في هذا المقال سنتوقف عند إشكالية التطرف السياسي اليساري، مركزين على أمريكا اللاتينية لأسباب نوضحها، وكيف يولد هذا النمط من التطرف فرعه الإرهابي الخاص.

أ- عرض القضية:
لقد شهدت أمريكا اللاتينية حركات وتنظيمات سياسية متصلبة، ومتشددة في الفكر، والممارسة. إن الثورة الكوبية جاءت للرد على مظالم شعبية، وخصوصا بين الفلاحين، ولكنها بعد تسلم السلطة تحولت لنظام شمولي على النمط الستاليني. إن التجربة الكوبية، والتجارب الثورية المسلحة الأخرى ضد الأنظمة، هي التي جعلتني أكتب في مقال لصحيفة 'الحياة' في أواخر التسعينات بأن وفاة البطل الخالد غيفارا قبل وصوله للسلطة كانت أقل خسارة وإيلاما من تسلم السلطة، لحتمية إقامة نظام شمولي، بعد النصر، مغلق يتعامل بالعنف مع معارضيه.
لقد شجعت الثورة الكوبية ظهور تيارات وقوى سياسية متأثرة بها، وخصوصا بين تجمعات أقصى اليسار، حيث وجدت مناخا ملائما في الريف خاصة، واستند بعضها لدعم شعبي، كبير، أو نسبي.
إننا نعود لهذه الظاهرة لكونها برزت مجددا، ولاسيما مع صعود الفنزويلي شافيز للسلطة، ثم مع عودة قضية خطف السياسية الكولومبية ـ الفرنسية بيتانغور للأضواء السياسية الفرنسية على مدى شهور متتالية، والنشاط الفرنسي منذ حملة سركوزي الانتخابية، ولحد اليوم، لبذل الجهود لتحريرها من أسر ما يدعى بالجيش الثوري الكولومبي [ الفارك]، وكنا قد نشرنا عن اتجاهات ومواقف الرئيس الفنزويلي مقالا يوم 20 نوفمبر الماضي تحت عنوان ' نحو [ أممية] شافيز الغوغائية اليساروية'.
إن التطرف المذكور هو سياسي يساري، وهو، بالعكس من التطرف الإسلامي، يكاد ينحصر محليا، وأحيانا يمس دولا لاتينية عدة، أي ليس تطرفا دينيا أصوليا، كالذي غزا، ويغزو، العالم الإسلامي، ويمتد خطره لكل بلدان العالم، لاسيما فرعه الإرهابي الذي هو حرب دولية بلا حدود، وربما بلا نهاية؟؟ إن الفروق بين هذين النمطين من الإرهاب فروق كبرى، ومع ذلك فثمة نقاط متقاربة في الفكر والممارسة، وهو ما سنعود إليه في المقال التالي.
لقد نجحت 'القاعدة' في تأسيس شبكات 'دولية' جديدة باسم 'الجهاد من أجل الإسلام في العالم'، تجمع كل المتطرفين، والإرهابيين الإسلاميين، لنشر الذعر، والرعب، والدمار، وسفك الدم، في كل مكان، فأصبح خطر التطرف والإرهاب الإسلاميين هو الخطر الرئيسي اليوم على جميع البشرية، وإن هذه الوافدة، بالتالي، تتميز عن خطر التطرف اليساري اللاتيني، أو التطرف اليساري في دول أخرى، كالذي عانت منه أوروبا الغربية في الستينات والسبعينات الماضية.
لقد سعى شافيز، ولا يزال يسعى، لتشكيل 'دولية' جديدة 'ثورية' معادية 'للإمبريالية الأمريكية'، ودعا لتشكيل جيش قاري 'ثوري' موحد، محاولا في تحركاته الخارجية العديدة كسب الحكومات اليسارية الجديدة في بوليفيا، ونيكاراغوا، والأكوادور، بجانب كوبا طبعا، التي يعلم أن زعيمها التاريخي يكاد يفقد دوره نظرا لمرضه، والرئيس الفنزويلي يحلم باحتلال مكانته كرمز للثورة على الرأسمالية و'الإمبريالية'. إنه ينشط خلال زياراته للدول، وبخطبه الغوغائية العاصفة، كسب أكبر عدد ممكن من أعداء الولايات المتحدة، كإيران، وبورما، وزيمبابوي، وربما يأمل ضم روسيا أيضا، فضلا عن التنظيمات المتطرفة في قارته، ولكننا لا نعتقد أنه يستطيع إقناع غير القلة.
