كيف ستنتهي الحرب الأميركية على العراق ولمصلحة من ستنتهي وأي شكل ستتخذه المنطقة في ضوء نتائج الحرب؟ هل ستنتهي بحرب أخرى حذّر منها زيغنيو بريزنسكي مستشار الأمن القومي لدى الرئيس السابق كارتر عنما أشار في حديث ألى صحيفة quot;لوموندquot; الفرنسية نشرفي عددها الصادر السبت الماضي ألى أحتمال تورط الولايات المتحدة في حرب أوسع وأكبر بسبب العراق. قال بريزنسكي في معرض تخوّفه من أستمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق وتصاعد التوتر مع يران:quot; يمكن أن تنجرّ أميركا ألى نزاع في أيران والعراق وأفغانستان وباكستان في الوقت ذاتهquot;.
يصعب التكهن بالنتائج التي ستترتّب على المغامرة الأميركية في العراق، نظراً ألى أن ماحصل هناك كان حدثاً أستثنائياً لا يمكن مقارنته ألاّ بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وأنهيار الدولة العثمانية بما سمح برسم الخريطة الجديدة للشرق الأوسط . كان العراق الذي عرفناه حتى ألى ما قبل أربع سنوات ركيزة من ركائز الخريطة السياسية للمنطقة، ركيزة أقلّ ما يمكن قوله الآن أنّها أنهارت فاتحة الأبواب على مصراعيها أمام شرق أوسط جديد بتوازنات مختلفة على غير صعيد.
لدى محاولة قراءة التحوّلات التي نشهدها يومياً في المنطقة، لا بدّ من العودة ألى أنّه في مثل هذه الأيّام، قبل اربع سنوات، شنّت الولايات المتّحدة حرباً على العراق بهدف اسقاط نظام صدام حسين العائلي- البعثي. وتوّجت الحملة في التاسع من نيسان- ابريل 2003 بدخول القوّات الأميركية بغداد وفرار صدّام ومعاونيه وأستسلام قوّاته. كان الغرض المعلن للحملة العسكرية الأميركية تحويل العراق الى نموذج لدولة ديموقراطية متطورة تغيّر طبيعة الأنظمة في الدول القائمة في المنطقة. بل كان الهدف كما حدّده كولن باول، وزير الخارجية الأميركية وقتذاك، أعادة تشكيل الشرق الأوسط أنطلاقاً من العراق. نجحت الحملة الأميركية في اسقاط النظام العراقي المتخلّف الذي كان سقط فعلاً قبل ذلك بثلاثة عشر عاماً عندما أقدم صدّام على مغامرته المجنونة صيف العام 1990وأحتلّ دولة عربية مسالمة هي الكويت. لم يفهم الديكتاتور العراقي الذي أعتقد أنّه بسمارك العرب، وصدّق ذلك، معنى تصدّي المجتمع الدولي لمغامرته الكويتية والنتائج التي ستترتب عاجلاً أم آجلاً على عمله المجنون، فأستمرّ، معتمداً على عقله البعثي المتخلّف، في أرتكاب الأخطاء غير مدرك أن الخطأ لا يعالج بخطأ اكبر منه. لم يدرك ان معالجة الخطأ بالخطأ والمكابرة، كما يفعل النظام السوري حالياً في لبنان، يعتبر الطريق الأقصر ألى الهلاك. لم يدرك خصوصاً أنّ السياسة ليست مقامرة وأنّ ثمة فارقاً كبيراً بين الفعلين وأن المقامر يمكن ان يربح مرّة أو مرّتين او ثلاث مرّات أو أكثر، لكنّه لا يمكن ألاّ أن ينتهي خاسراً. بالنسبة ألى صدّام لم يكن هناك فارق بن السياسة والمقامرة. لذلك أنتهى بالطريقة التي أنتهى بها. لم تعكس نهايته البائسة كم كان فكره السياسي ضحلاً بمقدار ما كشفتت مدى أنحطاط الذين خلفوه الذين لم يستوعبوا أن عليهم أن يتعلّموا من تجارب الماضي القريب... أقلّه من أجل العراق والعراقيين.
بعد أربع سنوات من بدء العملية العسكرية الأميركية، يبدو المشهد العراقي مخيفاً لسببين على الأقلّ الأوّل داخلي وألآخر أميركي. يعود السبب الأوّل ألى أن الذين خلفوا صدّام حسين لم يتمكّنوا من أن يكونوا أفضل منه في أيّ شيء. مارسوا الأنتقام بدل ممارسة العدالة ولم يظهروا في أيّ وقت أن في أمكانهم بناء مؤسسات لدولة ديموقراطية. على العكس من ذلك، زادوا من السلبيات التي كانت سائدة في عهد صدّام بل طوّروها ولم يبقوا ولو على أيجابية واحدة بدليل أختفاء الشعور ببعض الأمان الذي كان يحسّ به العراقي العادي في عهد صدّام. هل طبيعي أن يُعدم صدّام ثمّ أخوه غير الشقيق برزان التكريتي وعوّاد البندر وطه ياسين رمضان الجزراوي بالطريقة التي أعدموا بها والتي تنمّ عن رغبة في الأنتقام لدى حزب مذهبي موال للنظام الأيراني وجد نفسه في السلطة بفضل الأميركيين لا أكثر ولا أقلّ؟ العدالة تبني دولاً ومؤسسات في حين أن الأنتقام يهدم الدول والمؤسسات! ربّما ادرك الشارع العربي ذلك متأخّراً فخفّت حماسته تجاه كل من له علاقة من قريب أو بعيد بالأحزاب المذهبية التي تتولى السلطة في العراق بدعم من الأميركيين... وبشعارات معادية لهم. وفي طليعة هؤلاء يأتي quot;حزب اللهquot; في لبنان الذي هو ليس سوى لواء من ألوية quot;الحرس الثوريquot; الأيراني، بعناصر لبنانية. يا لها من مفارقة عندما يتعلّق الأمر بالعراق حيث يتحوّل quot;الشيطان الأكبرquot; ألى حليف يجب السكوت عنه ومحاربته بالكلام فقط!
