quot;نصحتُ لقومي بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النُّصح إلا ضُحى الغدquot; (دريد بن الصمة)
مِن أهم أسباب تأخر العالم العربي وهزائمه المتتالية هو، في نظري، سوء صناعة القرار. القرار لا يصنعه الحاكم ndash; الفيلسوف، وإذا صنعه فقد هَلكَ وأهْـلكَ، بل تصنعه المؤسسات. في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، يوجد 53 معهدا علميا مستقلا عن الدولة، حتى لا تؤثر عليه، يساهم في صناعة القرار فضلا عن المؤسسات الرسمية الأخرى كالأمنية والدبلوماسية ومؤسسة المستشارين المباشرين لرئيس الدولة؛ ولكل وزير مستشاروه. في غياب هذه المؤسسات الضرورية، يصنع القرار مزاج الرئيس ndash; القائد أو أحلامه. ألم يعترف صدام بأنه اتخذ قرار quot;ضم الولاية 19quot; الكويت، quot;في حلم رآه في المنامquot;! (انظر كتاب سعد البزاز: quot;الجنرالات آخر من يعلمquot;، ص 101). بالتأكيد قرار المؤسسات ليس معصوما من الخطأ، ولكن القرار الفردي خطأ كله، وغالبا خطأ غير قابل للإصلاح.
لا أعرف كيف صنع وزير خارجية البحرين، الشيخ خالد بن حمد آل خليفة، اقتراحه ndash; الذي قد يصبح قرارا إذا تشجعت دول الجامعة العربية فتبنته، بإنشاء منظمة للأمن الإقليمي تضم الدول العربية وتركيا وإيران وإسرائيل. ولكني وجدته اقتراحا شجاعا. لماذا؟ لأنه تجرأ على مواجهة الأحكام المسبقة، التي تسبق الفحص النقدي لسلامة مقدمات الحكم، التي ما زالت سائدة في الفكر العربي الإسلامي، فجابه بشجاعة سياسية التابو (=المحرَّم) العربي ndash; الديني ndash; السياسي الأول: ضم إسرائيل إلى منظمة عربية إسلامية يفترض فيها أن تكون quot;نقيةquot; من كل quot;لوثةquot; يهودية أو نصرانية كما تقتضي أحكام فقه quot;الولاء والبراء من الكفارquot;. التابو لا يجوز، في شريعة القبائل المتوحشة، وضعه موضع تساؤل وشك. مَن يجرأ على انتهاكه يعاقبه الأسلاف شر عقاب. الوفاء للتابو أهم من الوفاء لمصالح القبيلة ومصيرها. لماذا هذا الرق النفسي إلى هذا الحد للتابو؟ لأنه وسواس عبادة الطوطم الذي هو سلف القبيلة الصالح الذي يجب أن تُطاع أحكامه طاعةً عمياء وإلا أحال، من وراء قبره، القبيلة إلى هباء منثور. جل، أو كل، الشعوب مرّت في طفولتها بطور الرهبة المقدسة من انتهاك التابو. لكن شيئا فشيئا، وخاصة منذ دخولها إلى الحداثة، عوضته بضوابط وقوانين عقلانية قابلة للنقاش، أي للتطوير والتعديل والنسخ حسب مقتضى الحال. أما الفكر العربي الإسلامي الذي ما زال في مرحلة الانتقال من التكفير إلى التفكير، مما لا نقاش فيه إلى المفتوح للنقاش بلا محرّمات، فالتابو ما زال يسكنه ويشلّه - وهذه وظيفة التابو بما هو عصابٌ وسواسي ndash; عن التفكير المتحرر من المحرمات الغبية.
بلغ تابو تحريم التفاوض مع إسرائيل، فضلا عن زيارتها ومصافحة مواطنيها، ذروته غداة هزيمة 67 في لاءات قمة الخرطوم الثلاث: لا تفاوض، ولا سلام ولا اعتراف. بسلام كامب ديفيد انتهكته مصر. التابو لا يُنتهك إلا مرة واحدة يفقد بعدها سلطانه على النفوس. وهكذا تواصل مسلسل انتهاكه في أوسلو، ثم في وادي عربة وها هو على وشك الانتهاك في هضبة الجولان. يبدو إذن أن النخب العربية الإسلامية بدأت تتهجأ أبجدية التفكير الواقعي الذي لا يطلب من الواقع نتائج مخالفة لقوانينه؛ إنها بداية رحلة الخروج من أحلام اليقظة إلى الواقع المحبط تعريفا؛ واقع عالم خَطِر وغير قابل للتوقّع لأن تسارع التاريخ فيه، أي التغيرات العاصفة أصبحت أكثر سرعة وتعقيدا من أية حقبة مضت. اقتراح الوزير البحريني ينخرط في هذا المنطق البراغماتي المدمر لتابو لم يخدم طوال 60 عاما إلا أعداء السلام في إسرائيل والعالم العربي والإسلامي.
