الإسلام، أوروبا، والاشتراكية، ثلاثة مفاهيم كانت تتصارع في ما بينها لحيازة سلطة المرجع الفكري في الثقافة المصرية أواسط القرن الماضي. وحينئذ كانت المفاهيم تتغير باستمرار طبقاً لطبيعة ذلك الصراع؛ فالنزعة الوجدانية التي طغت على الثقافة المصرية ولاسيما في ميدان الأدب، وما فتئت أن تحولت فيما بعد إلى نزعة فردانية، لم يكن مقدّر لها أن تصمد في وجه صعود الفكر الاشتراكي في هذه الثقافة نهاية الثلاثينيات، ونموه المتسارع خلال عقد الأربعينيات. يقول غالي شكري المثقف اليساري والمؤرخ النقدي للثقافة المصرية واصفاً ذلك:
وهكذا مضت الثقافة المصرية منذ سقوط الديمقراطية الليبرالية قرب نهاية الثلاثينيات في طريق الاستقطاب العنيف. راح الرواد يولون وجوههم شطر التاريخ الإسلامي، وراحت الأجيال الجديدة تولي وجوهها من جديد شطر أوروبا... وإذا كانت الديمقراطية البورجوازية في مصر قد سقطت، فإنّ الأجيال الجديدة راحت تبحث عن ( مركب جديد) يمزج الديمقراطية والعدل الاجتماعي في وحدة ديناميكية حيّة. هكذا انتشرت في ربوع البلاد الاشتراكية والآداب الاشتراكية والفنون الاشتراكية طيلة الأربعينيات، كما لم تنتشر من قبل. [ النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث ص 57/1982 ].
هذه المركبات الثلاثة، التي أجملها غالي شكري بـ: الإسلام، وأوروبا، والاشتراكية، ستوجه الثقافة المصرية ومعها العربية وجهة جديدة، تتحول فيها المرجعية من ذاتية فردانية إلى جمعية جماهيرية. وسيحلّ محل مفهوم الذات في المذهب الرومانطيقي مفهوم الجماعة في الفكر الإسلامي الجديد، ويحلّ محلّ الاثنين معاً في الفكر الاشتراكي مفهوم الشعب أو الجماهير. وإذا كان مفهوم جماعة المسلمين يستمد أصوله من التراث العربي الإسلامي، فإنّ مفاهيم الذات والشعب والجماهير، تستمد أصولها من الفكر الأوروبي المعاصر، وهو ما يختزل الصراع الثقافي بين: الإسلام وأوروبا.
ونظراً لذلك، كانت الثقافة المصرية تبثّ أشتاتاً من النظريات الاشتراكية، والواقعية، واليسارية، التي تتخذ من الواقع والمجتمع موضوعاً للنظر والدراسة. وفي ظل هذا، كانت هنالك ثقافة واقعية تنمو مصحوبة بتفسيرات نظرية تهدف إلى جعل هذه الثقافة بديلاً عن ثقافة أوغلت في الفردانية ولاسيما في المذاهب الأدبية السابقة، وعلى وجه الخصوص الرومانطيقية. كان هذا على خلفية انتشار الفكر الاشتراكي، علاوة على نشوء الحركة الوطنية المصرية التي أرادت أن تكون ضمير الشعب وصوته المعبّر، وتشكلت نتيجة لسياسة القمع والعنف للملك أحمد فؤاد (1869-1936) الذي حكم مصر من ( 1917- 1936) مستعيناً بإسماعيل صدقي ( 1875- 1950) الذي أطلقت عليه السيدة سنية قراعة لقب: نمر السياسة المصرية.
وكان تولى الوزارة مرتين: الأولى من (1930- 1933) والثانية من ( 1946- 1947)، مارس خلالهما التضييق على الحريات العامة، ولاسيما الحريات الثقافية مستغلاً حسن إطلاعه على الأدب والثقافة. ومع ذلك، فقد فضّل عدد من الشعراء الاستغراق في الهرب بعيداً عن الواقع، والانغماس في عالم الوجدان الخالص، معتقداً بأن الأدب الواقعي صورة من صور الاستقطاب السياسي الجديد.
لكن الواقعية لم تتجذر مذهبياً في الأدب العربي إلا في خمسينيات القرن العشرين، ويعزو محمد مندور ( 1908-1965) وغالي شكري سبب ذلك إلى ثورة 1952، التي أنتجت رؤية واقعية لمشكلات المجتمع المصري. يقول مندور:
حدث تطور جديد، من شعر الوجدان الذاتي إلى الشعر الاجتماعي الواقعي الذي يتعصب له الجيل الناشئ من شعرائنا الشبان. وقد جاءت فلسفة الثورة المصرية الأخيرة مؤيدة لهذا الاتجاه، وإذا بشعر الوجدان يأخذ بالانزواء، بل ويهاجم أصحابه ويتهمون بالذاتية وحب النفس وبالفردية والانعزالية ويطلق عليهم أحياناً اسم دعاة الفن للفن. [ الشعر المصري بعد شوقي ص10]
وهاتان الفلسفتان الأدبيتان: الواقعية، والوجدانية، إنما كانتا تعبّران عن موقفين وعن ثقافتين مختلفتين، وهو ما فجّر بينهما صراعاً وصفه غالي شكري بالكلمات الآتية:
امتد الاستقطاب إلى صفحات الملحق الأسبوعي لجريدة الجمهورية والرسالة الجديدة، وذلك حين بدأت المعركة الشهيرة في أوائل الخمسينات بين ما سميت وقتذاك بالمدرسة الواقعية في الأدب، وما سمّي خطأ مدرسة الفن للفن. وبدا واضحاً أن الأمر لا يخلو من الصراع بين جيلين، بالإضافة إلى المضمون الاجتماعي لهذا الصراع. كان اليسار يضم من جيل الرواد سلامة موسى وحده... ومن الأجيال التالية لويس عوض... والشباب الطالع من أمثال محمود العالم، وعبد العظيم أنيس، وعلي الراعي، ولطفي الخولي وغيرهم. ووقف على الطرف الآخر من الخط العقاد وطه حسين. ويؤرخ الكثيرون بهذه المعركة الحوارية ( النقدية) لبداية الانشقاق الحديث في الثقافة المصرية. والحقيقة هي أن هذه المعركة كانت ( نقطة فاصلة) على الصعيد النظري فقط... نقطة فاصلة بين القديم والجديد، بين الليبرالية والراديكالية، بين اليمين واليسار، بين الواقعية بمختلف اتجاهاتها من جانب والرومانتيكية في أدنى مستوياتها من جانب آخر. [ النهضة والسقوط ص 62]
كان ثمة صراع بين جيلين مختلفين في الرؤى والتصورات الذهنية والمعرفية والمواقف الثقافية جعلتهما يتبنون رؤية قِيَميَّة في الثقافة والفكر والأدب والفن والحياة. وعلى الرغم من أنّ أطروحات طه حسين الشاكة بمسلّمات التراث قد فتحت طريقاً جديدة في الثقافة العربية، لكنها لم تستطع أن تطور نظرية قراءة أبعد من المقترب اللساني البلاغي والتحقق التاريخي [ لنتذكر قراءته لإبراهيم ناجي، وردّ هذا الأخير المشفوع بالألم وخيبة الأمل....]. كذلك أن أطروحات العقاد المتذبذبة بين رؤيتين: عقلانية تكاد تكون علمانية وأخرى دينية تؤمن بالمطلق والمسلّمات، لم تستطع أن تجيب عن أسئلة الثقافة العربية، ولا تعالج مشكلات الواقع والثقافة معالجة جذرية. وهكذا ظلّت قراءتهما للأدب العربي تتصف بملامسة السطح عبر مجموعة من الخطرات غير المنظومة بناظم نظري يخضع لتصورات كلية. وعلى هذا الأساس، بات من الصعب العثور على نقطة للتلاقي أو الحوار المثمر بين هذين الجيلين.
هناك إذن، رؤيتان تعملان بنشاط على تكريس حجج نظرية أعدت لغاية سجالية، أكثر من إعدادها لتكوين فرضيات تحمل هوية ثقافية عربية، تستمد أصولها من قراءةٍ تقلّب الأدب والثقافة والتاريخ على وجوه متعددة، لتنظر عبر نسيج الأدب والثقافة إلى نسيج الحياة ومفارقاتها، فتبني المقدمات النظرية على المقدمات الأدبية التخييلية، تستنطق عالم الأدب بحضور عالَمي: الثقافة، والتغيّر التاريخي. ومن المؤكد أن هذا يقتضي تغيير النظرة إلى الأدب من كونه مهارة إلى كونه موقفاً. وتغيير الموقف من الثقافة من كونها معرفة إلى كونها موقفاً أيضاً.
لكن طه حسين الذي أسس رؤية راديكالية لقراءة التراث منذ 1926 في الشعر الجاهلي وأعاد طبعه ثانية باسم: في الأدب الجاهلي، والعقاد الذي أسس رؤية راديكالية لقراءة الأدب الحديث منذ 1921 ( الديوان)، وعرف عنهما تحمّسهما المفرط للفكر الأوروبي [ طه حسين الذي وجد في العام 1937 أنّ مستقبل الثقافة المصرية في الديمقراطية واعتناق نظم التعليم الأوروبية، والعقاد الذي وجد في العقلانية الأوروبية حلاًّ للمشكلة الثقافية عبر سلسلة مقالات كتبها في النصف الأول من القرن العشرين] أصبحا الآن يضيقان ذرعاً بانتشار الفكر المادي التاريخي، وإذا كان العقاد يلجأ إلى: التراث الإسلامي ليستمد منه سنداً في دفاعه، كما يقول رفعت السعيد [ تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر ص60/1980] فإن طه حسين كان توفيقياً في منطق الدفاع عن قيم الثقافة بوجه اليسار المصري ولم يكن ذلك مستغرباً، ذلك أن شخصيته الثقافية تمسك العصا من الوسط، لا تفرّط بالمرجعية الثقافية الأولى التي يصفها الناقد المغربي أحمد بو حسن بمرجعية: القراءة اللغوية المحدودة، ولا بالقراءة التي تتجاوز حدود اللغة لتصبح: قراءة مركبة. [ الخطاب النقدي عند طه حسين ص40/1985].
ومن المعروف أن طه حسين نفسه، أرجع هذا التكوين الثقافي إلى مصدرين:
الأول، يعود إلى أستاذه الأزهري، سيد علي المرصفي ذي الثقافة التقليدية الرصينة.
الثاني، يعود إلى أساتذته من المستشرقين، ولا سيما كارلو نالينو. وقد وقع طه حسين تحت تأثير ( القراءة اللغوية المحدودة) في معركته الفاصلة مع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، فافتتح تلك المعركة بتصوير مكابدته في عدم فهم ما كتبه هذان الكاتبان، واختار عنواناً دالاً لمقاله: يوناني فلا يُقرأ، وهو مثل أوروبي يعود إلى القرون الوسطى، يوم كان المثقفون الأوروبيون:
يجهلون اليونانية فإذا عثروا على ما هو مكتوب بالحروف اليونانية تركوه وقال بعضهم لبعض: يوناني فلا يُقرأ. [ خصام ونقد ص 93].
وقد ذيّل فقرة للكاتبين، بتساؤل مُرّ: أعربيّ هذا الكلام أم سرياني؟.
لقد كتب طه حسين في العام 1953، مقالاً في جريدة الجمهورية الناطقة باسم الحكومة تحت عنوان: صورة الأدب ومادته، ونشره فيما بعد في كتابه: خصام ونقد، في طبعته الأولى سنة 1955 بتغيير طفيف في العنوان ليصبح: صورة الأدب. ذهب فيه، بعد أن استطرد في التوفيق بين مذاهب القدماء والمحدثين، إلى أن: اللغة هي صورة الأدب وأن المعاني هي مادته. واختتم تلك المقالة بدعوة من يعارضون هذه الفرضية من الأدباء الشباب إلى كتابة تصوراتهم النظرية بخصوص الأدب: فما أشدّ حاجتي إلى أن أقرأ لهم وأفهم عنهم وما أشك في أني سأنتفع واستمتع بما يكتبون.
وقد ذكر الدكتور عبد العظيم أنيس ( 1923-....) في مذكراته: ذكريات من حياتي، أنه أحسّ عند قراءته مقال طه حسين كأنه يوجه إليه تحدياً شخصياً. [ ذكريات من حياتي ص26/ كاب لهلال]. ويذكر أنيس أنه اتفق مع محمود أمين العالم على كتابة مقال للرد على طه حسين، وإنهما لخّصا وجهة نظرهما على النحو الآتي:
أولاً: إن مضمون الأدب ( أو مادته) ليس المعاني وإنما هو في الجوهر الأحداث التي تجري في العمل الأدبي، وإن هذه الأحداث تعكس مواقف ووقائع اجتماعية الدلالة.
ثانياً إن صورة العمل الأدبي ( أو صياغته) ليست هي الأسلوب وإن كان الأسلوب عنصراً من عناصر الصورة. فالصورة عملية تشكيل هذا المضمون وجوانب الإضاءة والظلال فيه، إنها عملية إبراز عناصر هذا المضمون وتنمية مقوماته.
ثالثاً: إن تحديد الدلالة الاجتماعية للعمل الأدبي لا يتعارض مع تأكيد قيمة الصورة أو الشكل الأدبي، بل على العكس قد يساعد على الكشف عن كثير من أسرار هذا الشكل.
