اشرنا الى ان الخليفة الثالث عثمان كان المخطِط والمنفِذ الاوّل لفكرة دولة بني اميّة. وفي زمن خلافته امتدّت واشتدّت إمارة معاوية في الشام , وبات الحاكم المطلق عليها بعد ضمانه تأييد غالبية السكّان لزعامته السياسية. فأسس قاعدة شعبية وعسكرية أهّلته لاحقاً لان يكون الطرف الاشرس في النزاع على السلطة , والمؤسّس الفعلي لدولة الامويين , التي شرّعت للخلافة بالتوريث فيما بينهم , وقضت على ايّ احتمالٍ مؤتملٍ في الاحتكام الى النصوص الاسلامية في شئون الخلافة والحكم وغيرها.
هُيّأ هذا التأسيس لاعلان العداء لعليّ وشيعته او جماعته , خصوصاً بعد اتهامه بمقتل عثمان ومن ثم شرارة حرب الجمل التي شجّعت معاوية على اعلان الخلافة لنفسه بالرغم من مبايعة العامة في الحجاز والعراق عليّاً خليفةً للمسلمين من بعد عثمان. وبالرغم من قرار عليّ بخلع معاوية عن إمارة الشام ndash; والتي لم تفعل مفعولها ndash; بحكم ضمان معاوية تأييد اهل الشام له سلفاً.
استلم عليّ الخلافة في مثل هذه الاوضاع الضاجّة بمراكز الانفجار والخلاف والتناقض ,وسنورد هنا مقطعاً من خطبته في ذلك , لما فيها من تشخيصٍ لما سبقه من افعال الولاة والحكّام , والى الحال التي اصبح عليها المسلمون. فقال عليّ حال استلامه منصب الخلافة : ( قد عَمِلت الولاة من قبلي اعمالاً خالفوا فيها رسول الله , متعمّدين لخلافه , ناقضين لعهده , مغيّرين لسنّته. ولو حملتُ الولاة على تركها , وحوّلتها الى مواضعها , والى ما كانت عليه في عهد رسول الله , لتفرّق عنّي جندي , حتى ابقى وحدي , او قليل من شيعتي , الذين عرفوا فضلي , وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول الله. أرأيتم لو أمرتُ بمقام ابراهيم ( ع ) فرددته الى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله كما كان , ورددت فدك الى ورثة فاطمة , ورددت صاع رسول الله كما كان , وأمضيتُ قطائع أقطعها رسول الله لأقوامٍ لم تمضٍ لهم ولم تنفذ , ورددتُ دار جعفر الى ورثته وهدمتها من المسجد , ورددتُ قضايا من الجور قضي بها , ونزعتُ نساءً تحت رجالٍ بغير حق , فرددتهن الى أزواجهن , واستقبلتُ بهنّ الحكم في الفروج والاحكام , وسبيتُ ذراري بني تغلب , ورددتُ ما قُسمَ من أرض خيبر , ومحوتُ دواوين العطايا , وأعطيتُ كما كان رسول الله يعطي بالسويّة , ولم اجعلها دولةً بين الاغنياء , وألقيتُ المساحة , وسويّت بين المناكح , وأنفذتُ خمس الرسول كما أنزل الله عزّ وجلّ وفرضه , ورددتُ مسجد رسول الله الى ما كان عليه , وسددتُ ما فتح فيه من الابواب , وفتحتُ ما سُد فيه , وحرّمت المسح على الخفّين , وحددتُ على النبيذ , وأمرتُ بإحلال المتعتين , وأمرتُ بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات , وألزمت الجهر بسم الله الرحمن الرحيم , وأخرجتُ من أُدخلَ مع رسول الله في مسجده ممّن كان رسول الله أخرجه , وأدخلتُ من أُخرجَ بعد رسول الله ممّن كان رسول الله أدخله , وحملتُ الناس على حكم القرآن , وعلى الطلاق على السنّة , وأخذتُ الصدقات على إحقاقها وحدودها , ورددتُ الوضوء والغسل والصلاة الى مواقيتها وشرائعها ومواضعها , ورددتُ أهل نجران الى مواضعهم , ورددتُ سبايا فارس وسائر الأمم الى كتاب الله وسنّة نبيه................. ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلال والدعاة الى النار ). 1-
في هذا النص النقدي الشامل , أجهز ابن ابي طالب على كل المفاهيم المنحرفة عن رسالة الاسلام التي عمل بها الولاة من قبله , وفي غالبية الاحكام الشرعية تقريباً. وشخّص المنهج الخاطئ , وأعلن باستعراضه الخروقات منهجه المختلف ndash; حسب وجهة نظره ndash; بالاحتكام الى النصوص الاسلامية , كما ذكّر الناس بحقّه الالهي المغتصب , وشدّد على تمسّكه بقيم الحق والعدالة والخير التي عُرفت عنه عبر صحبته الطويلة للرسول , يضاف اليها انّه ابن عمّه وزوج ابنته فاطمة.

