تقوم الحاجات الرمزية، التي تتوالد توالداً عذرياً لا يبدو انّ له نهاية، تقوم على المداهنة المتبادلة لدى مستهلكي الرموز الذين يتحرّقون الى المزيد منها. ولا بدّ انّْ تكون للرموز بؤرة في الواقع، او موضوع، قد لا يكون حياً من الناحية البايولوجية، ولكنه يكسب حياته بواسطة الأحياء الذين تطاردهم اشباحه فيعطونه من حياتهم ما يجعلهم يوقنون شيئاً فشيئاً انّ موته هو اقوى من حياتهم السقيمة ما داموا محتاجين الى رموز توفرها لهم تلك البؤرة او ذلك الموضوع.
انّنا نعاني، معاناة مريرة من قوة الحاجات الرمزية، مقابل ذعرنا امام انفتاح الوقائع، حتى ولو وجدنا ذلك الانفتاح يدعونا كلّ لحظة الى تقبلّه لانّه سيقوم برعاية ارادتنا المتفائلة.
ليست كلّ موضوعات الرموز، أو بؤرها، مسؤولة عن حاجاتنا الرمزيّة، بل انّ غالبية تلك ليس لها علاقة سببيّة برموزنا، كما انّ الكثير من هذه الرموز لا تنشأ باختيارنا، ولكننا سندّعي اختيارها فيما بعد، أي بعد انّ صادفناها quot; ملائمة quot; لنا، وقد نقتتل على هذا النوع من quot; الاختيار quot;، أو نحرسه الى الدرجة التي ننسى فيها وجودنا الفيزيائيّ نفسه ونتعامى عن تطلعاته، بل نحرف متعلقاته ونؤولها باتجاه quot; اللوحة العقائدية quot; التي كثيرا ما توفرها الرموز ndash; التي لا حول ولا قوة لها ndash; بمداهنتها لنا، فهي نشاط نتمرغ بأصباغه فتصير لنا الواناً: عاطفيّة، فلسفيّة، فولوكلورية، تجاريّة... لنقل: ثقافية بالمعنى الاجتماعي العام. وهي الوان تبدو اهدافها متفرّغة لارغامنا على الانصراف عن الواقع ومبادئه لكي ننتهي الى ما يسميه غرامشي بسلام المقابر الذي سنجد انفسنا مضطرين الى طلب حمايته من طرف * ديدبان اجنبي، فالاجداث بالمدفونين فيها ومن يستلهمونها عاجزة الا عن التلبية السلبية للرموز المتسكعة. هكذا.، اذن، نكون اقلّ استحقاقاً لانفسنا من حيث كوننا قوى تجادل الواقع وتقترح عليه، وتهبّ الى المبادرات، وتقوم بتفعيل الحكمة، ولا تسئ الى البساطة او تصيبها البلادة امام التعقيد، او حتى تقع في المنطقة التي هي بين الوهم والحقيقة. أي ابعد من ان نعرف حدودنا وحدود الاشياء ثم ان ندفع التخوم حتى نحصل على المفصل الذي نعيد فيه انتاج انفسنا ونصحّح الاخطاء لنصل الى معرفة ما، وهكذا....
انّ ضغط الحاجات الرمزية يتواصل، وهناك اشخاص ومؤسسات ونوازع ساهرة على عوائدها من تلكم الحاجات، وكلّما قامت النخب الثقافية والسياسية باحياء وتنشيط النقد فانّ المجتمع القديم يعود الى نشر روائح جثثه لارعاب اعضائه، ولا يقبلّ بوضع ايّ مسافة بين الفرد وبين نفسه لكي يرى ذلك الفرد آفاقا اجتماعية في شخصيته. انّ المؤسسة تقوم بملاحقته رمزيا حتى يجد نفسه في المصيدة بعد حين من الفشل المتلاحق الذي وجد نفسه متطوّقا به.
وهذا ما لقيناه كثيراً في مصائر العديد من الافراد المتنوّرين. انّ النقد واعادة تركيب الحاجة الرمزية وتجديد الثقة بامكانية رؤية الواقع من جهات عديدة، والبحث الطرائقي في الإشكاليات (الكيفيّة التي يتعين بها تصوّر المشكلة في منظومة فكرية محددة) ثمّ تحديد علامات التطوّر اللاحق، كلّ هذا وغيره من الالتماس الحثيث لانتقالات المجتمع على علاّتها، سيكون من ضمن مشروع حماية الامل، على مستوى الارادة. لانّها متفائلة فلسفيا على حد تعبير غرامشي ايضاً، وهي من بين ما يجعل الحداثة امراً ممكناً.
ان الحاجات الرمزية ليست قابلية تجريدية وحسب. انها تريد ان تضع في بالنا انّها في مستوى التجريد الذي لا يعالج في تحليل ملموس. فقد تكون نشاطا مفتعلاً، كما قدّ تكون ردّ فعل اصيل، او نموّا طبيعيا، او خنثوياً في ظرف ما، وهذا وغيره لا يجعلها تجريدا. فالوصف والتصنيف، سيقوداننا الى التفرقة الحاسمة بين النظام والمنظومة في حالتها وفي حالات غيرها لنقف حقا على عتبة النقد من اجل ممارسته بالفعل. بيد انّ اولى خطوات النقد بعد العتبة هي خطوة تتجه الى الذات من غبر جدران quot; سقراطية quot; حسب تعليم نيتشه، انما بالعودة الى الينابيع، quot; وبتفجير النصوص quot; كما هو ايعاز ابن عباس في ارثنا الاسلامي.
اخيرا ليس من المزري بي او بالقارئ، التذكير بضرورة معرفة الحدود قبل أي نقد ايجابي او سلبي، وعدم التكبر على الحاجات الرمزية نفسها، وضرورة تفهّم الخصوم، ومعايشة التكرار الذي قد يفاجئنا بالتغيّر في بنيته، اليس في طيران الفراشة الغجرية مؤشرٌ ما الى علم جديد اذا ما بادرت التجربة الى التقاط لحظة ما في حركتها المعتادة وادخالها الى العوالم المقبلة وغير المكبلة بالعادات؟ انّ التوقّع هو جزء من واقع غير منزوع الامكانات.

bull; الديدبان: الحارس والرقيب و... الطليعة (المعجم الوسيط)