إن للتطرف السياسي اليساري اللاتيني فرعه الإرهابي هو الآخر، ولكن عملياته محلية عموما، إلا في حالة خطف شخصية مزدوجة الهوية كالسيدة بيتانغور، حيث انبعثت قضيتها في العام المنصرم، وصارت مدار النشاط الدبلوماسي خلال الشهور الماضية في الاتصالات بين فرنسا وكولومبيا، كما تدخل الاتحاد الأوروبي، ونشطت التجمعات الشعبية الفرنسية لصالح إطلاق سراحها، مدفوعة أولا بإلحاح عائلة الضحية المقيمة بباريس، والتي قابلها الرئيس الفرنسي بنفسه، ثم سارع الرئيس الفنزويلي لعرض وساطته بطريقة استعراضية متحدية للرئيس الكولومبي.
إن تنظيم 'الفارك' المسلح قد نشأ في الأصل في الستينات بقيادة 'ماريلاندا'، البالغ اليوم ثمانين عاما، كحركة ماركسية ثورية في الريف، وباسم مصالح فقرائه، وكانت أولى عملياته العسكرية ضد القوات الحكومية عام 1964، وقد كسب مع الزمن تأييدا واسعا، وتضخمت صفوف مسلحيه، من نساء ورجال، ولكنه دخل عهدا جديدا حمل الولايات المتحدة والغرب على أن يعتبراه منظمة إرهابية لانحرافه، [ على الخصوص منذ 2000]، نحو خطف الرهائن لطلب الفدية، ولأسباب سياسية، وكذلك انزلاقها لزرع المخدرات والمتاجرة بها تهريبا، ويقدر عدد المختطفين عندهم ما بين 700 ويقال أكثر من ألف، معظمهم من قوات الشرطة والجيش، والعديد من النواب ومساعديهم. وجدير بالذكر أن فكرة خطف السياسيين نفذت بنشاط خاص منذ بداية القرن الحالي حين كان الفارك في أوج قوته، وذلك لغرض الضغط لإطلاق سراح المسجونين الخمسمائة من كوادره وأعضائه، وكذلك لغرض تحريك الطبقة السياسية المدنية، التي كانت غير مكترثة تماما لهذا الصراع الريفي الذي يمتد لنصف قرن. كان خطف النائب ليزكانو 'أول الغيث'، إذ خطف في آب 2000، وفي شباط 2002 خطفت بيتانغور ومساعدتها، وفي 12 أبريل من العام نفسه تم خطف 12 نائبا إقليميا، وقتلوا مجانا وبلا مسوغ، مما شكل منعطفا، حتى بين صفوف المقاتلات والمقاتلين الذين ذهلوا لهول الجريمة الدموية وعدم مبرراتها، وكانت الجريمة من أسباب تقلص عدد المقاتلات والمقاتلين بشكل ملحوظ وهي عملية متواصلة اليوم. إن تلك العمليات دفعت الحكومة الكولومبية للتوجه الحازم للتصدي لإرهاب 'الفارك'، ورافق ذلك انتخاب رئيس جديد تبنى سياسة الحزم والمواجهة، وكان 'الفاركيون' قد قتلوا أباه.

وقائع خطف بيتانغور:
إن عودة قصة السياسية بيتانكور للصدارة هي التي فجرت منذ شهور قصة الخطف الإرهابي في كولومبيا، كما طرحت، وتطرح، سبل وكيفية محاربة الإرهاب بأنواعه، فضلا عن إشكالية جدوى ومزالق الكفاح المسلح، وهو ما سنعود إليه.
