ـ حالة الأقباط تطبيقا ـ

هناك على الأقل ثلاثة مجموعات رئيسية من الحواجز التي تمنع اندماج الأقباط ـ كأحد مكونات المجتمع ـ في النظام السياسي المصري.

أولا: انعدام المشاركة السياسية
انعدام المشاركة السياسية للأقباط (والمرأة) موضوع قُتل بحثا، وبحّت الأصوات للمطالبة بتطبيق حل مناسب. وكما هو معروف فلا يوجد بمجلس الشعب الحالي سوى قبطي واحد laquo;منتخبraquo; من بين ٤٤٤ عضوا. وهذا في حد ذاته تقدُمٌ (!) يُشكر عليه الحزب الحاكم الذي لم يرشح قبطيا واحدا في انتخابات ١٩٩٥، وقد رشحت أحزابٌ أخرى أقباطا، لكن النظام الانتخابي العبقري الحالي يغلق، واقعيا، الباب تماما أمام كل الأحزاب، ما عدا الحزب الحاكم والجماعات laquo;المحظورةraquo;...
وفي خطاب من مدرسة المساعي المشكورة بشبين الكوم (٢٨ـ٧ـ ٢٠٠٥) قبيل الانتخابات الرئاسية،rlm; وعد الرئيس مبارك بإصلاحات دستورية وتشريعية تتيح (بين أمور أخرى) laquo;تحقيق النظام الانتخابي الأمثل الذي يكفل زيادة فرص تمثيل الأحزاب السياسية بمجالسنا النيابية وتعزز وجود وتمثيل المرأة في البرلمانraquo;.
التعديل الدستوري الصادر في ٢٠٠٧ أصبح يعطي الفرصة لأي شكل من أشكال النظم الانتخابيةrlm;، سواء بالقائمة أو القائمة النسبية أو القائمة الحزبية أو النظام الفردي، لكن السؤال عن ماهية هذا النظام بقي كما هو.
وتجاسر البعض فطالب بتطبيق آلية تمييز إيجابي للمرأة والأقباط، مثل د. رفعت السعيد (laquo;الأهرامraquo; ٩ـ١٢ـ ٢٠٠٦) الذي اعتبر اللجوء الي laquo;تعيينraquo; عدد من النساء والأقباط laquo;تأكيدا علي أن نظامنا الانتخابي لا يسمح بأن يأتي إلي البرلمان بمن ينبغي أن يأتي بهمrlm;، وأن هذه التعيينات هي نوع من الاعتذار الرمزي عن سوء المعطي الانتخابيraquo;rlm;. وقال أنrlm; التمييز الإيجابي ممكن، بل محتم، في ظل نصوص المادتين rlm;٨ (تكفل الدوله تكافؤ الفرص لجميع المواطنين..) وrlm;٤٠rlm; (المواطنون لدي القانون سواء..) من الدستورrlm;، كما يرى عدد من الفقهاء القانونيين مثل المستشار دrlm;.rlm; فتحي رجب الذي يؤكد laquo;أن الأصل في النصوص الدستوريه أنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تجمعها..rlm; وأن النصوص القانونيه وسائل فنية خادمة لمصالح مجتمعية ومحققة لمقاصد موضوعية. وتطبيقا لذلك فإن التماثل في المراكز القانونية الذي يستند اليه الفقه والقضاء، والذي يقتضي معاملة متماثلة لا يمكن أن تكون تماثلا شكليا وإلا أفضي من الناحيه العمليه المؤكدة إلي مفارقات تبتعد بالنص التشريعي عن مراد الشارع. ومن هذا الفهم لمقاصد الدستور، نجد أنها تفرض وضع النصوص القانونية ما يكفل تحقيق التمييز الإيجابي للمرأة والأقباطraquo;. rlm;rlm;وفي هذا الصدد يشير د. فتحي رجب إلى مبدأ مستقر في فقه القانون الدستوري مؤداه laquo;إمكانيه رفع مستوي الضعفاء إلى مستوي الأقوياء (المساواة الرافعةrlm;)rlm; أو خفض مستوي الأقوياء الي مستوي الضعفاء (المساواة الخافضةrlm;). فالأمر لا يتعلق بالتسويه بين متساوين، بل بمبدأ التمييز بين غير متساوينraquo;rlm;.rlm;rlm;
وفي صيف ٢٠٠٩ صدر (بسرعة البرق) قانونٌ يضمن للمرأة ما لا يقل عن ٦٤ مقعدا في مجلس الشعب، يقول عنه د. علي الدين هلال أمين الإعلام بالحزب الوطني الديمقراطي (laquo;الأهرامraquo; ١١ يونيو)، laquo;أنه تأكيد لمفهوم المواطنة وتمكين لمزيد من التمثيل السياسي للمرأة في مجلس الشعبraquo;. وأوضح أن laquo;تحديد التمييز الإيجابي للمرأة بفترة محددة يستهدف تمكين المرأة وإعطاءها الفرصة للتمثيل البرلماني حتي تتغير الظروف الاجتماعيه (..)raquo;.rlm;
وأثناء ذلك وقبله وبعده تساءل الكثيرون عن التمييز الإيجابي للأقباط أسوة بالمرأة، حيث تتطابق المشاكل ومبررات الحل، (راجع ما قاله د. فتحي رجب أعلاه).
لكن ردود الأفعال الرسمية كانت رافضة تماما للفكرة. فلما سئل د. صفوت الشريف، الأمين العام للحزب الحاكم ورئيس مجلس الشوري (laquo;الأهرامraquo; ٢٣ـ١٠ـ ٢٠٠٨) عن رؤية الحزب فيما يتعلق بالأقباط لإتاحه فرصه تمثيل أكبر لهم، قال:rlm; laquo;الأقباط مصريون لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات وموجودون في الحزب الوطني (..) ووجود حصة لهم انتقاص كبير من حقوقهم الثابتة والمستقرة في الدستور المصريrlm;raquo; (كذا !).rlm; وقال د. علي الدين هلال (في لقاء طلبه laquo;نشطاء أقباطraquo;) أن laquo;المواطنة لا يمكن اختزالها فى مسلم وقبطىraquo;، وأنه لا يمكن يمكن إدراج (وثيقة حول المواطنة) على مؤتمر الحزب الحاكم laquo;نظرا لضيق الوقتraquo;. (laquo;المصري اليومraquo; ٣١ـ١٠).
وعندما طرح البعض فكرة laquo;الكوتاraquo; للأقباط (بصورة أو بأخرى، وليس حبا فيها بل لأن البدائل كادت تنعدم)، كأسلوب مؤقت حتى يعتاد المجتمع على التعامل مع laquo;القبطيraquo; باعتباره مواطنا مثل غيره؛ رفضتها التصريحات الرسمية. وأكد د. مفيد شهاب وزير الشئون القانونية (جلسة الحوار، مؤتمر أبناء مصر في الخارج ٢٩ـ٧ـ ٢٠٠٩) إلي أنه laquo;ضد تخصيص كوتة للأقباط داخل المجالس النيابية لأن ذلك سيؤدي إلي الفرقة بين نسيج الوطن الواحدraquo; (!) كما أشار د. علىّ الدين هلال (لقاء مع فوج أمانة الشباب، معسكر أبي قير ١٩ـ٧) إلي أن الأساس في العمل السياسي هو مبدأ المواطنة، وأن الأقباط المصريين هم مواطنون لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات شأنهم في ذلك شأن أى مواطن أخر (!) (هل يعني ذلك أن المرأة المصرية ليست جزءا من نسيج الوطن الواحد، ولا مواطنة لها كل الحقوق وعليها كل الواجبات؟؟). وقال صفوت الشريف (في حوار مع زوار الموقع الإلكتروني للحزب الوطني ـ الأهرام ٢١ـ١٠ـ ٢٠٠٩) أن laquo;الأقباط جزء من المجتمعrlm;،rlm; ولا تفرقة بين مسلم وقبطي في الترشيح للانتخاباتraquo; (كذا!).rlm; أما د. فتحي سرور فكان قد رد على سؤال لمجلة laquo;نصف الدنياraquo; (يونيو ٢٠٠٦) حول تمكين المرأة مع تجاهل انخفاض معدلات تمثيل الأقباط، بقوله ببساطة أن laquo;الأقباط ليسوا أقلية (!!) وهم جزء من النسيج الوطني.. ووضع نسبة خاصة بالأقباط ستثير مشكلات دينية مع أصحاب الديانات الأخرىraquo; (؟؟). كما قال (laquo;صوت الأمةraquo; ٣ـ١٠ـ٢٠٠٩) أن laquo;الكوتاraquo; هي laquo;دعوة لتخريب الوحدة الوطنية، فالأقباط ليسوا بالضعفاء ولا هم بالأقلية. وإذا كانوا لا يصلون إلى مقاعد البرلمان بسواعدهم حتى الآن، فقد يرجع ذلك إلى زهدهم في الترشيح، أو زهدهم في الحياة البرلمانية، واهتمامهم بالحياة العمليةraquo; (كذا).
وقد كان السيد جمال مبارك واضحا (لقاء ١٢ـ٨ مع الباحثين وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية من الشباب) إذ وصف المطالبين بالكوتا بأنهم من laquo;المخربينraquo;. وقال: laquo;لن ينجحوا فيما يرغبون، ولن نأخذ الموضوع باستخفاف، ورغم اعترافى بأن الأقباط لديهم مشاكل فإن حلها بالحوار الهادئ وليس بتسييسه عن طريق أفراد فى الداخل أو الخارجraquo;. وأوضح أن كل من يحاول تسييس هذا الموضوع هدفه الأساسي ضرب نسيج ووحدة مصر.
وبرفضه laquo;تسييسraquo; موضوع الأقباط، فإن السيد مبارك، باعتباره الأمين العام للجنة laquo;السياساتraquo; بالحزب الحاكم، قد وضع الأمر برمته خارج مجال اهتماماته السياسية (آخذين في الاعتبار أن مصطلح laquo;السياساتraquo; بالعربية يخلط بين policies و politics ولا نعرف بالضبط مقصد السيد مبارك هنا). وفي تهديده laquo;لن نأخذ الموضوع باستخفافraquo;، لم يوضح هل تكلم بصفته laquo;الحزبيةraquo; أم بصفة أخري. وإذا كان laquo;موضوع الأقباطraquo; لا يقبل laquo;التسييسraquo;، فتحت أي بند يمكن وضعه؟ تفاقم الزبالة أم السحابة الترابية أم أزمة المرور أم أنفلونزا الخنازير؟ علما بأن أيا من هذه المشاكل يحتاج ـ قبل كل شيء ـ إلى laquo;سياسةraquo; لعلاجها..
وعلى أي حال، ففي النهاية تعلق الجميع بـ (قشة) الأمل بتعديل النظام الانتخابي ليأخذ بأسلوب القائمة النسبية الذي قيل أن فيه العلاج الناجع للمرض العضال.
ولكن الإجابة الشافية الكافية جاءت أمام مؤتمر للحزب الوطني (١٠ـ٩ـ ٢٠٠٩) عندما قال الرئيس مبارك عن النظام الانتخابى: laquo;علينا أن ننحاز إلى الأصلح لمجتمعنا وبما يتفق مع قيم وعادات هذا المجتمع وأن ننحاز إلى النظام الذى يحافظ على وحدته وأن لكل نظام انتخابى إيجابياته وسلبياته ولازال النظام الفردى فى هذه المرحلة هو الأنسبraquo;.
ومع تلقى المهتمين بالموضوع laquo;دُشَّ ماء باردraquo; بعد هذا الكلام الرئاسي الحاسم، الذي لم يسبقه نقاش من أي نوع، وتحول فيه الرئيس ١٨٠ درجة عن laquo;وعده الانتخابيraquo; في laquo;المساعي المشكورةraquo;، لم يجدوا بدا (باستثناء بعض أصوات خافتة من أحزاب المعارضة) من تأييده والإشادة به وبحكمة قائله. ولم يشر أحد من قريب أو بعيد أثناء مؤتمر الحزب الحاكم (١ـ١١) إلى معضلة تمثيل الأقباط في الانتخابات القادمة.
إذن فقد أغلق الباب بالضبة والمفتاح دليلا جديدا ـ لمن احتاج لدليل ـ على أنه لا توجد أدنى نية لدى القيادة السياسية لعلاج المشكلة؛ فالقدرة ممكنة لكن الرغبة والإرادة غير حاضرة لديها.
وبرغم كل هذا مازال البعض يصدق أكاذيب الحزب الحاكم عن المواطنة ويستمر في محاولات الاستجداء المقزز!!
ولا عزاء laquo;لاندماج كافة مكونات المجتمع في النظام السياسيraquo;.
***
ثانيا: تكريس الدولة الثيوقراطية
لا داعي للعودة بالتفصيل إلى laquo;المادة الثانيةraquo; من الدستور المصري، فقد دارت نقاشات مستفيضة حولها. فقط ننوّه بالنداء الصادر في مارس ٢٠٠٧ عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والذي وقعه مائة من الكتاب والسياسيين والحقوقيين، يطالب فيه بتعديل نص المادة الثانية مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإسلام ديانة غالبية المواطنين؛ وأن التمتع بالحقوق والحريات المدنية لا يتوقف على العقائد الدينية للفرد؛ وضرورة التزام كافة أجهزة الدولة بالحياد إزاء الأديان والعقائد ومعتنقيها من المواطنين. وقد استنكرت القيادات السياسية البيان عندئذ، ثم تجاهلته تماما.
وعموما، فقد عودنا الحُكم في الماضي علي نوع من laquo;الغموض الخلّاقraquo; حول طبيعة نظام الدولة، وذلك بلا شك عن قصد بحيث يبدو laquo;مدنياraquo; لمن يهمه مدنية الدولة (خاصة العالم الخارجي) و laquo;دينياraquo; لمن يهمه دينية الدولة (خاصة laquo;الشارع الإسلاميraquo;). بل كانت هناك محاولات laquo;تسويقraquo;، مثلما فعل د. أحمد فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب، (حديث لوكالة أنباء الشرق الأوسط ١٠ـ٣ـ٢٠٠٧) إذ أوضح أن laquo;الأقباط يحتاجون إلي هذه المبادئ نظراً لأن الشريعة القبطية بمذاهبها (؟!) لم تنظم المواريث فجاءت مبادئ الشريعة الإسلامية ووضعت قانوناً للمواريث يصلح للمسلمين والأقباط سواء بسواءraquo; (كذا!). وللأسف فقد خان التوفيقُ سيادتَه، لأن جزئية المواريث لا تحتاج لنص دستوري شامل، فضلا عن أن هذا القانون بالذات (الذي يقضي بأن للمرأة نصف نصيب الرجل) لم يكن بالقطع laquo;مطلبا قبطياraquo; !!
لكن، وللمرة الأولي خرج أحد أعمدة النظام (د. سرور ـ الأهالي ٨ يوليو) ليؤكد بوضوح شديد أن laquo;الإسلام دينٌ ودولةraquo;. ثم يبين المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية، بأنها laquo;الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتهاraquo;. ويقول أن laquo;القضاء هو الذي يحدد المقصود بالأحكام القطعية (..) ومنها القواعد الكلية التي أخذت بنص صريح في laquo;القرآن والسُنّةraquo;. وهكذا أخذ د. سرور بخطاب غلاة الإسلاميين، من أن laquo;الشريعةraquo; واجبة التنفيذ، ليس لفوائدها أو قدرتها على التعامل مع الواقع، بل بسبب laquo;مصدرهاraquo;. وأكد أن للقضاء أن يلجأ مباشرة إلي laquo;أحكام الشريعةraquo; (وليس القوانين السارية) للحكم في القضايا؛ وهذا ما رأيناه يحدث بالفعل بصورة أدهشتنا لغرابتها، ولكن يبدو الآن كأمر طبيعي تماما!
ولنا أن نستنتج أن أقوال د. سرور تمثل التوجه العام للدولة التي أضحت تطبق نظاما هو في حقيقته ثيوقراطي (= دولة تستند إلى مرجعية دينية)، حيث الدين فيه أساس المواطنة. وكل من يتعلل بمواد أخرى (٤٠ و٤٦) فهذه ليست أكثر من دلائل laquo;شيزوفرانيةraquo; الدستور المصري، لا سيما وأن الواقع قد أثبت دائما أن المادة الثانية laquo;تنسخraquo; ما عداها من مواد. (راجع ردنا المفصل بالأهالي ٢٢ـ٧ـ٢٠٠٩).
وكما يقول المفكر الراحل محمد السيد سعيد (laquo;الأهرامraquo; ١٢ـ٢ـ٢٠٠٧)، فإن المادة الثانية ينشأ عنها laquo;مشكلة واضحة بذاتها وهي أن النص يميز بين المواطنين علي أساس الدين بمجرد أن يشير إلى دين دون الآخر (..) وفي أعماق هذا التمييز نجد تعارضا أصيلا بين مفهومين للدولة العصريةrlm;:rlm; الأول يقوم علي تعريفها بأنها تنتمي لدين معين أو أصول عرقية ماrlm;،rlm; والثاني يقوم على أنها تعبير عن وطن يضمن المساواة بين مواطنيهraquo;. ويؤكد أن laquo;التعارض بين نص المادة الثانية وبقية نصوص الدستور عميق للغاية تاريخيا وفلسفياrlm;؛ فالدساتير المصريه الحديثه تقوم علي مفهوم الدولة المدنية.rlm; والاتجاه الرئيسي للحياة السياسية والفكر الدستوري الحديث في الوطن المصري يقوم علي مشروع بناء دولة ديموقراطية حديثة تقوم علي حكم القانون وتنشر العدل وتدفع حركة النهوض الوطنيraquo;.rlm;
ويُذكّر بحقيقة يتجاهلها الكثيرون وهي أنه عبر تاريخ بناء الدولة الحديثة، كان المجتمع المصري ككل قد laquo;قبل بسلاسة مدهشة عملية تحديث التشريعات باستلهام مباديء القانون والتنظيم الاجتماعي الحديث، لأن الأطر الفقهية التي ورثها من القرون السابقة كانت تبدو بوضوح بالغ ولا لبس فيه مسئولة عن التخلف الاجتماعي والسياسي الطويل للبلاد وبعيدة عن إمداد الوطن بالدلالات والتنظيمات الضرورية لبناء الدولة المدنية الحديثة واستكمال بناء الامة المصريةraquo;، كما تقبّل المجتمعُ أيضا laquo;فكرة التمييز بين الانتماء الديني من ناحية، وتعريف رسالة الدولة وأدوارها من ناحية أخرى؛rlm; فالدولة إطار للوطنية وهيئة مدنية لتنظيم الشئون المشتركة للمجتمع بكل مواطنيه، والدين إيمان فردي وجماعي قد يُعين مرجعية لسلوك الناس في الحياة المدنية، ولكنه لا يتحد بالدولة أو اختياراتها السياسية وإلا انقلب بها الحال إلي دولة دينيةraquo;rlm;.rlm;
وفي المقابل لا يفوتنا هنا أن نلفت النظر إلى نقطتين بالغتي الدلالة:
١ـ أن laquo;الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسيةraquo; التي وقعت عليها مصر (٤ـ٨ـ١٩٦٧) ليست مُلزِمة تماما لأن قرار رئيس الجمهورية رقم ٥٣٦ لسنة ١٩٨١ أكد أن الموافقة عليها تكون مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها. أي أن التحفظ المصري يعني، في حد ذاته، وجود تناقض بين الشريعة ومواثيق حقوق الإنسان.
٢ـ صرح د. أحمد كمال أبوالمجد، نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان (laquo;الدستورraquo; ١٤ـ٩)، أنه لا يجد وصفاً للمطالبين بإلغاء الشريعة الإسلامية (من الدستور)، laquo;فلم نجد فرداً في الغرب يطالب بإلغاء القانون الفرنسي، فهذا جنونraquo; (كذا!!). لاحظ فقط أن المتحدث هو المسئول الفعلي الأول عن laquo;حقوق الإنسانraquo; في مصر!
***rlm;
ونتيجة لتلك المادة وبناء عليها، وإضافة للتداعيات القانونية الناشئة عنها، نشأ مناخ laquo;تديينيraquo; عام يشكل كابوسا يسيطر على مصر بطريقة لم تعرفها منذ بدأت خطوات بناء الدولة الحديثة قبل قرنين. وما أكثر ما تُرَدد ـ في ببغائية عجيبة ـ مقولة laquo;مصر دولة دينها الإسلام، والشريعة مصدر التشريع فيهاraquo;، تبريرا لأكثر أفعال النكوص عما تبقى من مظاهر الدولة المدنية.
وأصبحت الدولة (وليست الجماعات الدينية المتطرفة!!) هي الفاعل الأول في مجال laquo;التسخينraquo; الديني ليصل إلى درجة laquo;الحمىraquo;، وما يصاحب ذلك من هلوسة مَرَضية. ولا يهمنا ما يقال من أن ذلك بهدف laquo;سحب البساطraquo; من تحت أرجل المتطرفين، فهو عذر ـ بل جرم ـ أقبح وأخطر من ذنب.
ولن نعيد التذكير بما ترتكبه أجهزة الدولة إعلاميا وتعليميا كل يوم، لكن فقط ننوه بحالة laquo;رمزيةraquo; تتعلق بمسابقات تحفيظ القرآن التي ـ وكأننا عدنا لعصور laquo;الخلافةraquo; ـ تبدو أنها أصبحت على قمة أولويات الدولة، محليا (جائزة المحافظات، وقيمتها مائة ألف جنيه، نالتها هذا العام laquo;جنوب سيناءraquo; التي تسلمها محافظها من الرئيس مبارك، من أجل laquo;المزيد من الاهتمام بمكاتب ومقارئ وكتاتيب القرآن الكريم بكل انحاء المحافظةraquo;)؛ وعالميا (شارك فيها متسابقون من اثنتين وستين دولة، وتسلم الفائزون جوائزهم، التي تراوحت بين عشرة آلاف وخمسين ألف جنيه، من يد رئيس الجمهورية، وينتمون إلى بنجلادش والكامرون وليبيا والسعودية وأفريقيا الوسطى والأردن وإيطاليا ومصر). هذا فضلا عن جائزة مبارك الكبرى للدراسات الإسلامية وقيمتها مائة ألف جنيه.
بل إن الحزب laquo;الوطني الديموقراطيraquo; جعل حفظ القرآن على رأس الأنشطة laquo;الثقافيةraquo;، وأقام، على سبيل المثال، حفلا لتوزيع الجوائز laquo;الثقافيةraquo; لعام ٢٠٠٩ بالقاهرة حيث فاز فيها ٣٥٠ متسابقا من حفظة القرآن (laquo;الأهرامraquo; ٢٦ـ٩).
***
قد يبدو الكلام عن laquo;المادة الثانيةraquo; وعلاقة الدين بالدولة ترفا لا تحتمله ولا تحتاجه مصر حاليا، في وقت أصبح الاهتمام يتمركز حول النقاب (الذي ترتديه الآن أكثر من ١٥٪ من نساء مصر ـ laquo;الفيجاروraquo; ٢٣ـ١٠)، وإذا ما كان ارتداؤه يدخل في دائرة laquo;الحريات الشخصية وحقوق الإنسانraquo; (كما زعم مؤخرا بيان لعدد من جمعيات المجتمع المدني، في سابقة تدل علي عمق التخبط الذي نعيشه!!).
ولكن لو كان لمصر دستور علماني متحضر، لكان من laquo;الأسهلraquo; نسبيا التصدي لأمثال هذه الأمور، ولكان من الأيسر أن تقوم الدولة بدورها الطبيعي وتحاسب على مقدار نجاحها أو فشلها في تنفيذ التزاماتها الأساسية طبقا للعقد الاجتماعي الذي يربطها بالشعب، وفيه تلتزم (كما يقول محمد السيد سعيد) بحماية حقوق جوهرية غير قابلة للتصرف حتي من جانب المجتمع نفسهrlm;، وببناء نظام سياسي يتيح للمجتمع تحقيق أقصي قدر ممكن من الانسجام الحرrlm;rlm; لإشباع حاجة المجتمع للتقدمraquo;.
ولكن دولتنا تتجاهل مثل هذه الالتزامات، التي هي من أسس الدساتير الحديثة، وتسعى ـ بدلا منها ـ لإدخال المؤمنين الجنة. وإذ تفشل في هذه المهمة أيضا (كما يتضح من التدهور الأخلاقي منعدم النظير الذي تعيشه مصر)، تكتفي بالزج بالشعب في laquo;بيمارستانraquo; الهوس الديني!
وفي دولة كهذه، ألا يصبح الكلام عن laquo;اندماج كافة مكونات المجتمع في النظام السياسيraquo; نوعا من أحلام اليقظة؟
***
ثالثا: التهميش الإجباري
هناك من يتبارون في القول بأن الأقباط قد laquo;اختارواraquo; الانسحاب من الحياة السياسية لأسباب تتعلق بهم، منها أن الكنيسة قد laquo;استحوذت عليهمraquo;. ووصل الأمر إلى قول د. سرور في حديثه إلي تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (laquo;الوفدraquo; ٣٠ـ٧ـ٢٠٠٩) أنه laquo;لا يوجد تمييز ضد الأقباطraquo; (!)، وأنهم laquo;ُيفضلون العمل في مجال البيزنس على مجال السياسةraquo;. وأكد د. مصطفى الفقي أن الأقباط يعيشون في ظل مبارك عصرهم الذهبي الثاني (laquo;الشروقraquo; ٢٩ يوليو). الخ الخ.
لن نحاول تكرار الرد على هذه الادعاءات. لكن مع عدم إنكار ظاهرة laquo;انسحاب الأقباطraquo;، إلا أنه لا توجد دراسة جادة تبين أن السلبية العامة بين الناخبين الأقباط تزيد عنها بين المسلمين ـ وذلك طبعا باستثناء laquo;المأدلجينraquo; منهم، الساعين لوصول جماعات الإسلام السياسي للحكم. ومن ناحية أخرى، إذا أخذنا في الاعتبار أن الأقباط قد انخرطوا في الحياة الوطنية والسياسية والنقابية خلال النصف الأول من القرن العشرين بصورة واضحة، وبما يتعدي وزنهم الديموغرافي النسبي؛ فلا بد أن نستنج أن laquo;انسحابهمraquo; الحالي ليس إلا رد فعل لتهميش إجباري يمارس ضدهم.
وأكثر من ذلك، نعتقد أن التهميش السياسي الذي سبق أن أشرنا إليه، لا يمثل في الحقيقة ـ على خطورته البالغة ـ سوى قمة جبل الجليد، لأن التهميش المجتمعي المتعاظم أصبح الإشكالية الأكبر والأخطر، وهو ـ ضمن أسباب أخرى ـ نتيجة مباشرة لأسلمة الشارع المصري وأجهزة الدولة.
***
ليس هنا مجال الكلام عن أنه برغم وجود مواد دستورية تضمن (نظريا) laquo;المساواةraquo; بين المواطنين، إلا أن الواقع يثبت انعدام المساواة في مسألة حرية العقيدة، من كافة النواحي؛ وخاصة فيما يتعلق بقوانين وإجراءات بناء الكنائس، وما يؤدي إليه هذا من حالات القبض على الناس بتهمة laquo;الصلاة بدون تصريحraquo;، أو عندما يأخذ الرعاع القانون بأيديهم ويقومون بالاعتداء على الأبرياء وبهدم أو حرق أي مبنى يتصورون أنه laquo;ربماraquo; يُستخدم في أغراض الصلاة laquo;بدون ترخيصraquo; (!)
كما لن نتناول ادعاءات المسئولين المذهلة في هذا المجال؛ مثل تصريحات د. مفيد شهاب وزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية (laquo;الشروقraquo; ١٧ـ٩) حول laquo;مئات الكنائسraquo; التي يزعم بلا سند أنها بنيت مؤخرا (!!) أو تصريحاته (برنامج laquo;تسعين دقيقةraquo; ٢٥ـ١٠) بأن القانون الموحد لدور العبادة ما زال يُدرس، لأن طلب التصريح ببناء كنيسة (لو صدر مثل هذا القانون) سوف laquo;يخضع لقرار إداري يمكن الطعن فيه أمام مجلس الدولة وهناك خشية من أن تكثر الطلبات ويرفض بعضها فيثير حفيظة الأقباط ويتسبب في فتنة طائفيةraquo; (كذا!) ولا شك لدينا أن هذه العبارة ستدخل سجلات الأدب العالمي كنموذج فذّ للمقولات laquo;الأورويليةraquo; (نسبة إلى جورج أوريل، صاحب رواية laquo;١٩٨٤raquo; الشهيرة). كما ستمضي السنون التي يتجادل فيها نقاد الفكر والأدب العالمي حول إذا ما كانت هناك لمسات laquo;كافكيةraquo; في تلك العبارة الخالدة.
لكننا سنقتصر هنا على جزئية محددة تتعلق بالفرز المجتمعي:
من ناحية، فقد سبق أن أثبتنا من قبل، بالأرقام، أن هناك سقفا لا يمكن أن تتجاوزه نسبة الأقباط في الوظائف (وليس فقط laquo;المناصب العلياraquo; كما يتوهم البعض) في أجهزة الشرطة والجيش (بدءا من نسب المقبولين بالكليات العسكرية) وفي الحكم المحلي والقضاء والقضاء الإداري والسلك الديبلوماسي والكادر الجامعي الخ. وهذا السقف لا يتجاوز ٢٪، إضافة إلى كون دخول الأقباط في laquo;بعض الجهاتraquo; أمرا محظورا أصلا. وبدلا من علاج المشكلة ـ الذي هو بالتمام في أيدى الدولة على كافة المستويات ـ أنكرت وزيرة القوي العاملة والهجرة في خطاب لها أمام منظمة العمل الدولية (٢ يونيو ٢٠٠٧) واقع الفرز الوظيفي تماما، وزادت بقولها (طبقا للنص الموجود على موقع الوزارة): laquo;تشير البيانات الدولية أن ما يزيد عن ثلث إجمالي الثروة القومية في مصر يملكها أقباطrlm; (..) في حين تبلغ نسبتهم rlm;١٠%rlm; من مجموع السكانraquo;. ولم تذكر السيدة الوزيرة مصدر تلك laquo;البيانات الدوليةraquo; التي تدرس تضاريس الاقتصاد المصري على أسس دينية... لأنه بالطبع لا وجود لها.
ومن ناحية أخرى، وإضافة لتعاظم درجات أسلمة المجتمع عبر أجهزة الإعلام والتعليم التي تملكها الدولة، أصبح هناك نظام تعليمي laquo;للمسلمين فقطraquo;، تضخم حجمُه بحوالي ثلاثين مرة خلال ثلاثين سنة، وينخرط فيه أكثر من مليوني تلميذ وطالب من الابتدائي إلى الجامعة، وهو لا يقتصر على الاحتياجات الطبيعية لتكوين الدعاة الدينيين، بل يتجاوزها بمراحل (عدد خريجي التعليم الأزهري أكثر من مائة وعشرين ألفا في السنة، بينما احتياجات المساجد من الدعاة هي بضعة آلاف)، وتحول إلى تعليم كامل، مواز للتعليم العام. وقد حذر البعض من مغبة آثار مثل هذه الازدواجية في التعليم وكيف أنها في طريقها لإحداث شرخ مجتمعي رأسي باهظ الثمن (راجع توصيات laquo;المؤتمر الوطني الثاني لمناهضة التمييز الديني ـ التعليم والمواطنةraquo; أبريل ٢٠٠٩).