يرتكب الذين خلفوا صدّام كلّ ما أرتكبه من فظاعات في حق العراقيين، مع فارق أن وحدة البلد صارت مهددة وأن العراق وسط حرب أهلية أرتدت طابعاً مذهبياً. أنّها حرب تهدد المنطقة كلّها. هل هذا ما عناه كولن باول عندما تحدّث عن أعادة تشكيل الشرق الأوسط أنطلاقاً من العراق؟
أما السبب الأميركي الذي يجعل المشهد العراقي مخيفاً، فأنّه عائد ألى أن الولايات المتحدة باتت في حاجة ألى حرب أخرى لتبرير حربها على صدّام حسين ونظامه أو على الأصح من أجل ألاّ تخرج مهزومة من العراق.
ما يتبين يوميَا بالملموس أن الحرب الأميركية على العراق أنتهت بأنتصار تاريخي لأيران غيّر كلّ الموازين في المنطقة بشكل جذري. لولا الأنتصار الأيراني في العراق الذي حطّم ما كان يعتبره الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الحدود القديمة التي تفصل بين حضارتين كبيرتين (الحضارة العربية والحضارة الفارسية)، لما كان في أستطاعة النظام الأيراني تحدي الأسرة الدولية وجيرانه ببرنامجه النووي. لولا الأنتصار الذي وفّرته اميركا لأيران في العراق، لما كان النظام الأيراني لاعباً أساسياً في لبنان حيث صار النظام السوري تابعاً له... ولما كان لاعباً في فلسطين ولما كان قادراً على أحكام سيطرته على جزء من العراق، حيث الجنوب شبه محافظة أيرانية.
يبدو الفشل الأميركي كبيراً في العراق، اللهم ألاّ اذا كان المطلوب تفتيت البلد تمهيداً لتقسيم جديد للمنطقة ولتوزيع مختلف لموازين القوى فيها. أن الفشل الأميركي في العراق أكبر بكثير من الفشل الفيتنامي. خرجت الولايات المتحدة من فيتنام في العام 1975 وما لبثت أن استجمعت قواها وأنتصرت في الحرب الباردة على الأتحاد السوفياتي. أذا أنسحب الأميركيون من العراق وتركوه لأيران، سيكون الخليج كله بثرواته الهائلة تحت رحمة النظام في طهران. هل في أستطاعة العالم الصناعي الممتد من اليابان، ألى الهند، ألى الصين، الى جنوب آسيا بنمورها الأقتصادية، الى اوروبا كلّها ... ألى الولايات المتحدة نفسها أن يواجه هذا الوضع؟
بعد اربع سنوات على بدء الهجوم الأميركي في أتجاه بغداد، تكشّف عمق المأزق الأميركي. مأزق عميق ألى درجة تبدو معه حرب فيتنام، بالمعنى السياسي، أقرب ألى نزهة. الفارق الذي يعبّر أكثر من غيره عن عمق المأزق الأميركي أن الأنسحاب من فيتنام كان خياراً ممكنا ومتاحاًً. أما الأنسحاب من العراق، فأنّه لا يبدو خياراً، أقلّه من دون ترتيبات أقليمية واضحة ومحدّدة تبدو ألى أشعار آخر مستحيلة...
ألى أين ستهرب أميركا من العراق؟ هل من خيار آخر غير التصعيد العسكري بعدما أدخلت نفسها في حلقة الحروب التي تجرّ ألى حروب أخرى؟ لا جواب واضحاً ألى الآن. ما يمكن قوله أن الشرق الأوسط مقبلٌ على أحداث كبيرة قبل نهاية السنة 2007. ما يدلّ على ذلك التصعيد الأيراني المستمرّ الذي كان أفضل تعبير عنه أحتجاز جنود من البحرية البريطانية في الخليج من جهة والقرار الأخير لمجلس الأمن الذي يزيد العقوبات المفروضة عللى أيران من جهة أخرى. هل مخاوف بريزنسكي في محلّها. الجواب: ربّما كان الأمر كذلك، في غياب مخرج للأميركيين في العراق ورغبة النظام الأيراني في أثبات أنّه صاحب الدور الأقليمي في المنطقة، من أفغانستان ألى قطاع غزة مروراً بسوريا ولبنان... ومن مضيق هرمز ألى صعدة في اليمن!