الكتابة، كما يقال، فعل حياة. وحينما يكف هذا الفعل عن النشاط، يكون الكاتب قد أعلن موته. من جهتي، ربما كنت قد أشهرت هكذا إعلان مؤخراً بتوقفي، الطاريء، عن الكتابة. على أنه، وكما في أسطورة quot; تموز quot; الرافدية، أجدني وقد بعثت ثانية للحياة بقدرة ربيع الكتابة. وها أنذا أعود ثانية للقلم، متشبثاً به ـ كقشة الغريق. بيد أنه، للمفارقة، كان لا بدّ للأسطورة القديمة أن تتناطح مع التكنولوجيا الحديثة. أقول ذلك لأنّ سبباً، مباشراً، كان وراء كفي عن التواصل مع الكلمة؛ ألا وهو عطل في كمبيوتري، العتيد. فعلى الرغم من كل الإحتياطات والحرص، كان هذا الجهاز، العزيز على قلب صاحبه، من أولى ضحايا إنتقالي للمنزل الجديد.
منزل جديد، إذاً، وهموم قديمة، متجددة. إنّ تشديدي، آنفاً، على أنّ عطل الكومبيوتر كان وراء حتف أنفي، ذاك الموصوف، لهو دلالة على أنه ثمة أسباب اخرى، غير مباشرة: إنها معاناتي مع البيروقراطية المزمنة؛ هنا في السويد، حيث أقضي حكماً بالنفي، مؤبداً على ما يبدو. فسوء الفهم الذي طالما محضني إياه أهل البلد، الأرقى في عالمنا التعس ـ كذا، لا أظن أنه سيجد له نهاية قريبة ؛ وخصوصاً مع جيرة السعد. كأنما هو جزء من ذلك الحكم المؤبد؛ كأنه قدر غاشم، لا مناص منه ولا مفر. وإذ لا يشعر هؤلاء، وأولئك، بالحرج حتى إزاء معاناة أطفالي، فإنني بالمقابل يعتورني الخجل الآن من تكرار مأساتي على مسمع الأصدقاء والمعارف. وعلى هذا، أراني مضطراُ إلى الغض أمامهم عن تلك السيرة، المشينة، وتغيير الحديث ما أمكن. كذلك الأمر هنا، فيما يتعلق بالقراء الأكارم، والذين عرفوا قبلاً بالموضوع ويحق لهم أن يسأموا منه. إننا عادة ً ما نلتذ بثمار الصبار، في صيف حياتنا الحار، الكئيب. أما عن معاناة البائع مع الأشواك المؤذية، فلا نكترث بها إلا قليلاً.
العزلة، هي مقدور هذا البائع الذي يمنحنا ثمار قريحته / أو روحه بالحقيقة. وحينما يتخلى الكاتب عن طقس عزلته، فلا بدّ أنّ ذلك بفعل قوة قاهرة. وبما أنني ما فتئت أدوّن لكم يوميات مأساتي، فلأقل إذاً أنّ عزوفي عن ذلك الطقس، الأثير، كان أكثر ما عانيته في أعوامي الأخيرة. زواجي ما كان موفقا؛ ولكن هذا حديث آخر. خلى المنزل إذاً من العائلة والأولاد ـ من غير شرّ! ـ ليضحي عاماً بعد الآخر، مأوىً للأشباح والساحرات؛ ليصبح صاحبه مباشرة ً تسلية جيرانه، المتضجرين. وداعاً للعزلة، المرجوة؛ لطقس الكاتب وأجوائه وأهوائه وإلهاماته وآماله وأحلامه. على أنه يجب القول أيضاً، بأنّ حيلي آنئذٍ لم تستنفد جميعاً. ومثل بحّار إحتار في أمر مركبه، المشرف على الغرق، فقد طفقت أتفكر مبلبلاً بأمري. لاحظتُ كيف أنّ جيراني إياهم، المحترمين الراقيين، يخلدون للهدوء على حين فجأة، ما أن يحضر ضيف ما لمنزلي. إنهم يخشون من أن يتحول الضيف إلى شاهد، فيما لو تقدمت بشكوى ضدهم للبوليس أو لشركة السكن. quot; وجدتها! quot;، هتفت في سري مبتهجا. نعم، ليكثر الضيوف لديّ وليكفّ الجيران عني بلاءهم المستطير. وهكذا كرت السبحة. ما أن يلوح لي أحدهم بالسلام عليكم، فيما أنا منشغل بأمور حديقة المنزل، حتى أهتف به على طريقة أصحاب المطاعم الحلبية: quot; تفضضضل! quot;. الأصدقاء ( أو سمهم ما شئت ) يتزايدون من حولي، ولكن المشكلة الأساس تضطرد وتتفاقم. إنّ أصدقاءً من أمثال quot; أبو ثورة quot; و quot; أبو مقاومة quot; و.. لا بدّ أن يتبعهم من هو على شاكلة quot; أبي حشيشة quot;.. الخ. والآن، عليك إقناع رجال الشرطة وشركة السكن، بأنكَ بريء يا بيه!
ما كنت بحاجة لهكذا رهط من البشر، لو أنّ جيراني المحترمين كانوا أقل شراسة وعدائية؛ أو لو أنّ شركة السكن قد أوقفتهم عند حدّهم، لمرة واحدة حسب. موظفو هذه الشركة، التي تستولي على نصف راتبي إيجاراً، دأبوا على الردّ على شكواي، الأزلية، بهذا القول: quot; لا دليل على ما تدعيه.. آسفون! quot;. تتوسّع دائرة الجحيم، فأحاول الإستنجاد بالشرطة. يا للهول! إنكَ تعطلنا، يا هذا، عن عملنا في ملاحقة الزعران والسرسرية، من ذوي الشعر الأسود، شروى جنابك. ثمّ يحيلونني، من جهتهم، إلى نفس موطفي شركة السكن، بعدما يتهددونني بالويل والثبور إذا ما عاودتُ الإتصال بهم وتعطيلهم عن مهمتهم، المقدسة. ولكن شركتنا للحق سرعان ما عثرت على الدليل، المفقود. أتصل في صباح أحد الأيام بالموظف المسؤول عن الشكاوى، معيداً على سمعه، الأصمّ، الإسطوانة الكلثومية ذاتها. ويكون جوابه، المعتاد، ذاته. أقول له، ما إذا كان ينتظر أن تقع مصيبة ما، حتى يحصل على الدليل. ولا ألبث أن أتهدده منفعلاً بإحالته بنفسه إلى القضاء، فيما إذا لم يتخذ إجراءً ما بحق أولئك الجيران. إنه يصمت للحظة، قبل أن يطلب مني مهلة من الوقت. ولا يمضي أكثر من بضعة دقائق، قبل أن يعيد الإتصال بي: quot;إنك يا هذا تتهدد جيرانك بالإبادة الجماعية، فيما إذا لم يرحلوا عن سكنهم!quot;. أردّ على الموظف الموتور، بأنني سأشكوه تواً للبوليس بتهمة التلفيق وإساءة إستعمال السلطة؛ فيكون جوابه حاضراً: quot;إلى اللقاء، إذاً، في المحكمة!quot;.

للقضية صلة..

[email protected]