خلقت التعقيدات الكثيرة في شرقنا قناعة الحوار في عمق بليغ لدى فاضل رسول، المفكر الكُردي الذي ولد بكُردستان عام 1947. فالعمق الاستراتيجي في فكر فاضل يمتد الى عمق تاريخي متمازج، من المستحيل فصله الى جزيئات لا يقوم لها اي بنيان صحيح الأساس والاستقامة من دون صحة الجسم الكلي للشرق في خلال الصياغة البنيوية لتاريخه بعد بعثة الاسلام. وبنوع أو آخر تبلورت هذه الصياغة الفكرية لدى المفكر والزعيم عبدالرحمن قاسملو (اغتيل عام 1989 بفيينا) والزعيم الكُردي عبدالله اوجلان. هؤلاء الثلاثة يتفقون على ان الحل الأمثل للشرق هو وجود كيانات متآزرة ومتعاونة في وحدة حضارية منسجمة نحو بناء مشترك وقوي.
التدخلات الخارجية تزيد التعقيدات الموجودة تعقيدات أخرى، وعوائق كثيرة امام سلامة هذا الجسم ونهوضه الحضاري، وبالتالي ترك الأجيال اسرى بيد البؤس والشقاء والحرمان والتخلف.
من هنا وجد فاضل رسول الحوار الطريقة المثلى والأقل كلفة لفهم قضايانا والوصول الى حلول لها. تمر هذه الأيام ذكرى اغتياله بنمسا على يد عناصر تابعة للجمهورية الاسلامية الايرانية في 13/7/1989.
دأب الغرب على اللعب بقضايانا الداخلية القومية والطائفية لآماد طويلة. والعامل الذي افسح المجال امام هذه التدخلات المخرِّبة هو الصراع الداخلي بين التكوينات القومية والطائفية والحزبية. الصراع الذي يتغذى دائماً وأبداً من العصبيات المقيتة والكثيرة.
احدى هذه القضايا هي القضية الكُردية. فبعد سقوط الدولة العثمانية قسّمت اتفاقية سايكس ـ بيكو الشهيرة كُردستان الى اربعة اجزاء. ومنذ ذلك الحين والصراع ملتهب في تلك الاصقاع ليس بين الشعب الكُردي والحكومات الاقليمية المركزية فحسب، بل وبين هذه الدول وهي تؤلب جماعات كُردية مسلحة ضد بعضها البعض، فضلاً عن تلاعب القوى العالمية بهذه الصراعات في مساندة المتصارعين بادوات الصراع وعوامله.
ايران ساندت اكراد العراق وتركيا ضد هتين الأخيرتين. العراق ساند اكراد ايران وتركيا ضدهما. تركيا بدورها تلاعبت بالقضية الكُردية على اكثر من مسار. سوريا ساندت اكراد العراق وتركيا ضد حكوماتهم المركزية.
منذ ما يقارب قرناً والملايين من الأرواح امست ضحايا في رحى الحروب والصراعات فضلاً عن خسائر باهضة جداً في ميزانية شعوبنا على المستوى المادي والتنموي. تركيا التي بدأت في تأسيسها بانكار الوجود الكُردي عبر انسلاخ عن تاريخها ومحاولة تبني الهوية الغربية، غدت تتوسل باوروبا لقبول عضويتها. لكن اوروبا وباسترخاء ذكي وضعت اولويات لتركيا الهلعة، ومن ضمنها الاعتراف بالوجود الكُردي! اي ان تركيا عادت الى المربع الأول بعد قرن من الخسائر وألاكلاف الباهظة ذهبت هباءً منثورا!
وفي العراق بعد ثمانية عقود من الصراع اصبح الاكراد يشكلون مركز السلطة الذي نبذهم عبر صراع طويل واستنزافي. الأمر في ايران ليس بافضل من ذلك. فمنذ انقلاب اية الله خميني ضد شاه ايران والانتفاضة الكُردية في كُردستان ايران تكرر مشهد الأجزاء الأخرى من كُردستان مع السلطات المركزية.
كان فاضل عبر تاليفاته ومقالاته يدعو الى الحوار والمفاوضات بين المتصارعين. وكان قد أسس دورية منبر الحوار في بيروت عام 1986. في عام 1989 طلبت منه حكومة ايران (الاسلامية) التوسط بينها وبين الحزب الديموقراطي الكُردستاني الايراني (حدكا). الوفد الايراني تضمن الحاج مصطفوي، منصور بزرجان، محمد رحيمي، ومحمد جعفر صحرارودي (قيل انه اعتقل في مداهمة امريكا لقنصلية ايران في اربيل العام الماضي) وكلهم اعضاء في استخبارات الحرس الثوري الايراني.
استمرت المفاوضات في فيننا تموز 1989 لمدة اربعة ايام في جولات مباشرة مع الدكتور عبدالرحمن قاسملو زعيم (حدكا) ونائبه عبدالله قادري آزر. فاضل رسول الكُردي العراقي كان وسيطاً.
ايران لم تكن تنوي اي مفاوضة بهذا الشأن. الأمر كله كان فخاً نصبته (الجمهورية الاسلامية) لقادة الأكراد. وكان لهم ذلك في يوم الخميس اول ايام عيد الأضحى 13/7/1989 حين دخل المفاوضون الايرانييون وبحوزتهم اسلحة آلية ومسدسات كاتمة الصوت. ففي حين كان فاضل ينتظر مع رفاقه الأكراد اعلان اتفاق سلمي، فتح الوفد الايراني نيران اسلحته باتجاه صدور الاكراد الثلاثة الذين سقطوا فوراً ضحايا الحوار الموهوم!
