قليلة هي المرات التي كتبت فيها في شأن بلادٍ أخرى، بل وكنت أحارب هذا الاتجاه من الكتاب العرب الذين لا يستطيعون الكتابة عن شؤون بلدانهم خوفاً من سلطات بلادهم وهذا الخوف مبرر ومشروع لكل نفس بشرية، لكني أعيرهم بصمتهم عم يجري في بلدانهم حينما أسمع أصواتهم تعلو وهم يتناولون شؤون بلدان أخرى..

وقد ظل الشأن العراقي بالنسبة لي يخضع للتداول الشفهي في الغالب، في الانقسامات الحادة بين المثقفين السوريين والعرب.. رغم أنهم يدرسوننا في مناهج الجغرافيا السورية بكل صلافة أن منطقتنا ( الجزيرة السورية ) هي تاريخياً عراقية متخذين من هذا حجة لدحض تقسيمات سايكس- بيكو، ومؤكدين على الوحدة العربية القادمة. وهو ماتدعمه العادات والتقاليد واغاني الحزن العراقي والندبيات في المآتم والسواد الذي يلف النسوة وحزن أمهاتنا اللواتي ينحن على أمواتهن، بمواويل عراقية...

وباختصار شديد كنت مع الاطاحة بصدام إبان الحرب الاخيرة، وكانت وجهة نظري أن لا خيار منطقي وواقعي آخر ومن يقول أنه ضد صدام وضد الاحتلال ليس سوى مراوغ يريد أن يطيل أمد معاناة الشعب العراقي، وكنت فتيا عند اجتياح صدام للكويت وكنت ضد هذا محملاً بإرث الكويت الثقافي في ذاكرتي، وحق الدول في استقلالها، ومبتعداً عن دعاوى القومية العربية، وكنت ولازلت ضد الدكتاتوريات ومناصريها.. ليس ما أدونه هنا سرداً quot; لبطولات quot; فهو لم يكن مكلفاً على أية حال لكني أورده هرباً من سوء التأويل، وعله يشفع لي فيما أقوله.

اذكر أني بكيت حين رأيت الاثار العراقية تنهب وتدمر لكني أقنعت نفسي أن الانسان أهم، فهاهم يسحلون تمثال صدام ويضربون صوره بالنعال...
وفيما بعد بقليل، راهنت على قاطرة النمو القادمة والتي ستوحد العراقيين، وحين تتم المقارنة من بعض المعارضين للاحتلال بين ما حصل في افغانستان وما سيحصل في العراق ارفض بشدة مستنداً الى وقائع اقتصادية وبشرية عديدة، ففي العراق مخزون نفطي كبير، وأيضاً الشعب العراقي يمتلك ثروة بشرية مؤهلة، والثروات البشرية هي التي تقود النمو في العالم اليوم، وهناك المحن والآلام التي خلفها صدام، فقد كانت من وجهة نظري تحصيناً جيداً لا تمكن الضحية أن يتحول الى جلاد، وهناك ملايين العراقيين المهاجرين الذي خبروا الحياة الديموقراطية في بلدان المهجر ولابد أنهم تعلموا منها، وهناك الكتلة الكبيرة من المثقفين العراقيين التي هي في الغالب علمانية وذاقوا بطش وظلم الدكتاتورية.

لن أدخل في التفاصيل والوقائع اليومية والذبح والسيارات المفخخة، فمنذ شهور أصبحت صلتي محدودة بالقنوات الاخبارية، ومنذ فترة طويلة وأنا اراجع خيارتي فقد كتبت منذ سنوات مقالاً على صيغة سؤال مورداً وقائع غير متعسفة، quot; احتلال الدول المتخلفة هل هو الطريق الوحيد للخلاص؟ quot; وكنت مدفوعاً بما حدث في العراق. كان في قرارة نفسي الجواب الذي لم أقله في المقال وهو: نعم ليس هناك طريق آخر لمنطقتنا
ماحدث في العراق أوهنني بشكل شخصي، فقد كنت أراهن على أن يكون العراق نقطة تغيير في المنطقة quot; وبعيداً عن الرؤى والطموحات الأمريكية quot; وأن العراق هو كوريا القادمة وأن...
غير أني خذلت، لن أنزلق الى الترحم على ايام صدام بكل تأكيد كما يفعل المتباكون العرب الذين لا شأن لهم في العراق، لكني سأبلغكم وهني واحتجاجي
فلقد أجلت مشاريع شخصية، بانتظار العراق..
و كلما هممت بتغيير مكان إقامتي أتردد وأقول لننتظر العراق
والعراق يبتعد، وضوؤه يخفت
لا اتوجه هنا إلى الساسة ولا إلى المليشات ولا إلى المفخخين وهم يحصدون الناس، بل أتوجه لكم أيها الأصدقاء العراقيين الذين قرأتهم جيداً وحفظتُ أشعارهم وقصصهم وقرأت عذابات هجرتهم، أين أنتم ؟.
لماذا لم تستطيعوا أن تفعلوا شيئاً لمحاولة إيقاف نهر الدم المتدفق والذي يجرف أحلامنا في طريقه؟ نعم أحلامنا، فما يجري في العراق يبهج كل الدكتاتوريات في المنطقة، ويبهج الخطابة القومجية على الفضائيات وإن ادعوا العكس..
لقد كنتم أيها المثقفين العراقيين عماد الحراك السياسي في الخارج لماذا حين جاء الوطن quot; ولو على خجلٍ كما بدا ذلك لاحقاً quot; لم يعد صوتكم قوياً وواضحاً؟.. لماذا حضرت الطوائف و الاثنيات وغاب الصوت العراقي، الذي هو أنتم ؟.. لماذا عدتم كإبن ضال الى اثنياتكم وطوائفكم وعشائركم، وتركتم العراق؟...
لقد كان العراقي العربي quot; بشمركة quot; في جبال كردستان، وكان الكردي في خارج العراق عراقياً لقد قابلت الكثير منكم، وحينها لم أكن أعرف أن صديقي فلان شيعياً وذاك سنياً وذاك كردياً أو آشورياً... لم نكن نعرفكم حين نلتقيكم سوى عراقيين...
حسناً أنا أحتج..
إنكم بهذه الصيغة من عدم الفعل، لا تؤخرون العراق المأمول فحسب، بل تدمرون مستقبل المنطقة كاملاً، وستجعلون من الدكتاتوريات القائمة ملاذاً للناس، قانعين بما هو معلوم على ما هو مجهول وقاتم ومثاله العراق.
أحتج على كل الجثث التي في الشوارع، وفي الحفر، وفي البيوت
أحتج على السيارات التي حصدت البشر وآمالهم
أحتج على صور التعذيب البشعة في العراق الآن
أحتج على ذبح الفلسطينين في العراق
أحتج على ذبح السوريين في العراق أيضاً
وأنتم تعرفون أن هؤلاء الفلسطينيين والسوريين لم يختاروا العراق بإرادتهم، لقد هربوا من الذبح وهاهم يذبحون الآن..
لست طوباوياً، ولست حالماً، يمكنكم أن تكونوا العراق الجديد إذا ما عدتم له، إذا ما نزعتم عباءات الطوائف والعشائر والقوميات، وأجزم أنكم تستطيعون التأثير وإلا لما أبلغتكم احتجاجي لا تكونوا جزءا من نهر الدم المتدفق ولا مبرريه ولا مفسريه، ولا مرشديه...
أيها الاصدقاء ليست وصايا.. لكنّا نريد صوتكم لنستند إليه في مشوارنا الطويل
أريد صوتكم فأنا اختنق برائحة الجثث والديكتاتوريات