من الممكن اعادة تركيب النصّ الشعري اكثر من مرّة، حسب quot;المعنى الادبيquot; ومراجعه الصامتة بشكل خاص، و انّ من بين الاليّات النقدية الاساسيّة القيام بالتركيب ثم اعادته، كما يقوم بذلك الفكر المتعلّق بالشعر، وقد يتوصّل مثل هذا الاجراء الى عدد من المراجع سواء اكانت صامتة في القصيدة ام غير صامتة. كما انه من المحتمل ان يصادف قارئ القصيدة بعد حين، حتى ولو كان منتجها، بعض القرائن

فشل العبارة

المتاخّرة عن زمن انتاج القصيدة، وهذا الاحتمال يسوّغ للشعراء اعادة انتاج تلقّيهم المتعلق ببعض قصائدهم، فالشاعر، اذن، ولايّ سبب من الاسباب العميقة او السطحيّة، يقع على نوع من العلاقة بزمن الشعر، او ظرف القصيدة المباشر الذي لا يظهر في النصّ. وهذا ايضاquot; مستوى من مستويات النقد او الفكر لا يرقى في الحقيقة الى درجة اعادة تركيب الآليلت قدر كونه تحفيزاquot; للتذكير بالدوافع او المراجع او الإحالات، وهذا من متعلّقات المعنى، وهنا اجد من الواجب الاقرار بتواضع هذا الجهد خاصّة اذا قورن بنتائج النقد المحترف بل حتى بذلك الأداء المبذول من قبل quot;القارئ العاديquot; وهو اداء فطريّ كما هو مصرّح به في عبارة دكتور جونسون التي توجت كتاب فرجينيا وولف المشهور في النقد الادبي.
أنا هنا بصدد التذكّر والتذكير؛ تذكّر حادثة مباشرة واحدة من بين مئات الحوادث التي وقعت ابان الحرب العراقية الايرانية، وهو تذكرّ اصغر بكثير من الحرب نفسها، لكنّ الحادثة متزامنة مع ظرف نشأة قصيدة مسمّاة quot;فشل العبارةquot; امّا التذكير فله علاقة مباشرة كذلك باشكالات النشأة، لو جاز لي هنا استعارة خطوة منهجية من الابستمولوجيا. ظرف نشأة القصيدة يمكن الاتصال به من خلال علامات داخلية في القصيدة، أما اشكالات النشأة فهي غير مطابقة للظرف، لانّها تالية على القصيدة من خلال دلالات تنمو من القصيدة و تتصل بظروف أخرى، مع انها منطلقة من الحرب نفسها. بعبارة اخرى: ظرف النشأة هو الحرب نفسها، في حين انّ اشكالات النشأة تتماشى و الى الآن مع ما هو خارج النصّ فهي كل ما وقع بعد بداية الحرب ويقع الآن. ومن الواضح انّ تعبير اشكالات النشأة هو مفهوم اجرائي، فعلاقته بالقصيدة ليست كعلاقة ظرف النشأة فنحن نستطيع القول: ان ما جرى بعد الحرب العراقية الايرانية هو أشبه بحوادث هستيرية صار التحكّم بها امراً خارج السيطرة. وفي كل الاحوال فانّ القصيدة لم تتجّه الى اشكالات ظروف النشأة وانمّا عبّرت عن الظرف نفسه الذي كان فيه قابلية quot;تحريك الدلالات quot;
سأستبق التذكّر قليلاquot; من اجل السياق: فحين تبدأ القصيدة مقاطعها بلازمة quot;خمس سنوات...quot; لا يعني ذلك انّها تريد ان تقرأ الآن في الاعتبارات الزمنية للذكرى الخامسة للاحتلال الحالي الاميركي للعراق، لكنّ القارئ سيجرّب هذه القراءة ولا شك ويشجّعه عليها التطابق اللغويّ المؤقت يضاف اليه بعض العلاقات الموضوعية التي ليست متطابقة بالضرورة. وكل ذلك غير متضمَن في ظرف النشأة.
القصيدة مكتوبة عام 1985، أي بعد خمس سنوات من تلك الحرب، ونشرت في 1987، فزمن النشر له علاقة بطمس احدى الدلالات المفهومة، والنص متكون من خمسة مقاطع، وهي دلالة شكلية اضافية، وكل مقطع يبدأ بلازمة ابتدائية quot;خمس سنوات...quot; تتنوّع أخبارها أو تكون هي خبرا لمبتدأ محذوف تقديره quot;هي...quot; من جهة النحو العربي.