تعود الوقائع لعام 2002، وكانت السيدة نائبة نشيطة وسياسية ذات مستقبل باهر، وقد استاءت مع معظم الكولومبين من استمرار العنف الدموي بين القوات المسلحة ومقاتلي الفارك، ومئات الضحايا منهم ومن المدنيين، واستمرار خطف الرهائن. السيدة بيتانغور لم تستوعب تماما العقلية التي تسير الفارك، وتوهمت بحسن نية طوباوية أن بمستطاعها في حوار مباشر، وبمنطقها، إقناع قادة المنظمة باللجوء للعمل السلمي، وإنهاء الكفاح المسلح، ولذا قررت تجاوز خطوط النار الفاصلة، وانتقلت لمناطق 'الفارك'. لقد بذل ستشاروها وأصدقاؤها من الساسة جهودا مستميتة لإقناعها بالخطر المؤكد من تحركها، وأن الفارك ليست منظمة حوار، ولكنها أصرت بقوة، وما أن وصلت مناطقهم حتى أسروها كصيد ثمين، ومعها مساعدتها البرلمانية 'كلارا روجاس'.
إن الحملة من أجل إطلاق سراح المختطفة الكولومبية قد اتخذت مسارا لا نعتقد أنه كان صحيحا، حيث كان الضغط موجها للحكومة الكولومبية لإطلاق سراح 500 سجين من أعضاء 'الفارك' مقابل تحرير الرهائن، بدلا من تعبئة الرأي العام الدولي لإدانة خطف المئات من الرهائن، من نساء ورجال. كما أن الحملة ركزت فقط على بيتانغور، وكادت تنسى بقية المختطفات والمختطفين وهم مئات أسروا قبلها، وبعدها، وعندما تظاهر مليونا كولومبي في العاصمة إدانة 'للفارك'، ومطالبة باستخدام مزيد من الحزم، كان رد فعل العائلة التحامل على الرئيس الكولومبي بحجة أن المظاهرات، وقد امتدت لعواصم كثيرة، 'تهدد' السعي لإطلاق سراح المختطفة! إن هذه الضغوط المتتالية على الرئيس الكولومبي، وسوء عرض الإعلام الغربي للوضع الحقيقي، قد دفعه لتنفيذ جولات أوروبية بدأها بفرنسا، شارحا حقيقة الوضع، وسياسة الحكومة في التصدي للإرهاب، وقد ساهمت جولته في تخفيف الضغوط، ولاسيما بعد نشر فظائع التعامل مع المختطفين في الغابات الكولومبية.
لقد وافق الرئيس الكولومبي على مفاوضات تجري لإطلاق سراح السيدة المختطفة عبر الصليب الأحمر ولكن 'الفارك' طالبوا باستقالته، وقالوا إنهم لا يتفاوضون إلا مع حكومة جديدة!! هنا انتهز الفرصة شافيز، وعرض وساطته وتحرك من وراء ظهر الرئيس الكولومبي مما دفع الأخير لرفض عرضه، وجدد عرضه بالموافقة على التفاوض بواسطة الصليب الأحمر، وبعد عدة وعود ومواعيد فاشلة من 'الفارك' بإطلاق سراح بيتانغور، وتسليمها للصليب الأحمر لإيصالها لفنزويلا، ولكن ما حدث أخيرا هو إطلاق سراح مساعدتها فقط، مع نائبة كانت قد خطفت عام 2001، أما مصير بيتانغور فهو مجهول، وجدير بالذكر أنه بعد يومين من إطلاق سراح المرأتين خطف 'الفارك' ستة رهائن آخرين!
إن استجابة 'الفارك' الجزئية لوساطة شافيز كان لها ثمنها 'الدسم' كما تبين، ووفق صفقة سياسية، إذ قرر البرلمان الفنزويلي، بمبادرة من شافيز، اعتبار المنظمة جهة سياسية، وجيشا ثوريا للتحرير، مخالفا بذلك موقف المجتمع الدولي.
قلنا إن أساليب الإرهاب الإسلامي الوحشية، وأساليب الفارك في معاملة الخصم، تكاد تتقارب في بعض النواحي، رغم أن الإرهاب الإسلامي قد ضرب الرقم القياسي في البربرية، والوحشية الدموية، في التعامل مع ضحايا عمليات الخطف، والتفجير وقطع الرؤوس.
إن هذه المقارنة ستكون مدار المقال التالي، مع وقفة عند إشكالية 'الكفاح الثوري المسلح' وتجاربها المختلفة.

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه