الإيمان بحرية الاعتقاد والتعبير لدى الإنسان انطلاقا من حقه كإنسان، وليس انطلاقا من الفهم الديني والجواز الشرعي، يدلل على مركزية الحداثة ومفاهيمها في حياتنا الراهنة، فهي الحَكَم في تنظيم تلك الحرية لا الفقه التاريخي العاجز عن مجاراة المشاكل والأسئلة الراهنة. فالحداثة وثقافتها هي التي يجب أن تقرر نوع حرية التعبير وحدودها، لأنها هي التي تتحكم الآن في حياة البشر، واتفاق العقلاء لا الفقهاء هو الذي يجب أن يكون المرجع في إصدار القوانين المنظمة لتلك الحرية. أما الإيمان بالحرية انطلاقا من التفسير الديني الفقهي التقليدي والتاريخي فإنه يدلل على أن الخطاب الديني، وليس الخطاب الحداثي، هو البوصلة في تأييد أو رفض حدود تلك الحرية ومجمل الحريات الإنسانية الأخرى، وأن الفقه التاريخي ورجل الدين الفقيه التابع له يحددان، وفق فهم رجل الدين غير الحداثي للنص الديني وللحياة بشكل عام، نوع وحدود تلك الحرية. على هذا الأساس نجد أن التفسير الحداثي للحرية عادة ما يتناغم مع شؤون الحياة الراهنة ومتطلباتها وسلوكها وتطوراتها، في حين أن التفسير الديني التقليدي عادة ما يتعاكس مع شؤوننا، ويكون مزعجا ومكبلا للحريات وطاردا للإصلاح والإبداع والتغيير ومتفننا في صنع المطبات المعرقلة لمسيرة التطور.
فالخطاب الديني التقليدي الراهن، بمفسريه وأنصاره وأحزابه وحركاته، لايزال يعتبر quot;الآخرquot; الديني وغير الديني المختلف معه في تفسير النص والمخالف له في العقيدة، والذي يمثل أحد التحديات في حياتنا الراهنة، خارج مجال أي اعتراف، ومحل تسفيه وإلغاء. ورغم زعم بعض أنصار هذا الخطاب التزامه بمفاهيم الحداثة، مثل الديموقراطية والتعددية وحرية التعبير، فإن تلك المفاهيم عادة ما تجابه بادعاءات وتصرفات تنقض تلك المزاعم، ناتجة عن فهم تاريخي للنصوص الدينية وللعادات والتقاليد لا يتلاءم مع حياتنا الراهنة، ما تجعلها ndash; أي المفاهيم - خالية من أي مضمون باستثناء الشعار. فالعلماني والملحد في هذا الخطاب كافران، والشيعي والاسماعيلي مرتدان، والسلفي ناصبي، والصوفي مشرك.. إلى آخر هذه الأوصاف والنعوت الدينية التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك ضيق الخطاب وعدم إيمانه بحرية الاعتقاد والتعبير. ومهما كانت درجة التأييد الموجودة في نصوص وروح الدستور الكويتي لأنشطة متعلقة بالاعتقاد والتعبير، فإن محصلة ذلك لدى أنصار الخطاب الديني هي عدم الاعتراف بالتعددية الثقافية والفكرية وعدم الإيمان بحرية الاعتقاد. فبعض أنصار الخطاب الديني التقليدي يتغنى بإيمانه بالديموقراطية والتعددية وبحرية التعبير، ومنهم نواب في مجلس الأمة ممن يطرحون رؤى لتقنين التعددية السياسية، لكنهم يجهلون ndash; أو يتجاهلون ndash; أن التعددية السياسية لا يمكن أن تقوم لها قائمة من دون أن تسبقها التعددية الثقافية والفكرية. بعبارة أخرى فإن نواب مجلس الأمة لا يملكون المقومات في أن يكونوا انعكاسا لمجلس ديموقراطي من دون امتلاك المقومات الرئيسية التي تستند إليها الديموقراطية، ويأتي على رأسها الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان وفق النظرة الحداثية لا النظرة الدينية التقليدية. ففهم الإسلاميين قاطبة للدين الإسلامي باعتباره منهج حياة، قائم على quot;لاهوت التسلط والاستبدادquot; أو الهيمنة والإلغاء، أي اللاهوت التاريخي الذي لايزال يرفض مفاهيم بديهية تتكئ عليها الديموقراطية وتستند إليها الحداثة. فالآخر الديني أو الليبرالي أو العلماني أو الملحد لايزال مرفوضا في الخطاب الديني التقليدي. والأنثى لا تزال إنسانا من الدرجة الثانية في مقابل الذكر الذي يحتل منصبا وصائيا، بما جعله قيّما عليها ومهيمنا على أمورها ومتسلطا على شؤونها، وبالتالي مهين لدرجتها في الإنسانية، وآخر الأدلة الكويتية على ذلك القانون المعيب الذي أصدره مجلس الأمة بمنع عمل المرأة بعد الساعة الثامنة مساء. فهل تلك الوصاية تتقاطع مع الديموقراطية؟ وهل مثل تلك القوانين تتماشى مع الحداثة؟.
