خضعت كل الثورات التى شهدها العالم على امتداد تاريخه الانساني للآخذ والرد والاختلاف والاتفاق لفترة من الوقت.. ثم بعد فترة أخري من الزمن توصل الفريق المعارض و والفريق المناصر الى تصور قومي لكل من يتصل بتلك الظواهر من جميع جوانبها، يفسرها علميا ويخضعها للتحليل التاريخي والاجتماعي ضمن عناصرها الزمنية والجغرافية والبيئية بمنأي عن الاهواء والتحزبات والاغراض الشخصية والميول غير العملية..
وثورة يولية المصرية لم تبلغ بعد هذه المرحلة ndash; مرحلة الاتفاق القومي بين الفرقاء - رغم قدمها على مستوى العالم ورغم تأثيراتها السلبية والايجابية ورغم انتصاراتها وهزائما حتى أن البعض يُحمل قائدها الثاني جمال عبد الناصر تبعة ما يعيشه الوطن المصري الآن من فترة تاريخية quot; متراجعه quot; وما يعانيه المواطن المصرى من شظف العيش ونقص في كل ما يتعلق بحياته: يومه وغده ومستقبل ابناؤه.. ويرد عليه البعض الاخر بأنه لولا هذا الزعيم الخالد ما عرف العالم العربي ودول العالم الثالث معنى الحرية والعدل ولظل كلاهما يرسف ndash; ربما الي يومنا هذا - فى اغلال العبودية والاستعمار!!..
نقد انظمة الحكم ليس عيبا.. واعادة النظر فيما روته احدث الأمس ليس نقيصة، بل هو مطلب وطنى وحضارى وعلمي لا بد من القيام به والانكباب عليه بشرط ان تتوفر لهذا المطلب الوثائق والثوابت والحقائق والشهادات التى لا تتبدل او طمس بهدف ظاهر او دفين..
آن الآوان أن يتوقف الفرقاء عن التهوين من امر ما قامت به الثورة وعن تأليه ما اقدمت عليه لأن الثوابت التاريخية لا يصح علميا ان تظل رهينة الفكر الاحادى ولا التحليل الذى يميل مع الهوي:
لا يعيب الثورة انها بدأت كحركة مباركة ثم انخرطت فى الحراك الجماهيرى الذى دفعها الى حمل مبادئ التغيير الاجتماعي والاقتصادي وتكليفاتها والتى أدت بلا شك إلي تغيير ملامح المجتمع الذىلا لم يكن قبل قيامها سويا بأى مقياس من المقاييس.. ولا يعيبها انها قامت على اكتاف العسكريين من ابناء هذا الوطن، وهل كان في مقدور غيرهم ان يقوم بهذه المهمة المقدسة!! خاصة وان الاحداث التى اخذت بتلابيبهم منذ اليوم الاول دفعتهم الي التعاون مع غيرهم ممن حملوا لواء التغيير ودعوا الى التنمية والتحديث، وهل كان فى مقدور غيرهم ان يفتح الباب أمام النخب المؤثرة لكي تقوم بهذا الدور؟؟..
يعيب هذه الثورة انها لم تضع بناء الديموقراطية نصب عينيها.. وليس من شك ان العمل علي تحقيق هذا الهدف كان سيمثل درعا قويا يحميها من الهزات التى تعرضت لها واثرت فيها سلبا كما حدث بعد تأميم قناة السويس.. كما كان سيوفر لها الادوات اللازمة لبناء جيش قوي يعد للدفاع عن الوطن ويحاسب قادته على التقصير فى كل ما يتعلق بـ حرب 67..
كانت الديموقراطية ستُأطر لها (اي الثورة) سبل تحقيق الوحدة العربية مع سورية وربما كانت ستدفع بهذا القطر الى مسالك الاخذ بها، وربما كانت ستمثل واحد من عوامل بقاء هذه الوحدة وحمايتها..
بناء الديموقراطية كان سيحمي حقوق الانسان المصري ولا يعرضه للسجن او الاعتقال غير القانوني، وكان سيتناول حقائق ما تعرض له فى كل الحقب عرضا سليما خاليا من الإدعاءات المهولة ومن الانكار غير المبرر في نفس الوقت.. فرغم إقرارانا بكل التجاوزات التى وقعت على امتداد عمر الثورة ومشروعيتها، الا اننا لا نتوافق مع من يقولون أن مصر كلها تحولت الى معتقل بطول البلاد وعرضها..
الديموقراطية هي التى كانت ستحمي القطاع العام من يد النهب والسلب وسوء الادارة وهي التى كانت ستظم عمليات الخصصه التى تحتاج اليها البلاد فى الوقت الراهن، فقد دخلت حكومة بريطانيا فى عهد رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر فى هذا الميدان بخطي ثابته بفضل الدارسات الجادة المعمقة المراعية للصالح العام التى احتضنتها الديموقراطية فكانت ثمرة ذلك خيرا على خزانة الدولة من ناحية وفتحا لباب الاستثمار الجماهيري من ناحية اخرى وادارة رشيده واعية لمراكز الانتاج والمؤسسات التى انتقلت ملكيتها الى القطاع الخاص من ناحية ثالثة..
الديموقراطية هي التى كانت ستحفظ لمصر رؤيتها الصائبة وقدرتها على الفعل عندما تفكر استراتيجيا في توقيع إتفاق سلام منفرد مع اسرائيل.. فاذا قام هذا السلام على تأييد واضح وصريح من القوى السياسية التى تمرست العمل ضمن آليات الديموقراطية، فهو سلام واضح الابعاد ناضج الثمار.. أما اذا رفضت هذه quot; الفكرة الرئاسية quot; ديموقراطيا فليس هناك من يملك الضغط المادي او المعنوى لإثناء الارادة الشعبيية عن رفضها القائم على المرتكزات الحقيقية الواعية..
حتى التغييرات الدستورية والإصلاحات الاقتصادية كانت الديموقراطية ستتكفل بها من حيث استحقاقها وكيفية التعامل معها.. وكانت القوى السياسية التى تربت ضمن فاعلياتها على إمتداد هذه السنوات ستكون قادرة في هذه الايام بالذات علي وضع العلاقات العربية / العربية فى حجمها الحقيقي.. وستكون قادرة على تفعيل الدور المصري تجاه الملفات العالقة فى فلسطين والعراق ولبنان.. وفيما يتعلق بعلاقات القاهرة مع واشنطن كانت الديموقراطية ستكون فى موقع يسمح لها تشريعيا وتمثيليا بقبول التحالف مع امريكا فى شكله الصارخ او برفضه من موقع القوة الاقليمية القادرة على حفظ ماء وجهها..
لذلك نقول انه لا يكفي ان نصمت تجاه النادبين لحظ مصر العاثر الذى اوقعها فى يد عصبة من العسكريين الذين عطلوا مسيرتها.. ولا ان نصفق مع المُصريين علي انها أتت بما لم يأت به سابق لها..
لا بد من النظر الى ثورة يولية بكل مشتملاتها وما تعرضت له من مصاعب وما واجهها من اشكاليات وقبل كل ذلك يجب ان نقيس ما نجحت فيه وما فشلت امامه بمقياس السنوات التى اطلت عليها وضمن اطار العلاقات الدولية التى وجدت نفسها محاطة بها والاطماع العالمية التى احاطت بها.. دون تهوين او تضخيم فيما يتعلق بالمصاعب، او تعظيم او تحقير لما اقدمت عليه من اجراءات..


استشاري اعلامي مقيم في بريطانيا
[email protected]