أثار رفض بعض الدول العربية وعلى رأسها الجزائر وليبيا مشروع quot;الاتحاد من أجل المتوسطquot; مشكلة العلاقة بين الغرب والعالم العربي من جديد بعد أن كاد الجميع ينسى مخلفات الحرب التي شنها الحلفاء الغربيين على العراق عام 2003 وآثار العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006 وطرح مجددا السؤال عن الكيفية التي ينبغي أن ينظر بها دول الجنوب الى دول الشمال وعن آليات التواصل بين الطرفين
وان أكد البعض على ضرورة مساندة المجتمع المدني الغربي للمجتمع المدني العربي ان استحال ايجاد شراكة مع الأنظمة الرسمية فان البعض الآخر نصص على حاجة جنوب المتوسط الى المزيد من فرص الاستثمار والتحديث وذلك بالتعاون مع الأنظمة السياسة القائمة وبتفعيل المنظمات غير الحكومية على السواء وتشجيع مبادرات الفاعلين الاجتماعيين التائقة نحو الإصلاح الديمقراطي والتنمية الاقتصادية.
لكن المثير للاستغراب أن هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين انقسموا الى فريقين:
الأول يعتمد على التحديث الغربي عن طريق التبشير بالعلمانية والمبادئ الديمقراطية وتربية الناس على ثقافة الاختلاف وحقوق الانسان.
والثاني يتشبث بالنموذج التقليدي في التغيير الاجتماعي عن طريق الإحياء الديني وتربية الناس على القيم الأخلاقية والأصول التراثية السمحة.
انه من البديهي بالنسبة للبعض من التحديثيين أن يلتفت العالم العربي الى الشمال من أجل اعتماد النموذج الغربي قصد القيام بالتطوير والتنمية خاصة وهو مفجر الثورات العلمية والصناعية والرقمية والإنسانية ومؤسس الحداثة والتنوير والمدنية والتي وصل صداها الى قلب الذرة وأقصى حد من الفضاء الخارجي.
كما أنه من البديهي بالنسبة للبعض من التقليديين أن يدعوا الى تعويل العالم العربي على ذاته والانطلاق من الضاد والقرآن وأن يلتفتوا الى الماضي المجيد وأن يستلفوا شروط نهضتهم من تراثهم الزاخر ويعتمدوا على ما تركه السلف من وصايا وتجارب وأن يكتفوا باستنساخها والسير على خطاهم وأن ينظروا الى الغرب نظرة عدائية وموقف رافض.
لكن ثمة إشكال وراء هذه البداهة وتوجد معضلة خلف المسلم به إذ يا ترى كيف نفسر فشل مشاريع التحديث في العالم العربي على الرغم من تبنيها النموذج الغربي برمته ومحاولتها محاذاته حذو النعل بالنعل؟ ولماذا سببت جميع المشاريع التقليدية التي تعتمد على شعار الهوية الدينية أو الثقافية الجمود والانغلاق وفوت على العرب فرص اللحاق بالآخر المتقدم وساهمت في اتساع الفجوة بين الثقافة العربية وروح العصر؟
ربما إشكال التحديثيين أنهم لا يحترمون خصوصية الواقع الذين يسعون الى تطويره ولا يبحثون على طرق ملائمة بين المناهج الغربية العلمية والثقافة العربية التراثية وأنهم يظهرون للرأي العام وكأنهم مجرد خادمين مبشرين بالعولمة والثقافة الغربية فينتهي بهم الأمر الى الإسقاط والتغريب ويكتفون بإجراء عمليات جراحية تجميلية على البنية الفوقية دون أن يطال التغيير البنية التحتية وهو ما يعرض محاولاتهم الى الفشل ويحكم على مجهوداتهم بالمحدودية.
ربما إشكال التقليديين أنهم لا يحترمون روح العصر ويرفضون الانخراط في تجربة الكوني ويسعون الى تجنيد الناس وتجييشهم من أجل مشاريعهم المفلسة والماضوية وبالتالي يظهرون أمام الرأي العام على أنهم حراس الهوية والأمناء على العقيدة ولكنهم يفشلون في بناء مشروع مجتمعي تقدمي يوفر الشغل والسكن والصحة والتعليم للجميع ويعجزون عن بناء دول تتمتع بالسيادة وتتصف بالعصرنة والمدنية ولذلك ينتهي بهم الأمر الى التقوقع والخروج من التاريخ.