نقد و تناحر وتكتلات سياسية ndash; اعلامية :

ورد في نص الخطبة الى مايشير الى نقض من سبقه من الولاة والخلفاء لعهد الرسول ومخالفتهم سنّته. وكذلك ممن عمّموا سيرتهم بين الناس باسم الاسلام - وهي منحرفة عنه ndash; ورأى ان تراكم الاخطاء في هيكيلية الدولة بمكانٍ يصعب اصلاحه بعد سيادة الخراب كل شئ. من هنا نرى ان عليّ استخدم الحرف - لو ndash; في سياق تعداده للخروقات على ارض الواقع , وقارنها بما كانت عليه في عهد الرسول , ليوضح صورة الانحراف المنافية للكتاب والسيرة.
اعترض عليّ ايضاً على السياسة المالية التي أُسّست في زمن عمر واستمرت في زمن عثمان , وأشار بانّه - لو ndash; استطاع , لمحى او ألغى تلك الدواوين او المؤسسات , لاعتقاده بانها اسّست للفرقة والتمييز بين المسلمين , ولم تكن تعطي كما كان الرسول يفعل بالسويّة. وأشار الى انها دولة للأغنياء قد قُسِم فيها المسلمين الى درجات حسب منابتهم القبلية والاجتماعية. اذ كان عمر يعطي 5000 درهم لفئةٍ , ولاخرى 4000 درهم وفئةٍ ثلاثة الآف واخرى خمسمائة... وهكذا.
في هذا التقسيم نشأت فئات غنية على حساب فقراء الامّة وبسطاء الناس , الذين لم تتحسّن احوالهم رغم الاموال الطائلة التي كانت تتراكم في بيت المال من مكاسب الفتوحات. وهذه الفئات التي اغتنت في عهد عمر , ازدادت ثراءاً فاحشاً في عهد عثمان , خصوصاً الاقرب اليه من بني اميّة. واشار ابن ابي طالب ايضاً الى التنفيذ الخاطئ في قانون الخراج الذي سنّه عمر , وهو قانون لاوجود له في النص الاسلامي , بل جعله عمر جارياً في العراق حسب قوانين امبراطورية الفرس , وفي مصر حسب قوانين امبراطورية الروم.
اشار عليّ الى التطبيق الخاطئ في فريضة الخمس , حيث أسقط منها الخلفاء حصّة ذوي القربى بقوله ( والقيت المساحة ) و ( أنفذتُ خمس الرسول ) وامور المحلل والمحرّم واحكام القرآن والتعامل مع الصحابة والسلوك الشائن... الخ. هذه الخطبة ndash; وثيقة رائدة في تشخيص التشويه التاريخي للنصوص , وإشارة بليغة الى فقهاء السلاطين الذين شرّعوا باحاديثهم وفتاواهم المزورة المغرضة سيرةً اخرى لسلوك رجال السلطة , توازي سلطة النص الاسلامي الاصلي الذي اٌهمل بمرور الازمان , وبات العمل بما ورد في كتب اولئك الفقهاء , الذين سمّاهم عليّ في خطبته ( أئمّة الضلال والدعاة الى النار ).
