طوال فترة الدعوة المحمدية في مكة لم تنزل آية واحدة تشرّع للجهاد. وكلّما إستأذن بعض الصحابة النبيء في استخدام العنف ردا على مظالم قريش، أجابهم: quot;ما أُمرتُ بذلكquot;. وهكذا كان الإسلام المكّي مسالما وروحيا، وتاريخيا، امتدادا للمسيحية التي دشّنت، في نظر هيغل، quot;الدين الحديثquot;، أي الدين الذي يُقصي كلّ أشكال العنف. أما الدين العتيق، في نظره، فكانت اليهودية التي تبنت، على غرار الديانات العتيقة، العنف المقدّس. لكن الهجرة إلى يثرب، التي ستسمّى المدينة، أي الدولة بالعبرية quot;مديناتquot;، كانت استثناءا من الإسلام المكي له مبرراته الظرفية: القرآن وحده لم يكن كافيا لإقناع قريش بالإسلام؛ والحال أن إدخال قريش فيه كان هاجس النبي الأول: quot;وأنذِر عشيرتَك الأقربينquot; (214، الشعراء). تماما كحال أنبياء إسرائيل، ما جاؤوا إلا لإنذار عشيرتهم، أي شعبهم المختار، باقتراب نهاية العالم، الذي كان هاجس جميع الأنبياء. لكن، بعد أكثر من 15 عاما من الدعوة السلمية، لم تر الغالبية الساحقة من قريش في القرآن إلا أساطير الأولين: quot;وإذا تُتلى عليهم آياتُنا قالوا: سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولينquot; (31 الأنفال). يقول المفسرون في سبب نزول هذه الآية: quot;كان النظر بن الحارث يختلف (= يروح ويجيء) على الحِيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم، فلما قدِم إلى مكة سمع كلام النبي، صل الله عليه وسلم، والقرآن قال: quot;قد سمعنا، لو نشاء لقلنا مثل هذا، إنْ هذا إلا أساطير الأولينquot; (السيوطي، الدر المنثور في التفسير المأثور، ج 2، ص 327).
أمام هذا الإصرار القرشي على تحدي القرآن، لجأ النبي إلى السيف لأول مرة في بدر 2 هـ. لكن كاستثناء من القاعدة المكية، اللاعنف: quot;أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقديرquot; (39، الحج).
كانت القبائل الوثنية تُشرك معها آلهتها في حروبها لإضفاء القداسة عليها ورفع معنويات المقاتلين. اليهودية، التي ورثت كثيرا من عادات ومعتقدات الشعوب القديمة، كما هو معروف في تاريخ الأديان المُقارَن وأيضا بإعتراف أحبار شجعان، تبنت أسطورة إشراك الله في حروبها؛ سفر الخروج يؤكد: quot;بأن الرب رجل محاربquot; (الاصحاح 17، الآية 3). انتقلت هذه الأسطورة إلى الإسلام تحت شعار quot;التدخل الرباني في التاريخquot;. في حرب اكتوبر 1973، أكد شيخ الأزهر بأن quot;ملائكة بدر قاتلت مع الجيش المصريquot;، ومازالت حماس والجهاد الإسلامي مصرتين على أن الله يقاتل معهما؛ لذلك فالنصر quot;على اليهودquot; مضمون سلفا بغض النظر عن ميزان القوى. كتب زعيم إسلامي مؤيدا حماس والجهاد الإسلامي: quot;هناك عامل واحد في معادلة الصراع يغفل عنه أغلب أطراف الصراع: مشيئة الله. لا يكون في ملك الله إلا ما أراد. ولا اعتبار لموازين القوى (...) وإننا في فلسطين، لا نبتغي ولا نسعى إلا لأن يكون الله معنا، وليذهب أعداؤنا وحلفاؤهم بكل من هم سواهquot; (القدس العربي، 17 /3/ 2008). لأن الجهاد، لا يقرأ حسابا لموازين القوى، فقد كان سبب هزائم المسلمين في القرن العشرين!
اكتفى القرآن المدني بالحث على الجهاد، وقدم له الحوافز المادية والرمزية، أما الفقهاء فقد قننوه في القرون اللاحقة مقسمين له في القرون اللاحقة إلى جهاد دفاعي quot;جهاد الدَّفْعquot;، عندما تُهاجَم دار الإسلام من دار الكفر، وجهاد هجومي quot;جهاد الطلبquot;، عندما تُهاجِم دار الإسلام دار الكفر. فما هي المرجعية التي اهتدوا بها لتقنين الجهاد وتقسيمه؟ quot;المشناهquot;، التي عرّبها المسلمون منذ عهد النبي بـquot;المثناةquot;، أي الحفظ والتكرار، والمشناه هي، في الواقع، مِتن التلمود الذي كتبه بعض الأحبار بين 200 و220 م. ولم ينسبوه إلى الله، بل اعتبروه مجرد تقاليد فقهية شرعية شفوية خففوا بها الكثير من صرامة الشريعة اليهودية وعقوباتها البدنية، محاولين إضفاء مسحة إنسانية عليها كإلغاء حد الرجم عمليا: quot;يوجد حسب المشناه / المثناة 3 أنواع من الحروب المقدسة (= الجهاد) أمر بها الله في حالة هجوم العدو (على أرض إسرائيل)، الأولى، إلزامية؛ الثانية اختيارية وهي الحرب المقدسة ذات الهدف السياسي حصرا؛ والثالثة مرصودة لتوسيع حدود إسرائيل (...) لا تُعلن إلا بقرار من الملكquot; (الموسوعة اليهودية ص 403، بالفرنسية). أليس القتال quot;فرض عينquot; على كل مسلم ومسلمة في جهاد الدفع هو ذاته الحرب المقدسة الإلزامية التلمودية؟ أليس القتال quot;فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقينquot; في quot;جهاد الطلبquot; هو ذاته الحرب المقدسة الاختيارية التلمودية؟ أليس الملك صاحب القرار الوحيد في الحرب المقدسة الثالثة التوسعية التلمودية هو quot;الإمامquot;، الوحيد المؤهل لإعلان الجهاد في الفقه الإسلامي؟
لا بأس أن يأخذ الفقهاء أحكام الجهاد وغيره من أساطير التلمود فذلك قانون التلاقح الثقافي الكوني. لكن البأس، كل البأس، هو اعتبار هذا الجهاد التلمودي quot;فريضة غائبةquot; لا يصح إسلام مسلم إلا بالتسليم بها. وعلى أساسها قسم الفقهاء المعمورة إلى دار الإسلام ودار الحرب ودار الصلح وجعلوا جهاد الطلب التوسعي quot;باقيا إلى قيام الساعةquot;. مما جعل حرب دار الإسلام على دار الكفر عالمية ودائمة. وهي التي يرفع اليوم الجهاد - الإرهابي رايتها عاليا!
رخصة جهاد الدفع انتهت بانتهاء إخراج النبيء وآله وأصحابه من ديارهم المكية. حل محله في عصرنا الدفاع الوطني في حالة العدوان الخارجي، أو المقاومة الشعبية في غياب الجيش الوطني. أما جهاد الطلب فهو توسع امبراطوري إسلامي، كغيره من الفتوحات الامبراطورية القديمة، لم يعد اليوم لا مرغوبا ولاممكنا. أفضل من عرّفه تعريفا جامعا مانعا هو أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، بصراحته المعهودة في رسالته لجنود جيش الفتح: quot;فأنتم مُستخلَـفون في الأرض، قاهرون لأهلها (...) فلم تصبح أمةٌ مخالفة لدينكم إلا أمّتان: أمة مُستعبَدة للإسلام يَجْزون لكم (= يؤدون لكم الجزية) تستصفون (= تصادرون) معائشهم وكدائحهم ورَشْح جباههم (= عرق جبينهم)، عليهم المؤنة (= للجيش) ولكم المنفعة (...) وأمةٌ قد ملأ الله قلوبَهم رعبا (منكم)quot; (الطبري ج 5 ص 27). هذا التعريف العُمري لجهاد الطلب هو أدق التعاريف للنهب الخارجي كما مارسته جميع الامبراطوريات التي سبقت الإسلام أو عاصرته. فإلى متى يظل الإعلام والتعليم والخطاب الديني يحشون أدمغة المسلمين بأن هذا quot;الجهاد باق إلى قيام الساعةquot;؟ من الواضح اليوم، من موازين القوى بين quot;أمةquot; المسلمين وأمم العالم، أن مجرد التفكير فيه لهو ضرب من الجنون الانتحاري.