فما هي فوائد ضم إسرائيل إلى منظمة إقليمية شرق أوسطية؟ ضرورة التطبيع معها قبل السلام، بالضبط، لكسر الحاجز النفسي، العائق الذهني الأول لتوقيع السلام معها. لو لم يكسر أنور السادات هذا الحاجز النفسي بزيارته التاريخية للقدس، التي فتحت شهية الرأي العام الإسرائيلي للسلام، ربما لما تم توقيع سلام كامب ديفيد. ألم يقل له موشي دايان: quot;أنت أكثر منا جميعا شعبية في إسرائيلquot;.
منذ تدمير الهيكل الأول في القرن السادس ق. م. إلى تدمير الهيكل الثاني في القرن الأول م.، الذي أعقبه الشتات اليهودي الكبير، والعقلية اليهودية مسكونة برهاب تدمير الهيكل؛ غداة الهجوم المصري السوري في حرب 73، قال وزير الدفاع، موشي دايان، لغولدا مائير: quot;غولدا، إنه التدمير الثالث للهيكل، دعيني أخرج القنابل الذرية من مخابئهاquot;، فصرفته إلى بيته وأحالت اختصاصاته إلى قائد الأركان. من دون إشارات قوية تبدد هذه المخاوف القديمة المتجددة من تدمير الهيكل لن تنفتح شهية الرأي العام الإسرائيلي للسلام. فيبقى السلام رهينة لمتعصبي حماس وquot;جنرالات الاحتياطquot; الإسرائيلي كما اعترف أيهود أولمرت، الذين يرون في السلام، وليس في الحرب، خطرا وجوديا على الدولة. والحال ان صنّاع القرار العرب ndash; بالطريقة المزاجية اياها ndash;، ومنهم أمين عام الجامعة العربية، لا زالوا يؤمنون بأسطورة أن التطبيع حلم جنرالات إسرائيل بينما هو في الواقع كابوسهم كما اعترف اولمرت. وهو ما كان أفصح عنه غير واحد من جنرالات المؤسسة الأمنية المتقاعدين. ولكن العرب ndash; كما قال دايان ndash; لا يقرؤون.
النخب العربية تفكر بالإسقاط. بما أن الرأي العام في بلدانها لم يولد بعد، نظرا لغياب حاضنته حرية التعبير، فما زال مجرد شارع غوغائي لا وزن له في اتخاذ القرار، فإنها تُسقط استخفافها بشارعها على الرأي العام الإسرائيلي والعالمي مكتفية بوعود الكواليس الدبلوماسية التي قلما تثمر.
افترض أن الشيخ خالد، وهو يصوغ مبادرته، فكر في كسب الرأي العام الإسرائيلي لتجنيده في معركة السلام العربي الإسرائيلي؛ جاك اتالي، رئيس معهد المستقبليات الأوروبي ومستشار فرانسوا ميتيران، نصحه غداة انهيار جدار برلين وتحرر العقاب الألماني المحارب من قفص الوصاية السوفيتية الأمريكية، بادخاله إلى quot;قفصquot; الاتحاد الأوروبي لترويضه على التعاون الاقتصادي والتعايش السلمي عساه ينسى ثقافة الحرب. كذلك إسرائيل تحتاج إلى قفص إقليمي لينسى quot;جنرالات الاحتياطquot; وسواس الانتصارات العسكرية السهلة، على العرب، كما قال اولمرت، فيفضلون، على الحرب، التبادل الاقتصادي والعلمي والثقافي في ظل السلام. ليت الوزير البحريني يدفع شجاعته إلى أقصى منطقها فيطالب منذ الآن بضم إسرائيل إلى الجامعة العربية. وهذا ما كان طالب به الأمير الحسن سنة 1958 في بيروت قبل أن يصبح الملك الحسن الثاني. بالمثل، طالب الحبيب بورقيبة في خطاب أريحا الشهير سنة 1965 بالاعتراف بها: quot;عدم الاعتراف بإسرائيل خطأ. نحن لا نستطيع تجاهل كون إسرائيل واقعا، ولا نستطيع التظاهر بأنها غير موجودة فسياسة كل شيء أو لا شيء قادت إلى الهزيمة (...) فالسلام الحقيقي ليس سلام المنتصرين والمنهزمين، بل السلام هو في التوصل إلى تعايش مع اليهود وسيأتي يوم نكتشف فيه أن كل هذه المآسي ليست ذات قيمة أو معنى. فالكراهية تقودنا إلى الخلط بين العداء للصهيونية واللاسامية. مما يزيد في انتشار التعصب والتشدد لدى الناس. وهذا التعصب سيصبح خطيرا في اليوم الذي سنتفاوض فيهquot; مع إسرائيل (اليومية quot;العملquot; التونسية 7 /3 /1965). ها قد جاء اليوم الذي رآه بورقيبه بخياله السياسي الخلاق، قبل نيّف وأربعين عاما، مع متعصبي حماس... لكن العرب quot;لم يستبينوا النُصح إلا ضحى الغدquot;، بعد فوات الأوان وتقديم غزة والضفة والقدس الشرقية على طبق من صنع القرار الغبي للجيش الإسرائيلي غداة حرب الأيام الستة! قال غوته: quot;الإنسان العظيم يكلف العالم مشقة فهمهquot;. وكذلك كانت حال بورقيبه في أريحا التي رمته بالطماطم وشيعته بالبصاق، وفي الإعلام العربي الذي رماه بالخيانة quot;مقابل 10 ملايين دولار دفعها له الموسادquot;. في الجزائر سنة 1963 قال لي أبو جهاد (خليل الوزير): quot;معلوماتنا أن بن غوريون أملى عليه خطاب أريحاquot;! رد أبو أياد (صلاح خلف) الاعتبار لخطاب أريحا لكن سنة 1983، أي كالعادة بعد تفويت الفرصة!
فماذا عن اقتراح الشيخ خالد ضم إيران إلى المنظمة الإقليمية؟ إن كان فعلا يقصد ما يقول، فهو اقتراح وجيه. فمن صناعة القرار الغبية اختزال إيران، شعبا ونخبا دينية وعَلمانية حيّة، إلى طاقم أحمدي نجاد المعزول في الشعب وفي النُخب. تكاد تنحصر قاعدته الاجتماعية في الحرس الثوري. البعض يقدرها بـ20 %، الرئيس محمد خاتمي يقدرها بـ5 % أما منظمة مجاهدي خلق فتقدرها بـ3 % فقط من الإيرانيين! إيران أحمدي نجاد، التي انتكصت إلى الطور اللاهوتي من أطوار الفكر البشري، لن تنضم لمثل هذه المنظمة التي تقطع الطريق على مسعاها الهاذي وراء أوهام جنون العظمة: رفضْ العرض الأوروبي تزويدها بأحدث التقنيات للحصول على الطاقة النووية السلمية بديلا لحلم الحصول على السلاح النووي الذي يوشك أن يتحول إلى كابوس، وحلمْ ضم البحرين وجنوب العراق كما طالب بذلك الجنرال رحيم، قائد الحرس الثوري، وعلى quot;السيطرة والتوسع على حساب مصالح الآخرينquot; كما نادى بذلك نائب وزير الخارجية لشؤون البحث العلمي، منوشهر محمدي، في أغسطس الماضي، وبإنشاء حرس جديد quot;لحماية الأخلاق الإسلاميةquot; المُنتهَكة في المدن الإيرانية، وبإنفاق ملايين البترودولارات على توسيع شوارع المدن الإيرانية لتسمح بمرور موكب الإمام الغائب quot;بعد أن عجّل الله فرجهquot; كما يعتقد رئيس الجمهورية الإسلامية. الذي يقول أنه يدخل quot;في خلوةquot; معه تستمر 4 ساعات. صرّح: quot;مهدي خروبي، رئيس المجلس، أن نجادي والمقربين منه يقولون إن المهدي قد يعود في غضون عامينquot; (عادل جندي، quot;أصحاب العقول والقنابل الذرية في راحةquot; (إيلاف 28 /8/2006).