ولو تمعنّا في الرؤية الدينية، وبالذات السلفية، للحقوق السياسية للمرأة في الكويت، سنجد أنها رؤية سماوية جازمة مرتبطة باحتكار تفسير quot;الحقيقة الدينيةquot; من خلال استنادها إلى صريح النقل، حيث ترفض أي رؤية تفسيرية (دينية أو غير دينية) مغايرة لها، لأن تلك الرؤية المغايرة تسير في الضد لما جاء في تفسير quot;الحقيقةquot; وطرح النقل، وبالتالي سيصبح الأخذ بها معصية دينية ومخالفة صريحة لأوامر الباري. فهل يمكن إيجاد تفسير مناهض للديموقراطية والتعددية أكثر من هذا التفسير، الذي لايزال أنصاره يستحوذون على كراسيهم في مجلس الأمة، حيث لو كنت مكانهم لقدمت استقالتي من المجلس خوفا مما يسمى بـquot;المعصيةquot;.
إن موقف أنصار الخطاب الديني التقليدي من قضايا عديدة من ضمنها الموقف من حقوق المرأة السياسية والاجتماعية، دليل على عدم إيمانهم بالمفهوم الحديث لحقوق الإنسان، وعدم اهتمامهم به إلا في الحالات التي تتحقق لهم مصلحة من ورائها. فالعلاقة الوحيدة التي تربط الخطاب الديني التقليدي بمفهوم حقوق الإنسان هي علاقة فعل ورد فعل. أي أن الخطاب، بسبب استناد فقهه إلى الثقافة التاريخية التي لم تكن تعرف المفهوم وفق صورته الراهنة، لا يستطيع أن يخلق ثقافة عامة وحديثة لحقوق الإنسان. لذا من الطبيعي ألاّ نجد في مشاريع الخطاب الديني اهتماما رئيسيا بقضايا حقوق الإنسان، وإنما اهتمام ثانوي تقتضيه المصلحة أكثر من المبدأ. فلا نجد من تنظيمات ذلك الخطاب ومن أفراده المستقلين اهتماما بخلق وإنشاء مؤسسات للدفاع عن حقوق عامة البشر وفي مختلف مجالات الحياة. كذلك لا نجد نائبا إسلاميا في مجلس الأمة ومن المنتمين إلى لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان قد قام بتبني قضية إنسانية مجردة من صفتها الإسلامية أو الطائفية، بما لا ترتبط بمصالح خاصة أو تتعارض مع فتوى منبثقة عن الفقه، وهو ما يترتب عليه كم كبير من التناقضات في مواقف هؤلاء النواب. فالخطاب الديني التقليدي لايزال في خصومة معه، ومن غير المعقول ادعاءه احترام مفهوم حقوق الإنسان ودفاعه عن قضاياه، في حين أنه لا يزال ينتهك حقوق الفكر والتفكير تحت مسمى الارتداد، وحقوق المرأة تحت مسمى قوامة الرجل وولايته، وحقوق غير المسلم تحت مسمى الذمي والكافر، ويمارس الإرهاب وقتل المدنيين تحت مسمى الجهاد. فإلى حين إعادة النظر في ذلك الخطاب والسعي إلى إصلاحه وتغييره لا يمكن التوصل إلى صلح مع الحداثة.

كاتب كويتي
[email protected]