رأت قريش وزعاماتها في تلك الخطبة بانّ عليّاً سينتهج كل ما هو مضاد لمصالحها , فاعلنوا مخالفتهم له ولمنهاجه الجديد المعلن. واعلامياً سمح ابن ابي طالب بالحديث عن رسول الله الذي منعه الخلفاء من قبله , وطرد القصّاصين الذين كانوا يتحدّثون في المساجد عن سيرتي عمر وعثمان. لكن في المقابل المضاد خصّص معاوية كياناً اعلامياً مبرمجاً , كانت اولى مهامه الاجهاز على سيرة بني هاشم , واستخدم لهذا الغرض أبا هريرة وعائشة وأنس بن مالك. الذين سرعان ما اصبح لكل واحدٍ منهم اكثر من الفين حديث في كتب السيرة لاحقاً. وهذه الكتب مع كتبٍ اخرى في حقبٍ تاريخيةٍ مختلفة اصبحت مصادر للتناحر والفرقة والتكفير والكراهية. فزيّنوا سلالة الزعماء من قريش , ووصفوا معارضيهم بالجهل والخداع والمكر , ودسّوا الاحاديث هنا وهناك لتغيير المشهد الاسلامي الاول , الذي أراد له الرسول ان يسود. ومازالت هذه الاحاديث موجودة في كتب ابن كثير والطبري والسيوطي وسواهم. وهذه القصدية في التنظير لاسلام السلطة أنشأت مراكز تاريخية للثقافة التبريرية السلفيّة , التي لاتحكم الحاضر إلاّ من خلال الماضي الذي زيّنته مسبقاً لاغراضها , ولاتنظر الى المستقبل إلاّ بمزيدٍ من العودة الى ذلك الماضي , يرافقه الكثير من التخوّف والريبة من احتمالات التغيير.
هذه الرؤية السياسية للدين هي التي شجّعت معاوية بن ابي سفيان على توريث الخلافة لبني اميّة دون سواهم , وشجّت فيما بعد بني العبّاس على تكرار الامر ذاته. من هنا يصرّ البعض على ان فعل إحراق احاديث الرسول الخمسمائة على يد ابي بكر , كان غرضه إحراق الآراء والاحكام الثابتة فيها , والتي بالتاكيد ستضرّ بمصالح زعماء قريش , خصوصاً فيما يتعلّق بأمور الخلافة والولاية وسواها. وعليه ورد قول ابي ذرٍ الغفاري في هذا الشأن , بان هدف عملية الاحراق هو تجريد المسلمين من هذا السلاح الهام. وقال ايضاً في اعتراضه على منصب الخلافة : ( لو قدّمتم من قدّمه الله وأخّرتم من أخّره الله , وجعلتم الإمامة في آل بيت نبيّكم , لأنزل الله عليكم نعمةً , والان.... حيث عملتم هذا فذوقوا وباله ( وسيعلم الذين ظلموا ايّ منقلبٍ ينقلبون ). 2-
في غياب التوثيق تصح مقولة الاحتكام الى القرآن , لما فيه من مساحةٍ مرنةٍ وكبيرةٍ للتأويل حسب مقتضى الحال. يعيننا بذلك اشارة ابن ابي طالب الى امكانية التأويل هذه بقوله لابن عبّاس حين أرسله لمناقشة الخوارج لاعتراضهم على أحقيّة عليّ بالولاية , اذ قال له : ( لا تخاصمهم بالقرآن , فأن القرآن حمّال ذو أوجه , تقول ويقولون , ولكن حاججهم بالسنّة , فانهم لن يجدوا عنها محيصاً ). 3-
في الجبهة الاخرى اعتبر معاوية المحصّن جيداً في دمشق ان قرار عزله ndash; الذي لم يُنفذ على الارض - خطوةً كبيرةً الى الامام تحثه على الصراع من اجل تحقيق طموحاته وطبقته وقبيلته من خلفه , لحيازة منصب خلافة المسلمين , وليس إمارة الشام وحسب. وفي هذا المناخ الاستعدائي المتوتر بين الكوفة ودمشق , اندلعت حرب صفين بين جيشي عليّ ومعاوية , التي انتهت بخديعة التحكيم الشهيرة وخذلان عليّ وانصاره. فظهرت حركة الخوارج كاحدى نتائج هذه الحرب , وهي حزب سياسي أطّر نفسه بافكار اسلامية جديدة. فرفضوا نتائج التحكيم وأعلنوا عصيانهم لعليّ ومعاوية معاً , وحكموا بكفرهما. وهذه الحركة اصبحت فيما بعد منهجاً عسكرياً وسياسياً متطرفاً , أتخذ من تصفية الخصوم والعنف الدموي اسلوباً أُشتهرت به.