رابعاً: إن النقد الأدبي ndash; على هذه الأسس ndash; ليس دراسة لعملية الصياغة في صورتها الجامدة فحسب، وإنما هو استيعاب لكافة مقومات العمل الأدبي ما يتفاعل فيه من أحداث وعلاقات، وبهذا يصبح الكشف عن المضمون الاجتماعي ومتابعة عملية الصياغة مهمة واحدة متكاملة للناقد الأدبي.
خامساً: ومن هذا تقرر كذلك أن العلاقة بين الصورة والمادة أو بين الصياغة والمضمون لا تكون علاقة متآزرة متسقة إلا في الأعمال الأدبية الناجحة. أما العمل الأدبي الفاشل كذا... فهو ذلك العمل الذي يقوم بين صياغته ومضمونه تخلخل وتنافر وعدم اتساق.
وعلى هذا فإن المدارس الفنية التي تهتم بالشكل كالسريالية والمستقبلية مثلاً مدارس فنية غير مكتملة. هذه هي الأسس العامة التي تقوم عليها حركتها النقدية والإبداعية على السواء. وبهذه الأسس نعد أنفسنا على خلاف بيّن مع أصحاب المدرسة القديمة.
بعد ثلاث وخمسين سنة من ذلك الجدال؛ أي نفس المدّة بين بداية القرن الماضي ونشر المقالتين لطه حسين وعبد العظيم أنيس ومحمود العالم في 1953، ماذا نكتشف؟. بمعنى آخر، كيف نحدّد لحظة الانعطافة الحادة في تأسيس رؤية نظرية جديدة للأدب والنقد؟.
يخيّل لي، أن الذي أزعج عميد الأدب العربي، هو ضعف الأسلوب لدى أنيس والعالم أكثر مما أزعجته الأفكار الواردة فيه، ومن يقابل بين النقاط الأربع التي ذكرها أنيس في مذكراته، والنقاط الخمس التي ذكرها طه حسين في: خصام ونقد، يرى كيف أجرى هذا الأخير سلسلة تعديلات على عبارة أنيس والعالم ليشذبها من المطّ الذي هي عليه، قبل أن ينتقدها. ونحن نتذكر ذلك السؤال الذي أطلقه في وجهيهما: أعربي هذا الكلام أم سرياني؟ ومن جهة ثانية، إن طه حسين يتحدث عن الأدب وفي ذهنه الشعر وارث تاريخ البلاغة، وهما يتحدثان وفي ذهنيهما الرواية وارثة مشكلات المجتمع المدني الحديث. ومن الناحية البنيوية، فالفرق بينهما يتمثل في الحضور الطاغي لضمير المتكلم (الأنا) في الشعر، على حين يحضر بقوة في الرواية ضمير المخاطبين؛ ضمير الجماعة أو المجتمع.
ولذلك فإنّ من الطبيعي أن تكون صورة النقد في ذهن طه حسين قائمة على تشخيص: لغوي أسلوبي، وفي ذهن أنيس والعالم قائمة على: عكس المواقف والوقائع الاجتماعية.
ومن المدهش حقاً، أن طه حسين صاحب نظرية مطابقة العقل المصري للعقل اليوناني الأوروبي، والداعي الأبرز لحتمية الاندماج وضرورته بين العقل المصري الحديث والعقل الأوروبي [ وذلك في كتابة المعروف: مستقبل الثقافة في مصر 1937، حتى أن محمود أمين العالم قد أطلق عليه، في كتابه مفاهيم وقضايا إشكالية، لقب: عمود التغريب في مصر] أصبح يصطف مع فريق أنصار التقليد ليهاجم النظريات الجديدة ذات المرجعية الأوروبية.
إن ملخص المشكلة بين طه حسين وأنيس ومحمود العالم، يتمثل في أن هذين المفكرين الأخيرين أرادا أن يؤسسا مقاربة ذات مرجعية أوروبية ndash; لقراءة الأدب وفهمه وتحديد منظومته القيمية من خلال قدرته على تمثيل الحركة المستمرة للمجتمع ونزوعه إلى التغيير بفعل عوامل السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، والتواصل الحضاري، وكذلك بفعل الحاجات المتنامية للمجتمع الحديث.
وفي هذه المقاربة، ذات الجذور الفلسفية الماركسية، فإنّ الأدب لم يعدّ حدثاً أسلوبياً دالاً على ثقافة جمالية طبقية، بل جزءاً أساسياً من تلك الحركة المستمرة، إذ لم يكن بين الأدب والمجتمع ثمة فاصل عميق، وها هو أحد أقطاب المادية الجدلية لوسيان غولدمان (1913-...) يؤكد أن: القيم الفكرية الحقيقية لا تنفصل عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بل هي قائمة بالذات على هذا الواقع [ المادية الجدلية وتاريخ الأدب- لوسيان غولدمان].
