لا يمكن لعاقل أو مجنون، وطني أو عميل،إلا أن يدين هذا الاجتياح الهمجي الوحشي لشعب أعزل من السلاح في قطاع غزة الذي لا تزيد مساحته الإجمالية عن 365 كيلو متر مربع، ويقطنه مليون ونصف من البشر المحرومين من كافة أبسط مقومات الحياة الإنسانية، وهو بذلك يعتبر أكثف مناطق العالم سكانا، وبعد الاجتياح العسكري الهمجي أكثر مناطق العالم بؤسا وحزنا ومرضا وتقشفا. من يتخيل سقوط ما يزيد عن سبعمائة قتيل أو شهيد ـ فالتسمية لا تهم عند ذوي الضحايا ndash; حتى لحظة كتابة هذه المقالة، وما يزيد على ثلاثة آلاف جريح نسبة عالية منهم مرشحة للموت أو الإعاقة الدائمة؟ إنه بوضوح هولوكست حقيقي يرتكبه من تعرضوا لنفس الهولوكست في زمن النازية الألمانية، وهنا معضلة تحتاج لمئات من علماء النفس كي يبحثوا كيف يتحول الضحية إلى مجرم أكثر إجراما ووحشية ممن سبق أن ارتكب بحقه الجرائم؟. هل سينسى الفلسطينيون في القطاع والضفة وكافة المنافي هذا الهولوكست البشع؟ حتما لا..فكيف ينسى ذوي الأطفال والشباب والنساء ضحاياهم؟ وقد ترملت مئات النساء وتيتم مئات الأطفال وأصبحوا معاقين مئات الشباب؟. ورغم كل هذه المآسي يبقى متسع من الوقت لاستخلاص دروس مهمة من هذا الاجتياح وما صاحبه من جرائم ترقى لحد الإبادة الجماعية.
دروس لحركة حماس
أهم هذه الدروس التي من المفترض أن تستنجها وتفهمها حركة حماس هي أن توازن الرعب يختلف عن توازن القوى، فعلى مستوى الرعب رغم بدائية صواريخ حماس والجهاد فقد أحدثت رعبا في الشارع الإسرائيلي يكاد يوازي الرعب في أوساط المجتمع الفلسطيني، إلا أنه عند دراسة موازين القوى لا ينكر أحد أنها تميل بشكل حاسم لصالح جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يتحدى جيوش 22 دولة عربية بما فيها دولة جزر القمر العضو في جامعة الدول العربية. ولو وعت حركة حماس هذه المسألة لأصرت ولو من طرف واحد على استمرار التهدئة الهشة، التي في لحظة انتهائها تم إطلاق بعض تلك الصواريخ البدائية مترافقة مع تصريحات التهديد والوعيد، لتعطي مبررا لجيش الاحتلال أمام الرأي العام العالمي تحديدا الأمريكي والأوربي للبدء بهذا الاجتياح الوحشي إلي لم يستثن بشرا أو حجرا. إن هذا المشهد الحماسي يشبه تماما لو كنت أنا الإنسان الضعيف أتناقش مع محمد على كلاي الملاكم العالمي، وفي لحظة عصبية قمت بصفع كلاي كفا على وجهه! فكيف سيكون رد كلاي؟ حتما سوف يحطمني بلكماته مما يحيلني أشلاء متناثرة من الصعب التعرف عليها وجمع شتاتها.
اعترافات مشعل الشبيهة باعترافات نصر الله
والدليل على صحة رأينا هذا ما نقلته جريدة الشرق الأوسط اللندنية عن الأديب الفرنسي اليهودي مارك هالتر الذي التقى خالد مشعل في دمشق يوم الجمعة الثاني من يناير الحالي، وقد نقل على لسان خالد مشعل كلاما خطيرا يدين حركة حماس بشكل صارم، ومما نقله على لسان مشعل قوله:
quot; إن إسرائيل بإدارتها المفاوضات السلمية مع الرئيس محمود عباس إنما تضيع الوقت هباء، فأبو مازن ليس قويا ولا يتمتع بقدرات ونفوذ الرئيس الراحل ياسر عرفات. وفقط حماس هي التي تستطيع اليوم استيفاء الشروط للمفاوضات quot;
quot; إن حماس لم تكن قد خططت لإدارة حرب مع إسرائيل، وكل ما أرادته هو إجراء استفزاز بسيط لا أكثر، ولم تتوقع أبدا أن يأتي ردها بهذه الضخامة quot;
ومواقف خالد مشعل هذه نسخة طبق الأصل من مواقف السيد حسن نصر الله عقب الاجتياح الإسرائيلي في حرب تموز 2006 على لبنان، عندما صرّح بوضوح. quot; لقد سبق أن خطف حزب الله جنودا إسرائيليين ولم يكن رد إسرائيل بهذا الحجم. لو كنت أعرف أنهم سيردون بهذا الشكل لما قمنا بخطف الجنديين الإسرائيليين quot;.
الغباء في هكذا مواقف أن أصحابها يريدون خوض الحرب مع الاحتلال على ذوقهم ويريدون أن يكون حجم رد الاحتلال كما يريدون هم، وكأنهم يحركون الاحتلال بالريمونت كونترول كما يتوهمون. متناسين أن الاحتلال أي احتلال في أغلب الأوقات يريد سببا من خصمه كي يقوم بتدمير ما يستطيع من قدرات ذلك الخصم، وهذا ما حدث في حرب تموز 2006 مع حزب الله، وفي المواجهة والاجتياح التالي مع حركة حماس.