أردنا القول منذ البدء ان الصراع على سلطة الخلافة انتجت في اعوامها اللآحقة ثلاث تكتلات ظاهرة في المجتمع. شيعة عليّ , الذين يرتكزون الى مقولة حقّهم الالهي المغتصب في الخلافة وسنّة الرسول التي بين ايديهم التي تسندهم بذلك ndash; والتي لم يحرقونها كما فعل ابو بكر ndash; كما يدعمهم في موقفهم هذا بعض الصحابة وقبيلة بني هاشم. في الجهة الاخرى معاوية وانصاره , الذين يطمحون الى منصب الخلافة مستندين الى مقولة السلف , والكتب التي صاغها من اجلهم فقهاء متخصصين , يدعمهم ايضاً في موقفهم هذا بعض الصحابة المنحدرين من ذات الاصول القبلية , ومعهم كافة بني اميّة وكبار التجّار وملاّك الاراضي والعقارات وفئة الاغنياء الجدد في زمن عثمان. وفي جهة ثالثة حزب الخوارج الذي اراد ان يؤسّس مذهباً اسلامياً خاصاً به , مختلفاً وخارجاً على منهجي معاوية وعليّ.
أعلن معاوية الخلافة لنفسه قبل عام من انتهاء خلافة عليّ , اي عام 39-660 م , وبايعه اهل الشام. فاعلن دمشق عاصمةً للخلافة الاموية , وهو التاريخ الفعلي لبداية هذه الخلافة. اي انه في هذه الفترة من التاريخ عاش المسلمون بين خليفتين , واحد هاشمي والاخر اموي , وبين عاصمتين هما الكوفة ودمشق.
بمقتل عليّ عام 40 ndash; 661 م في مسجد الكوفة وهو يصلّي على يد عبد الرحمن بن ملجم , انتهى عصر الخلافة الراشدية وابتدأت الاموية , ولكن مسألة الحق الالهي بالخلافة التي يطالب بها الشيعة , بقيت المحور الاساس للصراع الفكري والسياسي على طول العهود المتعاقبة حتى اللحظة. والتي انتجت بدورها حركات واحزاب اخرى متصارعة , أغرقت نشاطاتها في التفاصيل الصغيرة غير الهامة , برؤيةٍ ماضويةٍ مغلقة , لم ترتفع الى مستوى النظر العقلي في المجالات الفكرية , لتقديم صياغات ممكنة لقراءة الحاضر والمستقبل , وأسلمت امرها لمراجع دينية متقوقعة ترتاب حتى من اشعة الشمس.

المصادر
1-طبقات بن سعد ج3 ص 204
وعند ابي الحديد ndash; شرح نهج البلاغة ndash;
2-تاريخ اليعقوبي ج 1 ص 120
تذكرة الحفاظ ج1 ص1
3- نهج البلاغة ndash; اوصية ndash; 77