إيران الهاذية هذه إلى زوال. ربما كان الشيخ خالد يفكر في إيران الأخرى، البديلة، التي ستكون على الأرجح رافعة من أهم روافع السلام والتنمية في الشرق الأوسط. إيران التي قال عنها محمد خاتمي، عندما كان رئيسا للجمهورية، أنها quot;تقبل بما يقبل به الفلسطينيونquot; أي دولة لشعبين... وليس شطب إسرائيل من الخارطة. ومَن يدري؟ يومئذ قد يتلاقى الإسلام الشيعي المجدد مع الإسلاميين السنيين التونسي والتركي المجدِّدين أيضا لانتشال الإسلام السني العربي من الحفرة التي سقط فيها منذ 8 قرون عندما سادت فيه القراءة الحرفية للقرآن، قراءة أهل الحديث الذين كفروا العقل والذين قال فيهم آية الله الزمخشري مؤلف تفسير الكشاف:
وإن قلتُ من أهل الحديث وحزبه يقولون عَيْرا (= حمار الوحش) ليس يدري ويفهمُ
اقتراح ضم تركيا الإسلامية إلى المنظمة الإقليمية موفق هو الآخر. ولماذا لا تُضم منذ الآن إلى الجامعة العربية. تركيا السياسي الفذ، طيب رجب أوردوغان، هي اليوم، مع قطر، قناة مركزية لصنع السلام العربي الإسرائيلي في منظور مشروع أوسع يهدف الى صنع مستقبل مشترك تركي ndash; عربي ndash; إسرائيلي - إيراني. فهي في وقت واحد وسيط سلام فعال بين سوريا وإسرائيل، وبين إيران والولايات المتحدة. والهدف النهائي هو شرق أوسط مستقر ومزدهر. لقد اقترحت تقديم 3 مليار متر مكعب من الماء لكل من سوريا والأردن وفلسطين وإسرائيل لحل أزمة المياه قطعا للطريق على حروب الماء الموعودة بين إسرائيل والعرب... ولإعطاء السلام قاعدة اقتصادية تجعله أكثر رسوخا. تركيا ستحمل أيضا لدول المنظمة الإقليمية السنية مشروعها التاريخي الواعد بإصلاح الإسلام ليصبح قادرا على إعادة اختراع ذاته، أي يغدو لأول مرة في تاريخه متصالحا مع الحداثة بمؤسساتها الديمقراطية، وقوانينها الوضعية، وعلومها العقلانية، وقيمها العَلمانية وهويتها المركبة من مجموعة هُويات فردية مكتسبة متفاعلة ومتطورة بتطور الزمن لتوديع إسلام الولاء والبراء الانطوائي Autiste الذي ما زال مُعشعشا في رؤوس الكثيرين. بالمِثل، ديناميك المنظمة الإقليمية ملائم لدفع حكوماتها للتفكير، على غرار حكومات الاتحاد الأوروبي، في احترام الاتفاقية الدولية لحماية الأقليات. وهكذا تتخلص تركيا من الإرث العثماني في معاملة الأقليات بحل عادل للمسألة الكردية.
في المسعى الدؤوب للمصالحة الإسلامية اليهودية، عبر توقيع السلام العربي الإسرائيلي، ليست تركيا وحدها في الحلبة بل معها قطر وأميرها الشجاع الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى، الذي يقيم، مع إسرائيل التي لم يعترف بها قانونا، سلاما واقعيا وثيقا وحارا؛ فتح لقادتها باب قطر على مصراعيه، صافح بلا عقد وأمام الكاميرات أيهود أولمرت. وهي سياسة شجاعة وذكية تقول للإسرائيليين بلسان الحال، وهو أبلغ من لسان المقال، quot;أهلا بكم وسهلا في الشرق الأوسط، اطمئنوا لن نهددكم بعد اليوم بالرمي في البحرquot;. هذا الخطاب الصادق كفيل بجعلهم ينجذبون إلى السلام كما ينجذب المغناطيس إلى الشمال. قارنوا شجاعة أمير قطر، في عالم عربي جبان سياسيا بقدر ما هو متهور عسكريا، بجبن عبدالناصر السياسي: في 1966، قبل هزيمته بعام، اقترح عليه بن غوريون قمة إسرائيلية مصرية للتوصل إلى quot;السلام في 5 دقائقquot;. رد عليه quot;الرئيسquot;: quot;أستطيع أن احضر للقاء بن غوريون، وأستطيع فعلا التوصل معه إلى اتفاق (سلام) لكن بعدها لن أعود إلى القاهرةquot;.(الوثائق الإسرائيلية التي أفرج عنها بعد مضي أربعين عاما). بعد الهزيمة، بعد تفويت الفرصة، ظل جمال عبدالناصر يتباكى، على لسان محمد حسنين هيكل، عن quot;عدم وجود قيادة تاريخية في إسرائيل مثل قيادة بن غوريونquot;! فألف تشجيع وتحية لشجاعة أمير قطر التي حول عاصمتها إلى مركّب علمي عالمي يضم أهم الجامعات الأمريكية والأوروبية...
الشجاعة السياسية هي المخرج من أزمة القيادة العربية. فما هي القيادة الشجاعة؟ هي التي تخطط سياستها على المدى الطويل لحل أزمات بلدانها ولا تكتفي، كما هي حالنا اليوم، بإداراتها ودائما من سيء إلى أسوأ؛ وهي التي تصنع قرارها بمؤسسات مختصة، القادرة الوحيدة على صنع قرار واقعي وعقلاني؛ وهي التي تطرح، من خلال، مؤسسات صنع القرار ومنها مجالس الأمن القومي، هذين السؤالين: ماذا نريد؟ وهل نستطيع تحقيق ما نريد؟ القيادة الشجاعة هي أخيرا التي تقود شعبها ولا تجرجر قدميها وراءه... أحيانا إلى الهاوية؟