بينما المطلوب هو التخلص من الحنين الى الأصول المكتملة وتجاوز حالة الانبهار بالغالب والعمل على تقريب العالم العربي من عصور الازدهار والتفتح التي عرفتها حضارة اقرأ على مستوى إبداع الأفكار وإنتاج العلوم والعناية بالفنون وتدبير أمور العمران وحفظ الأبدان خاصة لحظة ما سمي بظهور الإنسية العربية، علاوة على ذلك يحتاج العالم العربي الى الاستفادة من آليات التقدم التي حازت عليها البشرية لمقاومة الفقر والظلم والقمع والجهل وهي الأسوار الأربعة التي تحجب عن العرب أنوار التحضر والترقي.
ان الوصفة السحرية ليست التوفيق بين التقليد والتحديث وبين التراث والمعاصرة وبين الهوية والعولمة بل تجاوز هذه الثنائيات والعود على بدء والعمل على تقريب الفجوة بين العالم العربي الإسلامي والغرب لأن دين الإسلام لا يحرم على المسلمين الأخذ بناصية العلم والاستفادة من تجارب الآخرين في تدبير شؤون الدنيا وتطوير قدراتهم الذهنية من أجل حسن التعامل مع الكون بل على العكس من ذلك حثهم على اعتبار الطبيعة والنظر في المجتمعات الغابرة وأخذ العبر والدروس منها حول أسباب الاندحار والتراخي وشروط اليقظة وامتلاك ناصية التحضر.
من هذا المنطلق يلزم إنهاء حالة الاحتقان والتحرش والتهديد بين العرب والغرب وتحييد المعتقدات الدينية عن التسويغ السياسي لشبهة الصراع بين الثقافات وذلك بنقد التمركز على الذات والكف عن النهج الاستعلائي الاختراقي والاعتذار عن جرائم الاستعمار وإبرام صلح شامل يحفظ الحقوق ويؤسس علاقة قوامها الاحترام والفهم المتبادلين ويعمل على تحقيق المساواة بين الشعوب لأن ذلك أمر لازم اذا ما أردنا بناء شراكة اقتصادية ومنظمات سياسية مشتركة مثل فكرة الاتحاد من أجل المتوسط التي دعا إليها الغرب ورفضتها بعض الدول العربية الرافضة للهيمنة والمتعطشة الانعتاق والكرامة والسيادة حتى في ظل الحرمان من منافع العولمة ورفاهة العصرنة.
ان المجدي اليوم هو أن يقف العرب الند للند مع الغرب وأن يستجمعوا قوتهم من أجل التوحد والتكامل والانصهار في ذات واحدة وليس أن يرفضوا كل أشكال المشاركة والتواصل معه وتبرير ذلك بالاحتكام الى أحداث الماضي وقيمه رغم صحتها ووجاهتها ولكن من المفيد للعرب اليوم أن ينفتحوا على العالم المتحضر وأن يستفيدوا من طرق التنمية والطفرة الرقمية وأن ينخرطوا معه في تجربة تنافس حضاري ومزاحمة ثقافية.
ما أحوجنا عندئذ الى مصالحة حقيقية بين العرب وتراثهم النير والقيم المشتركة الانسانية الحاضرة حتى يفعلوا في التاريخ ويسترجعوا البوصلة التي فقدوها منذ حروب الروح الكبرى وصولات وجولات الفرسان الغازية، فمتى يفهم العالم الغربي أن من مصلحته أن يكون العالم العربي متقدما حداثيا خاليا من الحالمين بالهجرة غير الشرعية اذا ما أراد أن يحمي نفسه من رياح العدم؟ وأليس من الضروري للعرب أن يتفاعلوا توليديا مع العالم الغربي عوض أن يناصبوه العداء ويعملوا على تخريب الحضارة التي شاركوا منذ ابن رشد في بعثها من الرماد؟ ألا ينبغي أن يتوقف العرب عن تقليد الوافد والاكتفاء بالموروث والحنين البدائي حتى يمكن لهم أن يوجدوا في العالم ومع الآخر؟
* كاتب فلسفي