تعتبر زيادة المشاركة في القوى العاملة من أهم عوامل التنمية الاقتصادية المستدامة، كما حللت في مقالي السابق quot; تحول الدول الفقيرة إلى دول غنية quot;. لذلك يكتسي دخول المرأة سوق العمل أهمية قصوى، و هو ما يحصل حاليا في الجزائر حسب مقال نشرته quot; نيويورك تايمز quot; بتاريخ 25 مايو الماضي، بعنوان: quot; ثورة هادئة لنساء الجزائر quot;، أهم ما جاء فيه :
quot; في هذا البلد الذي تحكمه التقاليد و عصفت به حرب أهلية تسبب فيها الإسلاميون و أدت إلى مقتل اكثر من مائة ألف شخص، توجد اليوم ثورة هادئة، إذ تبرز المرأة كقوة اقتصادية و سياسية غير مسبوقة في العالم العربي.
تمثل النساء في الجزائر اليوم اكثر من 70 % من المحامين، و 60 % من القضاة و من مجموع طلبة الجامعات. كما لهن دور مهيمن على قطاع الخدمات الطبية، و غالبا ما تكون مساهمة المرأة في دخل العائلة اكثر من مساهمة الزوج.
في منطقة غالبا ما يكون فيها حضور المرأة محدودا، نشاهد المرأة الجزائرية اليوم في مختلف الأنشطة : سائقات تاكسي و حافلات، عاملات في محطات البنزين و نادلات في المطاعم.
بالرغم من هيمنة الرجال على مختلف مستويات الحكم و اقتصار مساهمة المرأة على 20 % من القوى العاملة، و هي ضعف ما كانت عليه منذ عقد من الزمن، نلاحظ وجود المرأة المتزايد في إدارة الدولة. تقول داحو جربال ناشرة مجلة النقد للتحليل الاجتماعي : quot; إذا ما تواصلت الأمور على هذا النحو فسنرى ظاهرة جديدة تهيمن فيها النساء على الإدارة العمومية أيضا quot;.
يبدو أن هذه التغيرات قد غابت عن الجزائريين، الذين بقوا مشدودين للصراع على السلطة بيت الإسلاميين و الحزب الحاكم.
لعل الأساس لما يحصل هنا راجع إلى ما يحدث في نظام التعليم و سوق العمل. لقد فضل الرجال مغادرة الجامعة عندما أدركوا أنها لم تعد مجدية من الناحية الاقتصادية، كما كتب المؤرخ و مدير برنامج شمال إفريقيا بمجموعة الأزمات الدولية quot; هيوج روبرتز quot;، في الوقت الذي اختارت الفتاة الجزائرية الجامعة للخروج من المنزل و تبوء مناصب افضل في المجتمع، إذ يكون المردود هنا اجتماعيا اكثر منه مهنيا.
لقد شق الجيل الحاضر للمرأة الجزائرية طريقه بين الدولة العلمانية و التطرف الإسلامي، طرفا الأزمة الوطنية في السنوات الأخيرة. لا شك أن المرأة الجزائرية هي اكثر تدينا اليوم مما كانت عليه في الماضي، و هي أيضا اكثر حداثة، كما أكد الباحثون الاجتماعيون. فالمراة تغطي رأسها و جسدها طبقا للتقاليد الإسلامية، كما تصلي و تذهب إلى المسجد، و هي تعمل في نفس الوقت إلى جانب الرجل، مما كان من المحرمات، حتى وقت قريب.
تؤكد التحاليل الاجتماعية و عديد النساء أن التدين و الحجاب ساعدهن على التحرر من الأحكام و القيود المفروضة عليهن من الرجال. خلافا للنساء السافرات الاتي قلما تظهرن في الشارع ليلا، نرى النساء المحجبات في المدينة بعد صلاة العشاء. تقول ديني فتيحة ( 44 سنة )، و هي أول امرأة تعمل سائقة حافلة في مدينة الجزائر العاصمة : quot; لا يتجرا الرجال على انتقادي بصفتي متحجبة quot;. و كانت تبعات هذه الظاهرة الجديدة كبيرة و عميقة. انخفضت نسبة إنجاب الأطفال في بعض الأحياء و انخفض عدد تلاميذ أقسام المدارس الابتدائية إلى النصف. كما حصل تأخر في سن الزواج للفتيات بهدف الدراسة ( و كذلك نتيجة البطالة ) من عمر يناهز 17-18 سنة إلى 29 سنة. و غالبا ما يتزوجن من رجال اقل منهن درجة تعليمية مما يخلق لهن واقعا اجتماعيا صعبا.
السيدة خالدة رحمان محامية عمرها 33 سنة، تزوجت من صديق أخيها الذي يعمل حارسا ليليا منذ 5 اشهر. تقول : quot; كلما غادرت البيت احتل مكانة الرجل، لكنني أعود إلى وضعيتي كمراة كلما عدت إلى المنزلquot;. و تقول الباحثة الاجتماعية فاطمة اوصديق : quot; لقد كنا اكثر تقدمية في الستينات من القرن الماضي، لكننا مع ذلك لم نحقق ما تحققه المرأة اليوم quot;. و يقول الباحثون إن ما تحقق للمرأة الجزائرية ليس مرده سوق العمل حيث مساهمة المرأة لا تزيد عن 20 %، بل مرده الطموح الجامح و استغلال الفرص، في الوقت الذي يغادر فيه الشبان الجزائريون المدرسة بهدف الحصول على دخل كتجار في الأسواق غير المنظمة، أو يحاولون مغادرة البلاد، أو يقضون أوقاتهم في التسكع.
لقد فقد الناس ثقتهم في الحكومة التي تستمد شرعيتها من ثورة مضى عليها اكثر من خمسة عقود. لذا كانت المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة ضعيفة، و صوت 970 ألف للتعبير عن سخطهم بإتلاف البطاقة الانتخابية، و هو رقم يقارب المليون و ثلاث مائة ألف صوت لصالح الحزب الحاكم.
أصبحت المظاهرات و الاحتجاجات ظاهرة معتادة ضد الفساد و ضعف الخدمات و الفوارق الاجتماعية. كما هناك أعمال عنف و تفجيرات موجهة للبوليس و ممثلي الحكومة و الأجانب. و يوم 11 أبريل الماضي هزت ثلاث تفجيرات مكتب رئيس الحكومة و مراكز الشرطة في الجزائر العاصمة، مخلفة 30 قتيلا.
في هذا الوضع خرجت المرأة كقوة طليعية للتغيير الاجتماعي في الجزائر، و كان لحضورها في بيروقراطية الدولة و في الشارع انعكاسات اجتماعية باتجاه الحداثة و الاعتدال. يقول أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة الجزائر عبد الناصر دجابي:quot; بإمكان المرأة و الحركة النسوية أن تقودنا إلى الحداثةquot;.
مثل هذه التطورات لا ترضي الجميع، إذ أكد بعض الباحثين أن الزيادة الأخيرة في الأنشطة المتطرفة للإسلاميين، بما فيها التفجيرات، تهدف إلى عرقلة التغيير الاجتماعي الذي تشهده البلاد، خصوصا فيما يخص المرأة. كما يشتكي آخرون من أن المساهمة المتزايدة للمرأة في المجتمع تخالف العقيدة. صرح أحد الأئمة في مدينة الجزائر :quot; أنا ضد كل هذا لانه خطا من الناحية الدينية، المجتمع اخذ طريق الخسران quot;.
لقد نما تيار الحفاظ على الهوية في منطقة الشرق الأوسط. و هو بالتأكيد المسالة الأكثر تعقيدا في جزائر اليوم. فالدولة التي خط حدودها الاستعمار الفرنسي، و حصلت على استقلالها بعد حرب ضروس سنة 1962، اختارت الإسلام و العروبة كهوية لتوحيد الدولة. و عوضت العربية الفرنسية كلغة تدريس، و تم تعويض المناهج الفرنسية بمناهج يطغى عليها الطابع الديني.
اليوم و بعد أربعة عقود يتجه الشباب اكثر إلى العربية و شؤون الشرق الأوسط. لذلك نجد قناة الجزيرة أكثر شعبية مقارنة بالقنوات الفرنسية.
لقد حصلت الأفكار الإسلامية الراديكالية على دعم شعبي، في التسعينات من القرن الماضي، و تم القبول بالإرهاب كوسيلة للوصول إلى الحكم. و قتل ما يزيد من مائة ألف مواطن جراء ذلك. اليوم يقول المواطنون إن التجربة الماضية أرغمتهم على نبذ الآراء الراديكالية. لذلك و رغم أن الجزائريين هم اكثر تدينا اليوم من التسعينات من القرن الماضي، فهم يحتضنون الحداثة بصفة اكبر، و هو ما يفسر ظهور المرأة كقوة في المجتمع. و إن يبدو الأمر مختلفا في المناطق الجبلية النائية حيث مازالت النساء تخضع للتقاليد.
في الوقت الحاضر، مازال الضمير الجماعي مصدوما بسنوات الحرب الأهلية، حتى يتقبل التطرف و الإرهاب الإسلاميين. و يبدو أن هامش حرية النساء في الوقت الحاضر هو نتيجة هذا الإحساس الجماعي. لقد رفضت الأغلبية التفسيرات الراديكالية للدين، و هناك رجوع للجذور الصوفية و تفسيراتها، كما يؤكد على ذلك الباحثون و رجال الدين.
مهما يكن من أمر فالشارع الجزائري يبدو متفائلا. تقول وحيدة النبطي لا اعتقد أن أي من هذا يتناقض مع الدين، فالإسلام يقر بحق العمل للمرأة، و هو على أية حال شان شخصي بين الفرد و ربه. و تواصل السيدة النبطي التي ترتدي الحجاب و لباسا اسود اللون يغطي جسمها بالكامل: آمل أن يكون بإمكاني أن أسوق شاحنة حتى استقل ماليا، إذ quot; لا يمكن الاعتماد دوما على الرجالquot;.
يمثل تحرير المرأة من التقاليد البالية هدفا بحد ذاته عملت على تكريسه مجلة حقوق المرأة في تونس للعام 1958 و المدونة المغربية التي صدرت في 2003. و يبدو أن تخلف الجزائر في هذا المجال لم يمنع المرأة هناك من استغلال فرص التعليم و احتياجات سوق العمل لتفرض نفسها كقوة اقتصادية و اجتماعية لا يستهان بها. و هذا مؤشر إيجابي سوف يدفع بدوره إلى مراجعة القوانين و التشريعات القديمة لإلغاء كافة العراقيل و أنواع التمييز، و بذلك تصبح المرأة الجزائرية مواطنة كاملة الصفة.
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن
[email protected]