والدرس الثاني لحماس هو أهمية أن تدرك خطأها الفادح بانقلابها العسكري في يونيو 2007 الذي أحكمت من خلاله السيطرة المطلقة على قطاع غزة، وطردت ببشاعة ووحشية كل ما يمت بصلة لحركة فتح والسلطة الفلسطينية مترافقا ذلك بجرائم بعضها لا يختلف عن جرائم الاجتياح الإسرائيلي. لأنه أيا كان تقييمك لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، فطوال وجودهما أو سيطرتهما على القطاع لم يجرؤ الاحتلال على هكذا اجتياح، لأنه كان يعتبر السلطة الفلسطينية طرفا في محادثات السلام التي لم ينتج عنها أية نتيجة على الأرض، وكان الاحتلال يماطل لفرض شروطه المجحفة التي لا يمكن قبولها من أي مفاوض فلسطيني.
سقوط أكذوبة دول الممانعة
الدرس الثالث من تطورات هذا الاجتياح واستمراره هو سقوط أكذوبة راجت العامين الماضيين حول تقسيم الدول العربية إلى quot; دول ممانعة quot; و quot; دول اعتدال quot;، وقد روج لذلك أولا الرئيس السوري بشار الأسد صاحب نكتة أشباه الرجال، فيأتي هذا الاجتياح الهمجي الإسرائيلي لقطاع غزة، ليثبت أن أصحاب نكتة أشباه الرجال، هم أول من يمكن أن يطلق عليهم بموضوعية أنهم أشباه رجال، فالعدوان الإسرائيلي يدخل أسبوعه الثالث دون أن نسمع طلقة واحدة أو نشاهد صاروخا واحدا من النظام السوري لنصرة الرجال في قطاع غزة، وبدلا من ذلك يستمر النظام السوري في مهازله لمزيد من شق الصف العربي المشقوق أساسا، فيسير المظاهرات نحو السفارة المصرية متهما النظام المصري بالتآمر على الشعب الفلسطيني، أما نظامه السوري فهو ليس متآمرا وهو الذي لم يسمح لأي فلسطيني من عام 1967 بإطلاق أية رصاصة على إسرائيل من الحدود السورية، وجيش النظام نفسه يحمي الحدود مع إسرائيل بحيث أصبحت أهدأ حدود، والمهم معرفة أن نظاما لم يطلق رصاصة لتحرير جولانه المحتل، ولم ينظم أية مقاومة سلمية أو مسلحة في الجولان، لن يتوقع منه أن ينتصر للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلا بالبيانات الخطابية التي لا يصدقها سوى الجهلة والمغفلين.
التاريخ يكتبه الأقوياء
الدرس الرابع من وقائع هذا الاجتياح الهمجي هو أن الشعوب العربية وأنظمتها، تحترف مهنة الضحك على الذات، فقد تظاهرت الشعوب العربية بشكل من الصعب رصده، فلم تخلو مدينة أو قرية أو حارة أو شارعا عربيا من مظاهرات عنيفة صاخبة أحرقت الأعلام الإسرائيلية، واجتاحت مواقع الانترنت البيانات وجمع التوقيعات المتضامنة مع قطاع غزة، ويعرف أصحاب ذلك أنه مجرد جعجعة لا يرافقها أي طحن يمكن أن يطعم جائعا أو دواء يشفي مريضا في القطاع. وبالتالي أصبحت الشعوب العربية مهنتها المظاهرات فقط، وليس في أجندتها النضال لإقامة أنظمة ديمقراطية ترتقي بشعوبها وتجعلها في مستوى تحديات الاحتلال. وليس ذلك فقط بل هذه الشعوب هي التي تسير المظاهرات التي تهتف لذلك الطاغية quot; بالروح بالدم نفديك يا....quot;.
الدرس الخامس والأخير من وجهة نظري هو أنه في ظل عجز حركة حماس عن الدفاع عن الشعب الفلسطيني في القطاع، وهي التي أسهمت بنسبة من النسب في جرّ هذا الاجتياح الهمجي، فعليها أن تكون شجاعة وتعترف بخطئها وذلك إما عبر التنحي عن السلطة في القطاع أو تسهيل شروط الحوار الوطني الذي يسمح بعودة حركة فتح والسلطة الفلسطينية لرص الصفوف الفلسطينية احتراما لدماء ألاف من القتلى والجرحى. هذا رغم أن تصريحات خالد مشعل السابقة لا تبشر بخير، عندما يطلب من المفكر الفرنس اليهودي أن ينقل رسالة للرئيس الفرنسي ب quot; أن مشعل معني بأداء دور في قضية الشرق الأوسط، وأنه مستعد للتفاوض مع إسرائيل على سلام يقوم على أساس حدود عام 1967 quot;. إذن لماذا تمّ الانقلاب على السلطة الفلسطينية وطردها من القطاع، وهي التي تعلن سرا وعلنا أن حدود عام 1967 هي أساس وقاعدة المفاوضات مع إسرائيل ولا تنازل عن ذلك؟.
كل هذه الدروس لا يمكن أن تنسينا بشاعة وهمجية الاحتلال، وجرائمه هذه لا تعني إلا أنه غير معني إلا بسلام حسب الشروط الإسرائيلية، وهي شروط لا يقبلها أي خائن فلسطيني أو عربي، فهل يعي الاحتلال هذا الدرس؟
[email protected]
[email protected]
التعليقات