لا شك أن التركمان جزء هام وعزيز في بنية التكوين الشرقي. التركمان كما العرب والكُرد والفرس والآخرين شاركوا في بناء تاريخ الشرق، وتركوا بصماتهم عليه، تدل على كونهم جزءً منه عبر الأزمان. ما يجمع التركمان بالآخرين من ابناء المنطقة مراتب في الأخوة على مستوى الدين والأرض والتاريخ والجغرافيا. أسس التركمان أمارات وممالك مهمة ودافعوا عن الشرق ضد الحملات الخارجية، وقدموا قيادات تاريخية هامة.
توزع التركمان في المنطقة فعاشوا في مصر، اليمن، العراق،ايران، سوريا وكُردستان بمرتبة الشريك في العناصر التي ذكرناها. لكنهم لم يحافظوا على وجودهم القومي بشكل تام وغلب عليهم الانتماء الديني والانصهار في حضارة الاسلام التي تشكل العربية لغتها المشتركة،غير الاجبارية، بين مللها ونحلها. في العراق وايران والى حدٍ ما في سوريا استطاع التركمان الحفاظ على تجمعاتهم كاثنية متميزة عن غيرها بلغة محكية، حافظوا عليها جيلاً عن جيل. بالطبع ليس هناك عرق تركماني نقي وصاف. فقد صاهر القوم الأقوام الأخرى في المنطقة ولم يعد هناك مجال للحديث عن الفواصل التي تفرقهم عن غيرهم. هذا لا يعني انهم كجماعة قومية لا تملك حق الاختيار في كيفية الوجود وطريقة الحياة. فهم أحرار شأنهم شأن الآخرين دون نقص أو زيادة.
بعد انهيار الدولة العثمانية وظهور الدولة الاقليمية القومية، تعرّض التركمان الى الاجحاف والظلم لاسيما في ايران والعراق. كانت اللغة الفارسية تشكل اللغة الرسمية في الدولة العثمانية. في عهد السلطان محمود الثاني ظهرت الى الوجود اصلاحات معينة، وبدأ نوع من الاهتمام باللغة التركية. ومن هذا الباب قامت الدولة العثمانية بتوظيف امتيازات معينة لموظفيها، من ابناء القوميات المختلفة في الدولة العثمانية المترامية الاطراف، تمثلت في تشجيعهم التحدّث باللغة التركية والزواج من امرأة تركية. هذا الأمر بالطبع أغرى الكثيرين من العرب والكُرد وآخرين للحصول على هذه الامتيازات والمكاسب.
اليوم أصبح وضع التركمان شأناً سياسياً في العراق، ووضعاً قلقاً على أكثر من صعيد خصوصاً في ما يتعلق بوجودهم في كركوك وعلاقتهم بالكُرد.
في العراق يتوزع التركمان مذهبياً بين الشيعة والسنة، الا ان السنة يشكلون الأكثرية حسب اكثرية الآراء.
لا يمكن فهم التكوين التركماني المعاصر من دون قراءة وفهم التاريخ الكُردي ومراحله المختلفة. فمعظم التركمان يعيشون في شمال العراق، اي اقليم كُردستان. ومعظم التركمان يتوزعون بين كركوك وأربيل ومناطق محاذية لمدينة موصل.
بالطبع يرفض بعض التركمان مصطلح كُردستان تيمناً بالاتراك الذين كانوا الى أمس قريب يرددون تعاليم أتاتورك القاضية بعدم وجود شئ اسمه كُردستان. هذه التعاليم كانت معمولة في الدولة التركية بمرتبة شعائر مقدسة. المفارقة العجيبة ان اول سلطان تركماني اطلق لفظة كُردستان على المناطق الكُردية هو السلطان سنجر السلجوقي في القرن الثاني عشر الميلادي. والسلطان انما كان يستعمل الاسم القديم لهذه المنطقة التي يشكل الكُرد اكثريتها، وقد عاشوا متسامحين مع القوميات الاخرى كالتركمان والآشوريين والكلدان وآخرين.
واجه الكُرد حملات ابادة عرقية في الدول التي تقتسم كُردستان. والاكراد قاموا بثورات كثيرة من اجل حقوقهم القومية ، لكن اغلب هذه الثورات باءت بالفشل، وعانى الكُرد مرارات عظيمة، ولعبت القوى الغربية دوراً خبيثاً في صب الزيت على النيران التي مازالت تلتهب في الشرق.
أمواج كثيرة من المجتمع الكُردي تعرضت للترحيل والهجرة والذوبان القسري والاختياري المفروض. من شدة الهول تحول الاكراد الى عرب وتركمان وفرس وآخرين هروباً من الجحيم الذي كان يلاحقهم بسبب الهوية الكُردية. هذا طرف من المعادلة بل ونتيجة لتراكمات سابقة عديدة اهمها التكوين العشائري الكُردي غير الجذاب للتركيب الاجتماعي المدني الحديث الذي يبحث عنه البشر.
في مقالات لنا على الايلاف تحدثنا عن البنية الاجتماعية الكُردية، لاسيما في المقال المعنون ( أسرار الأحقاد في بلاد الأكراد). التركيبة الكردية مفتتة وغير جامعة للبشر الذين تحويهم، على ان تجمعهم بصيغة مدنية عادلة وفي اطار قومي متبلور ومتناغم. الاقطاعية والقبلية مستحكمة بالمجتمع الكُردي استحكاماً غليظا. وبالاضافة الى القهر والظلم الطبقي كانت هناك مخاطر أخرى تواجه الأكراد تمثلت عقاباً على الهوية التي لم يكن لهم اختيار فيها. من هنا حدثت فجوة كبيرة في البنيان الكُردي النكد، أفرزت ظواهر جديدة عبرت عن نفسها بمستويين مختلفين، الأول: هجرة الكُرد من مناطقهم في كُردستان نحو المدن/المراكز في الدول التي تقتسمهم، فحدث الانقلاب والتحوّل، الى الهوية الغالبة (التركية، العربية، الفارسية وهويات أخرى تبعاً لمنحى الهجرة الكُردية). والثاني الانقسام والتشرذم الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي وصل الى حد المواجهة والصراع داخل التكوين الكُردي نفسه.
وبما أن هذه الظروف استمرت لآماد طويلة اصبح معها الاحتفاظ بالهوية الكُردية أمراً في غاية البلاء، خصوصاً وانه لمجرد البقاء بهوية كُردية في مدن كُردستان كان كفيلاً بإنزال القصاص الذي لم يبد يوما اي رحمة.
وبما ان عمق المناطق الكُردية اصبح ساحات لحروب مختلفة، منها ماكانت تدور بين الأحزاب الكُردية والحكومات المركزية، ومنها تلك التي دارت بين قوى اقليمية كالحرب العراقية-الإيرانية، فإن هجرة الريف الكُردي المكثفة بدأت تتدفق على المدن من قبل منطقتين: الجبال والسهول.
قبل ذلك كان هناك جمع غفير من الأكراد اعلن مسبقاً استقالته من الهوية الكُردية، تحت وطأة الأحداث والمظالم. هذا الجمع ارتأى تبني الهوية التركمانية ترغيباً وعلى مضض!
فهؤلاء الذين كانوا حسب التعبير الكُردي (ده شته كي اي سكان السهول من القرى) و (عشائر الجبال) بدأوا يميزون انفسهم باللغة المحكية التركمانية لاثبات مجموعة مسائل: أولاً: الرفض القاطع لنظام الاقطاع الذي استعبدهم داخل الدائرة الكُردية والذي فرّوا منه. ثانياً: تجنب المخاطر والمشاكل بسبب الهوية الكُردية، خصوصاً اثناء الثورات والمواجهات الكُردية المسلحة مع الحكومات المركزية في العراق على مذهب الابتعاد والسلامة. ثالثاً: محاولة الامتياز من الأكراد في المدينة، والقرويين الجدد الوافدين على المدن بهوية مغايرة التي كانت (اللغة) عمادها الوحيد. رابعاً: الامتيازات التي كانت تعود على الذين كانوا يبتعدون خطوة من الانتماء الكُردي بالحصول على نمط معيشي هانئ وآمن.
وهناك مسائل أخرى ضمن هذه التشكيلة. لكن هذه الحال بدأت تستقطب أكراداً آخرين نحو الدائرة التركمانية التي بدأت اساساً في مدينة أربيل على سبيل المثال من طبقة الموظفين التابعين للدولة العثمانية ومن ثم تحولت الى ظاهرة اجتماعية، ولاحقاً سياسية بسبب الظلم الداخلي (الاقطاعية) وتدخلات خارجية سياسية.
ولذلك فإن معظم التركمان الموجودين اليوم في مدينة أربيل هم أساساً ذوي الأصول الكُردية العشائرية التي تمردت على هويتها بسبب عوامل قاسية. بالطبع هذا لا يلغي وجود تكوين تركماني أصيل يمتد الى عمق التاريخ. لكن هذا التكوين يكاد يكون على نطاق ضيق ومحدود، وقد تعرض الى الانكماش الوجودي ثقافياً وقومياً لأسباب أشّرنا بإيجاز الى البعض القليل في بداية المقال. واليوم بعد أن تحولت هذه الظاهرة الى حالة سياسية قائمة، فإن بعض التركمان الذين شكلوا أحزاباً وجماعات تابعة لدول اقليمية، وجدوا منافذ واسعة للحصول على الثروة والقوة. وبهذا عادت الاطروحة الكردية تثبت نفسها من جديد في ظل الانقسام والتشرذم والولاء لقوىً خارجية، بعداء وصراع،كدأبٍ كردي قديم: شكِّل جماعة واقبِِض من الدوائر/الدول مالاً وسلاحاً وسلطة. ولكن إذا كان الكُرد يعيرون التركمان على تحولهم وانقلابهم، فالأحرى ان يلوموا أنفسهم في عجزهم عن تكوين قومية منسجمة ذات ثقافة منتشرة بلغة واحدة. وكذلك استمرارهم الكسول في الرقود في أحضان الطبقية الاجتماعية المتخلفة التي تتمثل في الاقطاعية والعشيرة المتمكنة سياسياً (نتطرق في المستقبل الى مراكز القوى السياسية عشائرياً في كُردستان والموالية للعواصم الاقليمية والدولية).
ولكن ماذا عن التركمان في العموم؟ أعتقد ان الناس أحرار في إدعاء وتبني اي هوية أو معتقد تشاء. ومن أجل استتباب الأمن والسلام في المنطقة ورفد الأجيال نحو مستقبل زاهر، على التركمان والكُرد ان يتعاونوا ويهجروا الحساسيات والمشاعر القومية المخرِّبة. وعلى الكُرد أن يكونوا على شجاعة وعدالة، ويتقبلوا مطاليب التركمان برحابة صدر. وعلى التركمان ان لا يترددوا في المطالبة بحقوقهم غير منقوصة. ولا أرى ضيراً ان يطالبوا بالفيدرالية في المناطق التي يتواجدون فيها. لكن عليهم جميعاً مصالحة ضرورية وحتمية. على الكُرد أن يتصالحوا مع أنفسهم ويشرعوا في بناء مجتمع متقدم وفق التطور التاريخي لبناء المجتمعات. وعلى التركمان الابتعاد عن التشنجات القومية والنزق السياسي، وعدم الاستمرار في انكار كُردستان. فكُردستان حقيقة تفوق التعبير وانكارها لا يولّد الا تعاسة دفعنا ضرائبها جميعاً في هذه الدول التي أهدرت ثرواتنا من اجل اثبات عدم وجود كُردستان، لما يقارب قرناً كاملاً. لكنها انتهت الى طاولات المفاوضات مع الأحزاب الكُردية من أجل حلٍّ ما، يلعب به الغرب متى شاء. وعلى العاقل أن يعيش من اجل حياة سعيدة ومستقبل أبهى.