، تلك هي المعادلة التي يجب أن نحتفظ بها ونحن ندرس شخصية نادرة مثل (ياغو)، وهي معادلة تخلق نوعا خاصا من التلذذ، التلذذ الخبيث، يشحن الذات المتلذذة بمزيد من مغامرة تخريب النفوس، وتهديم الحقائق الطيبة.
ــ [... إستمر فعلاً
يا دوائي استمر ! هكذا يُصاد الحمقى المصدِّقون،
وهكذا تلقى المذمّة نسوة عفيفات شريفات كثيرات
دونما إثم أ و جريرة..]ص153 من جبرا /
يتوسل الخير إلى الشر، ويتوسل النور إلى الظلام، ويتوسل العلم إلى الجهل، ويتوسل الثبات إلى الشك، ويتوسل الصداقة إلى العداوة، ويتوسل الحب إلى الكره، ويتوسل السلام إلى الحرب، ويتوسل الروح إ لى المادة...
أليس هو الذي يتوسط إلى (كاسيو) عبر دزدمونة كي يسترجع وظيفته العسكرية بامر من عطيل ؟
أليس هو الذي حضي بثقة عطيل، وعن طريق هذه الثقة جعله نهبا للشك ؟
فلم يكن الرجل هاو للشر بل هو شر من نوع معين، ويلتقي بـ (الشر) على رسالة مشتركة، يتبادلان معا أدوار الصنعة المرعبة، ذاك يتبدى له خادما، وهو يستمرئه حقيقة مطلقة، يتلبسها عن طوع مبدئها، فتكون المأساة المضاعفة التي تعادل ثقة الكونين !
ليست هي إلا دسيسة و احدة تبدا من السطر الاول لتنتهي بمصير الجميع على مشرحتها المفتنة، وليست هي إلا دسيسة و احدة تسري بشرايين النصوص، وتحتار النصوص كيف تتحمل هذا الثقل الرهيب، فتتولّد منشطرة إلى ما لا نهاية من المحتملات والتوقعات، كي تتخلص من عبء المحمول الضخم الجسيم، ولكن يحفل بها الادب البشري كأعظم إنجاز مسطور على مر الدهور، ليست هي إلا دسيسة واحدة مترعة بنزعتها الدموية، فتلغي الجميع لصالح بقائها حية في ضمائر الأحرار والأنذال، ولكن دون أن تعطي ثمار الموعظة، لانها تخدع الضمير بهول نسقها المتين دون درسها في الاخلاق والأداب، فلا يحتمل أن يتعلم منها التجربة المثمرة، بل يشرق معها ويغرب معها،منتشيا بها دون ان يلتفت إلى وظيفته الكونية.
أجل !
حتي الضمير الحي ينشغل بفنها دون روحها الواعظ المتين !
وذلك من دسيسة النص الشكسبيري وليس من دسيسة ياغو أبدا
فما اعظمها من ملحمة، ويا بئس من لا يتذوق الحياة، أقول ذلك رغم ياسي، ولكنه ياس غرامشي العظيم.
دسسية خصَّص لها شكسبير ذكاء منقطع النظير، ومعرفة غائرة في لجة النفس البشرية، ونزعة تأصلت منها رغبة الشك بإستعباد فريسة سهلة القياد، وهول بلاءٍ ناتجِ من عشق التشكيك مسبوقا بعقيدة الشك ليس بكل موضوع على الاطلاق، بل في موضوع واحد لا يتكرر، ذلك هو الخير !