كنت آنذاك قد قرأت مخطوطة كتاب صديقي عزيز السيد جاسم quot;الزهر الشقيquot; وفي ليلة ما كان لنا موعد للألتقاء في فندق قريب من بيته يقع في زقاق يتفرع من شارع السعدون ببغداد. جلست بانتظاره وسقطت في اثناء ذلك قذيفة على مقربة من الفندق، انقلبت الموائد وحدث اضطراب، وكان الفندق مكانا لايواء عدد من الايرانيين الذين كانوا ولا شك معادين لحكومتهم. حضر صديقي في الموعد و جلس مبتسما وقال لي: وقع الانفجار قرب البيت وتهشم الزجاج في احدى الغرف. لم يصب أحد. كانت له طفلة لها أشهر من العمر نائمة قرب النافذة. سقطت شظايا الزجاج حولها ولم تمسسها واحدة. كان من المؤكد انه غير راض عن الحدث لكنّ شيئا ما كان لا يزعجه وهو سلامة طفلته. ليس هناك من حاجة الى ان تتفهّم مشاعر صديق تتواطأ مع حالته.
عدت الى بيتي ليلا فكانت غرفة الطفلة الرضيعة وصالة الفندق النشيط بعائلات ايرانية ووجه صديقي المبتسم تشكل نسيجا محوكاً بصوت القنبلة. وفتحت قصيدة سعدي الشيرازي quot;رثاء خلافة بغدادquot; وقرأتها. و بالمناسبة مازلت أقرأ فيها، وقد أكون فاهما لها الان اكثر من اي وقت مضى. ونشأت انذاك quot;فشل العبارةquot;.
حين نشرت القصيدة في عدد مجلة الاقلام الخاص بالشعر العراقي في كانون الاول 1987 وضعت تحت العنوان quot;عزيز السيد جاسم.. الزهر الشقيّ؟ quot; وفي عام 1995 صدر كتابي quot;أكثر من نشأة لواحد فحسب quot; وكانت quot;فشل العبارةquot; بين قصائده ولم يظهر ما تحت العنوان في الكتاب.
القصيدة لم تنشر في عام 1985 لأن كل شئ فيها يشير الى السنوات الخمسة. وهكذا انتظرت سنتين. وفي 1995 كان قد مضى على اختفاء عزيز السيد جاسم أربع سنوات ولم يكن لمن يقيم في بغداد أن يذكر أسمه على قصيدة.
آه، هكذا تختفي بعض العلامات عن عمد لتعود بتوءدة في ايما وقت وفي مناسبة غير شعرية كظرف نشر هذه الخواطر quot;ما أبخس هذا الثوب واغلى الابرةquot;.
مع الحادثة البسيطة تلك مقارنة بما وقع من مآس في الحرب، فانّ قصيدة الشاعر الفارسي العظيم سعدي كانت تكسبني نصيبي من ذلك الشعور الخاص عن ترفع الشعراء الشرقيين المشبعين بالتاريخ والحقيقة فالشاعر الفارسي الذي درس في المدرسة النظامية الشافعيّة البغدادية، والذي رثى المدينة بعد هولاكو كما لم يبكها ابناؤها، قد تلقّى ظرف بغداد تلقيا حكيما في عاطفيته، قصيدته بقيت مع كلّ الاشكالات التي عاناها المنتصرون والخاسرون، أيا كانوا، حسب الادعاءات التي لن نفقد شيئا لو صدقناها جميعا، انّ الشئ الذي يتحرّر من الحدث هو معناه فقط، اماّ الحدث العابر فانّه يدفن نفسه من غير حاجة الى من يقوم بدفنه.
الان نفكّ الاقواس عن ظرف النشأة واشكالات النشأة، وينعم احدها النظر في الاخريات، ولا ادري أين أضع quot;رثاء خلافة بغدادquot;: أفي ظرف القصيدة الخاص ام في المراجع التي تواترت عبر التاريخ الى يوم الناس هذا؟.
امّا quot;فشل العبارةquot; فان لها من الذكريات ما يسد طمعها، والباقي يلهمه التذكير.ان من حسن حظنا، مقارنة بالاخرين، اننا مازلنا نقرأ الشعر، ولا أقول نكتبه بل كتبناه.

تنبيه: لايحق لأي إعادة نشر هذا المقال من دون ذكر المصدر quot;إيلافquot; بعد أخذ أذن من كاتب المقال أو من ادارة التحرير،وعكس ذلكيسبب ملاحقه قانونيه