ويرى أن: العنصر الأساسي في دراسة الإبداع الأدبي يتمثل في كون الأدب والفلسفة هما، على صعيدين مختلفين، تعبير عن رؤية للعالم وفي كون الرؤيات للعالم ليست وقائع شخصية بل وقائع اجتماعية.
ويعتقد أن كل واقعة اجتماعية هي واقعة وعي، وكل وعي هو تمثيل ملائم لقطاع معين من الواقع [ الوعي القائم والوعي الممكن- غولدمان].
وعلى هذا الأساس، فإنّ عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم قاما بتجميع مبادئ لنظرية قراءة جديدة قائمة على تلك الأصول التي فهم منها النقاد الماركسيون الجدد ( لوكاش وغولدمان تحديداً) علاقة الأدب بالمجتمع. ومن هنا، فهما غير مشغولين بعقلانية: العلاقات اللغوية، والعلاقات الأسلوبية داخل النص الأدبي، بقدر انشغالهما بكيفية تمثيل الوقائع الاجتماعية، وكيفية انعكاسها داخل النص، وكيفية تحول الأدب إلى جزء أساسي في عمليتي التمثيل والانعكاس.
ولم يضف أنيس والعالم، إلى مبادئ القراءة التي جادلا فيها طه حسين في العام 1953، شيئاً جديداً إلى تلك المبادئ عندما أصدرا كتابهما المشترك: في الثقافة المصرية، بعد سنتين من تلك المقالة. لكنهما أضافا ست خصائص عامة لما وصفاه بالشعر الجديد، وهي:
أولاً: يتميز هذا الشعر الجديد أولاً بعودة شاعره إلى الارتباط بالحياة الاجتماعية العامة، ولقد اتخذ للتعبير عن هذه الرسالة الأساسية للشعر سبيلاً جديداً.
ثانياً: والخاصية الثانية لهذا الشعر صياغته الجديدة. والشعراء القدامى أدركوا تخلف صياغتهم عم مطاولة التجارب العميقة. إن الشاعر الجديد إذن يحذر الشكل الجامد الذي قضى على المضامين القديمة بالجمود والضحالة، ولهذا لا يود أن يعترف بأن الشكل شيء غير ما عبر عنه، ولكن ما عبر عنه إنما هو في الحقيقة خبرة مصاغة مشكلة تختلف عن الصياغة القديمة اختلافاً حاسماً جدياً.
والمظهر الأول لهذا الاختلاف هو استناد الشعراء على التفعيلة الواحدة لا البحر، كوحدة للتعبير الشعري. وشأن التفعيلة في ذلك، شأن القافية. فالشعر الجديد يتخلص من القافية، إلا أن تخلصه من القافية ليس هو المحك الحاسم لجدته. وفي الأبنية الشعرية الجديدة نلتقي بالقافية أحياناً. حقاً أنها لا تتلاحق في رتابة وجمود، بل تلمع هنا وهناك في ارتباطات متراوحة طيعة. على أن التخلص من القافية هو إحدى الوسائل المسعفة على البناء الفني الجديد. إن المظهر الجدي للصياغة الجديدة هو الخروج عن التقريرية إلى التعبير بالصور تعبيراً بنائياً. وعلى هذا فالتفعيلة الواحدة وانعدام التقفية، والتقفية المتراوحة، والحوار الجانبي، والتعبير بالصور، كلها وسائل صياغية متكاملة لإبراز المضمون إبرازاً فنياً.
ثالثاً- والخاصية الثالثة للشعر الجديد، هي ما نراه من زوال الازدواج بين الحس والفكر، بين التعقل والشعور، وقيام تفاعل فني خصب بينهما.
رابعاً- والخاصية الرابعة، هب استخدام الشاعر الجديد لكثير من الأجواء والتعابير والمصطلحات الشعبية، والتبسط في استخدام الأساليب اللغوية إلى حد النسيج العادي البسيط.
خامساً- والخاصية الخامسة. خاصية خارجية للشعر الحديث، وهي في الحقيقة تنبع من خاصيته الأولى، خاصية ارتباطه بالحياة الاجتماعية. هذه الخاصية الخامسة، هي قابليتة للانتشار على شكل جماهيري واسع.
سادساً- هي خاصية أخيرة، ليست للشعر الجديد، وإنما هي للشاعر الجديد، وهي مصدر ما في شعره من حدة، ونضارة وحركة وحياة، تلك الخاصية هي اشتراكه الفعلي في عمليات الكفاح بين مواطنيه.