قطاع من النخبة الإسلامية، مثل الشيخ صبحي الصالح والمأسوف على فقده محمد الشرفي، المنفتح على روح العصر، المناهضة للفتح الامبراطوري، ينكر واقعة وجود جهاد الطلب مؤكدا أن الإسلام دين سلام مع الجميع بمن فيهم الأمم الوثنية المعاصرة التي تشكل 56 بالمئة من سكان العالم. لكن هذا الموقف ضرب من إنكار الواقع بما هو آلية نفسية لا شعورية تغلّب الرغبة على الواقع المعيش. جهاد الطلب، بالعكس، ما زال ضاربا في أعماق الشخصية النفسية العربية الإسلامية التي صاغها الخطاب الديني خاصة في الإعلام والتعليم. مَن مِنا لم يحفظ عن ظهر قلب سِيَر كبار الفاتحين، سعد بن أبي وقاص، خالد بن الوليد، ابو عبيدة بن الجراح، عقبة بن نافع الفهري، طارق بن زياد...؟ مَن مِن أبناء جيلي لم يقرأ عن quot;الفردوس الضائعquot; ولم يحلم باستعادة الأندلس؟ ألم يُطلِق صدام على عدوانه الغبي والإجرامي على إيران quot;قادسية صدامquot; إحياءا بائسا لقادسية سعد؟ ألم يقل قائد quot;الجيش الإسلاميquot; في العراق لأسيره Georges Mal Brunot quot;مشروعنا هو إقامة الخلافة الإسلامية من الأندلس إلى حدود الصينquot;؟
ما وراء أحلام اليقظة هذه؟ أسطورة أن الجهاد باق إلى قيام الساعة، إلى أن يقتل المسلم آخر يهودي كما يقول حديث البخاري الشهير عن اشتراطات قيام الساعة! اعترف العضو في السي آي أي الذي كان مكلفا بملاحقة الشيخ المجاهد أسامة بن لادن بأن 80 بالمئة من المسلمين في العالم يبايعون quot;الشيخ المجاهدquot; على المنـْشَط والمكْرَه! لماذا؟ لأنه الوحيد أو يكاد الذي يرفع اليوم عاليا راية الجهاد. قلّة فقط من المسلمين لم تهلل عند سماعها بـquot;غزوتي نيويورك وواشنطنquot;.
من سياسة النعامة، التي هي أعدل الأشياء قسمة بين النخب الإسلامية، طرد بن لادن من حظيرة الإسلام، كما فعل المجلس الإسلامي الإسباني، أو التنديد بالقاعد كـquot;جماعة ضالةquot;، كما في السعودية. الواقع أن بن لادن ود. الظواهري وشباب القاعدة أكثر من خصومهم تعلقا بإسلام quot;الجهاد باق إلى قيام الساعةquot; وبإسلام القراءة الحرفية للنصر، وهما اللذان يجب شطبهما من الخطاب الديني بدلا من شطب بن لادن من قائمة المسلمين، وهي استراتيجيا عقيمة جربتها عبثا كنيسة القرون الوسطى.
إنها لظاهرة صحية وواعدة أن يشعر قطاع من النخبة الإسلامية بالخجل من جهاد الطلب الذي ترجمته المعاصرة هي quot;الإرهاب الحميدquot; العالمي، على حد تعبير الشيخ القرضاوي الذي استعاره منه بن لادن في خطبة العيد الشهيرة، والذي تمارسه القاعدة وأخواتها؛ ذلك يعني أن هذا العنف الإسلامي العتيق ndash; والعتيق جدا ndash; لم يعد مناسبا للصورة المعاصرة التي يريد هذا القطاع من المسلمين تقديمها، عن نفسه وعن الإسلام، للعالم حيث فقد العنف كل شرعية في نظر الرأي العام العالمي وغدا اللاعنف هو المطروح على جدول أعمال القرن 21 كدفاع شرعي ضد المظالم الداخلية والخارجية وما أكثرها!
الأجدى من إنكار الواقع والخجل منه هو تغييره بتغيير الخطاب الديني في المدرسة والإعلام وخطبة الجمعة والوعظ وفتاوى التحريض على الجهاد والاستشهاد؛ واعتبار إسلام الولاء والبراء الجهادي، الذي هو جوهر ما هو عنيف في إسلام المدينة، استثناءا من الإسلام المكي وإحلال هذا الأخير في quot;الخطاب الدينيquot; محل آيات الجهاد والقتال والعقوبات البدنية الشرعية... في الإسلام المدني الذي نسخت وقائع التاريخ أحكامه الظرفية بزوال الظروف التاريخية التي تطلبتها. هذا هو الرد الحقيقي على الجهاد الإرهابي المعاصر الذي يتطلب شجاعة دينية وروحية وفكرية وسياسية. فهل تتحلى النخب الإسلامية المعاصرة بمثل هذه الشجاعة الثمينة والتي ما زالت نادرة في أرض الإسلام!
يا صناع القرار التربوي، إلى متى تتركون المؤسسة المدرسية العتيقة تغسل أدمغة أبنائكم بالتحريض على الجهاد والاستشهاد، وقهر المرأة، واضطهاد المواطن غير المسلم، وانتهاك حقوق الإنسان بالجلد، والرجم، ودق الأعناق وقطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيرها من الفظاعات الشرعية التي فرضتها بعض آيات إسلام المدينة؟ لماذا لا تحاكون شجاعة صانع القرار التربوي الليبي الذي ألغى سنة 2006 تدريس الجهاد وآيات الجهاد والقتال والعنف؟ لماذا لا تعلمون أبناءنا، بدلا من ذلك، الإسلام المكي المسالم، الروحي والفردي الذي تلخصه أفضل تلخيص الآية الكريمة، انتبهوا فهي مدنية ومؤشر على أن الجزء العنيف في الإسلام المدني ظرفي ولم ينسخ الإسلام المكي الوديع: quot;يا أيها الذين أمنوا، عليكم أنفُسَكم، لا يضركم من ضلّ إذا أهتديتمquot; (105، الأنفال). هذه الآية، التي لم يجرأ المفسرون كعادتهم على نسخها بالآيات التي تذوّب الفرد في الأمة، هي آية سبقت عصرها بقرون عديدة. لذلك أثارت ذعر بعض الفقهاء والمحدثين وحَيرة الباقين. الأولين اختفوا، للالتفاف على معناها، وراء ظهر ابي بكر أو النبيء نفسه أحيانا زاعمين أن هذه الآية لم تلغ تذويب الفرد في الأمة أي، لم تلغ الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي كان منذ عصابات الحنابلة في بغداد الى عصابات quot;المطاوعةquot; في السعودية وquot;حراس الأخلاقquot; في إيران يُشرْعِن اضطهاد النساء والشباب والمثقفين والتدخل في الحياة الخاصة للفرد. أما الأخيرون فقد اعترفوا بنزاهة نادرة قائلين quot;لا نعرف تأويلهاquot; أو، نقلا عن ابن مسعود، quot;تأويل هذه الآية لم يأت بعدquot; أو، نقلا عن النبي نفسه، quot;إنما تأويلها في آخر الزمانquot;. (الدر المنثور...)
quot;آخر الزمانquot; هو زماننا، زمان الفرد وحقوقه وحرياته الأساسية؛ زمان فرض التخصص على الدين والعلم والسياسة...؛ زمان تخصيص جميع الأديان وثنية كانت أو توحيدية بالروحي فقط وترك الزمني للمتخصصين في شؤونه وشجونه.
لماذا لا نؤسس، عبر المدرسة، انطلاقا من هذه الآية الجميلة والكريمة للإسلام العَلماني الذي يعطي ما للعقل الإلهي، الروحي، للعقل الإلهي، ويعطي ما للعقل البشري، الزمني، للعقل البشري واضعا بينهما برزخًا لا يبغيان لمنع رجال الدين من دس أنوفهم في السياسة والاقتصاد والتشريع والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني ومنع السياسيين من التدخل في الشأن الديني.
منذ القرن 15 على الأقل لم يعد جهاد إسلام المدينة صالحا للزمان والمكان في أرض الإسلام. أما الإسلام المكي فهو الصالح الوحيد لزماننا ومكاننا وربما لأزمنة وأمكنة أخرى.
أمام هذا الإصرار القرشي على تحدي القرآن، لجأ النبي إلى السيف لأول مرة في بدر 2 هـ. لكن كاستثناء من القاعدة المكية، اللاعنف: quot;أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقديرquot; (39، الحج).
كانت القبائل الوثنية تُشرك معها آلهتها في حروبها لإضفاء القداسة عليها ورفع معنويات المقاتلين. اليهودية، التي ورثت كثيرا من عادات ومعتقدات الشعوب القديمة، كما هو معروف في تاريخ الأديان المُقارَن وأيضا بإعتراف أحبار شجعان، تبنت أسطورة إشراك الله في حروبها؛ سفر الخروج يؤكد: quot;بأن الرب رجل محاربquot; (الاصحاح 17، الآية 3). انتقلت هذه الأسطورة إلى الإسلام تحت شعار quot;التدخل الرباني في التاريخquot;. في حرب اكتوبر 1973، أكد شيخ الأزهر بأن quot;ملائكة بدر قاتلت مع الجيش المصريquot;، ومازالت حماس والجهاد الإسلامي مصرتين على أن الله يقاتل معهما؛ لذلك فالنصر quot;على اليهودquot; مضمون سلفا بغض النظر عن ميزان القوى. كتب زعيم إسلامي مؤيدا حماس والجهاد الإسلامي: quot;هناك عامل واحد في معادلة الصراع يغفل عنه أغلب أطراف الصراع: مشيئة الله. لا يكون في ملك الله إلا ما أراد. ولا اعتبار لموازين القوى (...) وإننا في فلسطين، لا نبتغي ولا نسعى إلا لأن يكون الله معنا، وليذهب أعداؤنا وحلفاؤهم بكل من هم سواهquot; (القدس العربي، 17 /3/ 2008). لأن الجهاد، لا يقرأ حسابا لموازين القوى، فقد كان سبب هزائم المسلمين في القرن العشرين!
اكتفى القرآن المدني بالحث على الجهاد، وقدم له الحوافز المادية والرمزية، أما الفقهاء فقد قننوه في القرون اللاحقة مقسمين له في القرون اللاحقة إلى جهاد دفاعي quot;جهاد الدَّفْعquot;، عندما تُهاجَم دار الإسلام من دار الكفر، وجهاد هجومي quot;جهاد الطلبquot;، عندما تُهاجِم دار الإسلام دار الكفر. فما هي المرجعية التي اهتدوا بها لتقنين الجهاد وتقسيمه؟ quot;المشناهquot;، التي عرّبها المسلمون منذ عهد النبي بـquot;المثناةquot;، أي الحفظ والتكرار، والمشناه هي، في الواقع، مِتن التلمود الذي كتبه بعض الأحبار بين 200 و220 م. ولم ينسبوه إلى الله، بل اعتبروه مجرد تقاليد فقهية شرعية شفوية خففوا بها الكثير من صرامة الشريعة اليهودية وعقوباتها البدنية، محاولين إضفاء مسحة إنسانية عليها كإلغاء حد الرجم عمليا: quot;يوجد حسب المشناه / المثناة 3 أنواع من الحروب المقدسة (= الجهاد) أمر بها الله في حالة هجوم العدو (على أرض إسرائيل)، الأولى، إلزامية؛ الثانية اختيارية وهي الحرب المقدسة ذات الهدف السياسي حصرا؛ والثالثة مرصودة لتوسيع حدود إسرائيل (...) لا تُعلن إلا بقرار من الملكquot; (الموسوعة اليهودية ص 403، بالفرنسية). أليس القتال quot;فرض عينquot; على كل مسلم ومسلمة في جهاد الدفع هو ذاته الحرب المقدسة الإلزامية التلمودية؟ أليس القتال quot;فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقينquot; في quot;جهاد الطلبquot; هو ذاته الحرب المقدسة الاختيارية التلمودية؟ أليس الملك صاحب القرار الوحيد في الحرب المقدسة الثالثة التوسعية التلمودية هو quot;الإمامquot;، الوحيد المؤهل لإعلان الجهاد في الفقه الإسلامي؟
لا بأس أن يأخذ الفقهاء أحكام الجهاد وغيره من أساطير التلمود فذلك قانون التلاقح الثقافي الكوني. لكن البأس، كل البأس، هو اعتبار هذا الجهاد التلمودي quot;فريضة غائبةquot; لا يصح إسلام مسلم إلا بالتسليم بها. وعلى أساسها قسم الفقهاء المعمورة إلى دار الإسلام ودار الحرب ودار الصلح وجعلوا جهاد الطلب التوسعي quot;باقيا إلى قيام الساعةquot;. مما جعل حرب دار الإسلام على دار الكفر عالمية ودائمة. وهي التي يرفع اليوم الجهاد - الإرهابي رايتها عاليا!
رخصة جهاد الدفع انتهت بانتهاء إخراج النبيء وآله وأصحابه من ديارهم المكية. حل محله في عصرنا الدفاع الوطني في حالة العدوان الخارجي، أو المقاومة الشعبية في غياب الجيش الوطني. أما جهاد الطلب فهو توسع امبراطوري إسلامي، كغيره من الفتوحات الامبراطورية القديمة، لم يعد اليوم لا مرغوبا ولاممكنا. أفضل من عرّفه تعريفا جامعا مانعا هو أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، بصراحته المعهودة في رسالته لجنود جيش الفتح: quot;فأنتم مُستخلَـفون في الأرض، قاهرون لأهلها (...) فلم تصبح أمةٌ مخالفة لدينكم إلا أمّتان: أمة مُستعبَدة للإسلام يَجْزون لكم (= يؤدون لكم الجزية) تستصفون (= تصادرون) معائشهم وكدائحهم ورَشْح جباههم (= عرق جبينهم)، عليهم المؤنة (= للجيش) ولكم المنفعة (...) وأمةٌ قد ملأ الله قلوبَهم رعبا (منكم)quot; (الطبري ج 5 ص 27). هذا التعريف العُمري لجهاد الطلب هو أدق التعاريف للنهب الخارجي كما مارسته جميع الامبراطوريات التي سبقت الإسلام أو عاصرته. فإلى متى يظل الإعلام والتعليم والخطاب الديني يحشون أدمغة المسلمين بأن هذا quot;الجهاد باق إلى قيام الساعةquot;؟ من الواضح اليوم، من موازين القوى بين quot;أمةquot; المسلمين وأمم العالم، أن مجرد التفكير فيه لهو ضرب من الجنون الانتحاري.
قطاع من النخبة الإسلامية، مثل الشيخ صبحي الصالح والمأسوف على فقده محمد الشرفي، المنفتح على روح العصر، المناهضة للفتح الامبراطوري، ينكر واقعة وجود جهاد الطلب مؤكدا أن الإسلام دين سلام مع الجميع بمن فيهم الأمم الوثنية المعاصرة التي تشكل 56 بالمئة من سكان العالم. لكن هذا الموقف ضرب من إنكار الواقع بما هو آلية نفسية لا شعورية تغلّب الرغبة على الواقع المعيش. جهاد الطلب، بالعكس، ما زال ضاربا في أعماق الشخصية النفسية العربية الإسلامية التي صاغها الخطاب الديني خاصة في الإعلام والتعليم. مَن مِنا لم يحفظ عن ظهر قلب سِيَر كبار الفاتحين، سعد بن أبي وقاص، خالد بن الوليد، ابو عبيدة بن الجراح، عقبة بن نافع الفهري، طارق بن زياد...؟ مَن مِن أبناء جيلي لم يقرأ عن quot;الفردوس الضائعquot; ولم يحلم باستعادة الأندلس؟ ألم يُطلِق صدام على عدوانه الغبي والإجرامي على إيران quot;قادسية صدامquot; إحياءا بائسا لقادسية سعد؟ ألم يقل قائد quot;الجيش الإسلاميquot; في العراق لأسيره Georges Mal Brunot quot;مشروعنا هو إقامة الخلافة الإسلامية من الأندلس إلى حدود الصينquot;؟
ما وراء أحلام اليقظة هذه؟ أسطورة أن الجهاد باق إلى قيام الساعة، إلى أن يقتل المسلم آخر يهودي كما يقول حديث البخاري الشهير عن اشتراطات قيام الساعة! اعترف العضو في السي آي أي الذي كان مكلفا بملاحقة الشيخ المجاهد أسامة بن لادن بأن 80 بالمئة من المسلمين في العالم يبايعون quot;الشيخ المجاهدquot; على المنـْشَط والمكْرَه! لماذا؟ لأنه الوحيد أو يكاد الذي يرفع اليوم عاليا راية الجهاد. قلّة فقط من المسلمين لم تهلل عند سماعها بـquot;غزوتي نيويورك وواشنطنquot;.
من سياسة النعامة، التي هي أعدل الأشياء قسمة بين النخب الإسلامية، طرد بن لادن من حظيرة الإسلام، كما فعل المجلس الإسلامي الإسباني، أو التنديد بالقاعد كـquot;جماعة ضالةquot;، كما في السعودية. الواقع أن بن لادن ود. الظواهري وشباب القاعدة أكثر من خصومهم تعلقا بإسلام quot;الجهاد باق إلى قيام الساعةquot; وبإسلام القراءة الحرفية للنصر، وهما اللذان يجب شطبهما من الخطاب الديني بدلا من شطب بن لادن من قائمة المسلمين، وهي استراتيجيا عقيمة جربتها عبثا كنيسة القرون الوسطى.
إنها لظاهرة صحية وواعدة أن يشعر قطاع من النخبة الإسلامية بالخجل من جهاد الطلب الذي ترجمته المعاصرة هي quot;الإرهاب الحميدquot; العالمي، على حد تعبير الشيخ القرضاوي الذي استعاره منه بن لادن في خطبة العيد الشهيرة، والذي تمارسه القاعدة وأخواتها؛ ذلك يعني أن هذا العنف الإسلامي العتيق ndash; والعتيق جدا ndash; لم يعد مناسبا للصورة المعاصرة التي يريد هذا القطاع من المسلمين تقديمها، عن نفسه وعن الإسلام، للعالم حيث فقد العنف كل شرعية في نظر الرأي العام العالمي وغدا اللاعنف هو المطروح على جدول أعمال القرن 21 كدفاع شرعي ضد المظالم الداخلية والخارجية وما أكثرها!
الأجدى من إنكار الواقع والخجل منه هو تغييره بتغيير الخطاب الديني في المدرسة والإعلام وخطبة الجمعة والوعظ وفتاوى التحريض على الجهاد والاستشهاد؛ واعتبار إسلام الولاء والبراء الجهادي، الذي هو جوهر ما هو عنيف في إسلام المدينة، استثناءا من الإسلام المكي وإحلال هذا الأخير في quot;الخطاب الدينيquot; محل آيات الجهاد والقتال والعقوبات البدنية الشرعية... في الإسلام المدني الذي نسخت وقائع التاريخ أحكامه الظرفية بزوال الظروف التاريخية التي تطلبتها. هذا هو الرد الحقيقي على الجهاد الإرهابي المعاصر الذي يتطلب شجاعة دينية وروحية وفكرية وسياسية. فهل تتحلى النخب الإسلامية المعاصرة بمثل هذه الشجاعة الثمينة والتي ما زالت نادرة في أرض الإسلام!
يا صناع القرار التربوي، إلى متى تتركون المؤسسة المدرسية العتيقة تغسل أدمغة أبنائكم بالتحريض على الجهاد والاستشهاد، وقهر المرأة، واضطهاد المواطن غير المسلم، وانتهاك حقوق الإنسان بالجلد، والرجم، ودق الأعناق وقطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيرها من الفظاعات الشرعية التي فرضتها بعض آيات إسلام المدينة؟ لماذا لا تحاكون شجاعة صانع القرار التربوي الليبي الذي ألغى سنة 2006 تدريس الجهاد وآيات الجهاد والقتال والعنف؟ لماذا لا تعلمون أبناءنا، بدلا من ذلك، الإسلام المكي المسالم، الروحي والفردي الذي تلخصه أفضل تلخيص الآية الكريمة، انتبهوا فهي مدنية ومؤشر على أن الجزء العنيف في الإسلام المدني ظرفي ولم ينسخ الإسلام المكي الوديع: quot;يا أيها الذين أمنوا، عليكم أنفُسَكم، لا يضركم من ضلّ إذا أهتديتمquot; (105، الأنفال). هذه الآية، التي لم يجرأ المفسرون كعادتهم على نسخها بالآيات التي تذوّب الفرد في الأمة، هي آية سبقت عصرها بقرون عديدة. لذلك أثارت ذعر بعض الفقهاء والمحدثين وحَيرة الباقين. الأولين اختفوا، للالتفاف على معناها، وراء ظهر ابي بكر أو النبيء نفسه أحيانا زاعمين أن هذه الآية لم تلغ تذويب الفرد في الأمة أي، لم تلغ الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي كان منذ عصابات الحنابلة في بغداد الى عصابات quot;المطاوعةquot; في السعودية وquot;حراس الأخلاقquot; في إيران يُشرْعِن اضطهاد النساء والشباب والمثقفين والتدخل في الحياة الخاصة للفرد. أما الأخيرون فقد اعترفوا بنزاهة نادرة قائلين quot;لا نعرف تأويلهاquot; أو، نقلا عن ابن مسعود، quot;تأويل هذه الآية لم يأت بعدquot; أو، نقلا عن النبي نفسه، quot;إنما تأويلها في آخر الزمانquot;. (الدر المنثور...)
quot;آخر الزمانquot; هو زماننا، زمان الفرد وحقوقه وحرياته الأساسية؛ زمان فرض التخصص على الدين والعلم والسياسة...؛ زمان تخصيص جميع الأديان وثنية كانت أو توحيدية بالروحي فقط وترك الزمني للمتخصصين في شؤونه وشجونه.
لماذا لا نؤسس، عبر المدرسة، انطلاقا من هذه الآية الجميلة والكريمة للإسلام العَلماني الذي يعطي ما للعقل الإلهي، الروحي، للعقل الإلهي، ويعطي ما للعقل البشري، الزمني، للعقل البشري واضعا بينهما برزخًا لا يبغيان لمنع رجال الدين من دس أنوفهم في السياسة والاقتصاد والتشريع والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني ومنع السياسيين من التدخل في الشأن الديني.
منذ القرن 15 على الأقل لم يعد جهاد إسلام المدينة صالحا للزمان والمكان في أرض الإسلام. أما الإسلام المكي فهو الصالح الوحيد لزماننا ومكاننا وربما لأزمنة وأمكنة أخرى.
إلى الأحد المقبل
التعليقات