في عام 1992 كررت ايران عملية الاغتيال، هذه المرة ضد الزعيم الجديد لحدكا الدكتور صادق شرفكندي وثلاثة من رفاقه بمطعم ميكونوس في برلين. ثلاثة اشخاص لبنانيين موالين لايران شاركوا في عملية الاغتيال تحت اشراف احد اعضاء استخبارات الحرس الثوري الايراني.
وفي عام 1990 قامت (الجمهورية الاسلامية الايرانية) باعدام العالم الكُردي ناصري سبحاني بتهمة بيع المخدرات! ومن المعروف ان سبحاني ترك خلفه ألفان وخمسمائة محاضرة في الفلسفة القرآنية. وبعد ذلك تمت تصفية كبير علماء السنة بايران، الكُردي أحمد مفتي زاده الذي قضى اثنى عشر عاماً في سجون ايران منذ عام 1980!
واستمرت سلسلة الاغتيالات والاعدامات بحق علماء ومثقفي وقادة الاكراد في ايران.
منذ أكثر من اربعة اعوام وهناك توتر واشتباكات مستمرة بين ايران والحزب العمال الكُردستاني (الفرع الايراني) في مناطق الحدود الوعرة في كُردستان بين ايران والعراق. وبعد ان رفضت تركيا السماح لامريكا باستخدام أراضيها لضرب العراق، والذي اسقط النظام العراقي لاحقاً، سقط الدور الاقليمي لتركيا والذي انيطت به منذ عقود. وبات القلق التركي من جهة القضية الكُردية المتصاعدة من جديد حدأ بدأت تتهم امريكا بالضلوع في دعم العمال الكُردستاني الذي يتمتع بعلاقات مباشرة مع الامريكين منذ اعوام.
اليوم اصبحت قوة العمال الكُردستاني يحسب لها حساب اقليمي. فاكراد ايران, 10 الى 15 مليون نسمة, يتمتع العمال الكُردستاني بشعبية واسعة جدا بينهم, واستقطب الألوف من الأنصار والمقاتلين من صفوفهم. ولذلك فان ايران التي كانت تساند العمال الكردستاني بالامس بدأت تتعاون مع تركيا ضده في تعاون عسكري واستخباراتي وثيق!
إيران مطمئنة في اللعبة الاقليمية عبر قراءة دقيقة لموقف القوى الخارجية من منطقتنا التي عاشت صراعات طويلة عبر قرون. فاستراتيجيات ايران متناغمة ومتجاذبة مع الاستراتيجيات الخارجية منذ القديم والى اليوم. فالغرب الذي تدخل في منطقتنا لآماد طويلة، يشجع الانقسمات والصراعات والحروب بين تكويناته. والغرب بقيادة امريكا اليوم تهيئ وتساند المحاولات التي من شأنها زعزعة الاستقرار والادامة بالفوضى. لكن المهم ان نعرف من هو التكوين الشرقي الداخلي الذي يخدم هكذا سياسات خارجية؟
الجمهورية الاسلامية الايرانية منذ قيامها عام 1979 وهي تشكل باستمرار عنصر القلق والتدخل في شؤون دول الجوار وأخرى غيرها في المنطقة. فاينما وجِد تكوين شيعي في أي دولة أرادت ايران تحويله الى ذراع عسكري وامني لها. فباكستان وافغانستان عانتا من تدخلات ايران في شؤونهما والتي ادت الى مذابح كثيرة بين السنة والشيعة. والعراق كان الضحية الكبرى في هذا المجال. فايران (الاسلامية) فور قيامها ارادت تصدير ثورتها الى العراق عبر أحزاب موالية لها تحكم العراق اليوم بفضل تدخل خارجي باركته ايران ضمناً.
اما لبنان فلا حاجة لذكر التدخل الايراني في شؤونه, فاهل مكة ادرى بشعابها. ودول الخليج عانت وتعاني من محاولات ايرانية هنا وهناك. ويكفي بلاءً شراء دولة الامارات العربية طائرات حربية عام 1999 بقيمة 6.5 مليار دولار امريكي، وصفقات أخرى بمليارات الدولارات لشراء الأسلحة، والأمر نفسه بالنسبة الى دول الخليج الأخرى. جدير بالذكر بلوغ المشادات السياسية مع ايران مبلغ فتنة متوقعة، بعد تصريحات ايرانية معينة تدعي ان البحرين جزء من اراضيها.
ان الوجود الايراني بهذا الشكل يخدم التدخلات الخارجية وانعدام الاستقرار والأمن في دولنا. وان الجانب الذي يساعد السياسات الخارجية وهيمنتها في منطقتنا ليس تلك الجماعات التي تطالب بحقوق معينة وشرعية كالأكراد في تركيا والعراق او اللبنانين في ما يتعلق بنجاح المحكمة التي تبت في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري. وبالطبع هذه الجماعات واخرى مثلها هي جماعات لا تخيف دول المنطقة وليست عوامل لزعزة الاستقرار بقدر ما هي اصحاب قضايا معينة تنجرف احيانا بارادة او بدونها في مخططات مخرِّبة ضدنا جميعا. بل ان الجهة التي تخدم الدوائر العالمية والتدخلات الخارجية هي تلك الدول والحكومات التي تتغذى من عصبيات مذهبية وعرقية تمتد الى عمق التاريخ وتبني سياساتها اشتقاقاً من ذلك. والسياسات التي تمارَس في هكذا اجواء هي التي تُسعد القوى الخارجية التي يقال انها تدعم الفوضى الخلاقة!