وبدلا من مواجهة المشكلة وعلاجها، فقد تمادت الدولة وأقدمت على اتخاذ خطوات بالغة الخطورة، قلَّ أن ينتبه إليها أحد: ففي صيف ٢٠٠٤ بدأ لأول مرة قبول الحاصلين علي الثانوية الازهرية للالتحاق بكلية الشرطة. وفي صيف ٢٠٠٨ بدأ قبول الحاصلين على الثانوية الأزهرية، ولأول مرة، في الكليات الحربية والبحرية والجوية وكلية الدفاع الجوي والمعهد الفني للقوات المسلحة. ولا شك أن هذه الإجراءات تشكل نقلة نوعية خطيرة ستؤدي مع الوقت إلى laquo;تديينraquo; أجهزة الجيش والشرطة بصورة لم تحدث منذ قرون. ويكفي أن نتخيل كيف سيتعامل مع laquo;مواطنraquo; قبطي، ضابطٌ لم تسمح ظروفُه التعليمية أن يلتقي واقعيا بأي قبطي إلا عبر كتب laquo;فقه أهل الذمةraquo; التي درسها وامتحن فيها في المعاهد الأزهرية..
أمثال هذه الأمور تتماشى بالطبع مع عوامل laquo;تكريس الدولة الثيوقراطيةraquo; السابق الإشارة إليها، لكننا نذكرها هنا من زاوية أخرى وهي أن الفصل والفرز المجتمعي على أساس ديني هو سبب مباشر وحتمي للتهميش الإجباري ضد كل من لا ينتمى إلى الديانة الغالبة...
وما أصدق الراحل محمد السيد سعيد عندما يقول laquo;..وقد هيمنت عملية أسلمة المجال الرمزي كله إلي الحد الذي لابد أن يُشعر الأقباط بالهامشية. وصار التجنيد للوظائف الكبرى في الدولة مؤسسا علي خريطة دينية إلي جانب خريطة الولاء السياسي. وتم جعل الدين محور الممارسة السياسية (..) وهو الأمر الذي أدي إلي انكماش خطير في حضور الأقباط (..). وبوجه عام فإن سيطرة الأمن والتفوق الكاسح لسلطة الأمن بالمقارنة بالسلطات والمؤسسات السياسية عزز هذا الميل للتمييز الرمزي ضد الأقباطraquo;.
****************

بالعودة إلى عنوان هذا المقال، سنكتشف أن تعبير laquo;الحواجزraquo; يوحي بوجود laquo;معوقات أو معطلات يمكن للمرء أن يزيحها أو أن يتخطاها بالقفز عليها أو السير حولها أو حتى laquo;بالزحف أسفلهاraquo;.
ولكن القليل الذي استعرضناه يبين أننا نواجه حوائط خرسانية هائلة الارتفاع تساهم الدولة في بنائها وتعميق أساساتها..
وما لم يحدث تغير جذري في توجهات القيادة السياسية فلا أمل في أي تقدم علي صعيد laquo;اندماج كافة مكونات المجتمع المصري في النـظام السياسيraquo;. وليس أمام الأقباط، الذين تسلب وتنحر حقوق مواطنتهم وإنسانيتهم كل يوم، سوى المثابرة، بمساندة الحقوقيين الشرفاء، على تكثيف الجهود بكافة الطرق السلمية التي اعتمدها القانون الدولي، آخذين في الاعتبار؛ أولا: أنه لا مخرج لمصر من نفق التخلف المظلم بدون اتباع أسس الدولة الحديثة التي يعرفها العالم المتحضر، وفي القلب منها مباديء العلمانية (أي نقيض الدولة laquo;ذات المرجعية الدينيةraquo;) والمساواة واحترام حقوق الإنسان والمواطنة بصورة عملية، ومحاسبة المسئولين عن إهدارها أو تجاهلها؛ وثانيا: ضرورة laquo;إقناعraquo; القيادات والنخب السياسية والفكرية وضرورة laquo;إعادة تأهيل الرأي العامraquo; ليدرك الجميع أن الحرية والديموقراطية هي حزمة متكاملة لا تمثل laquo;صناديق الانتخابraquo; إلا جزئية صغيرة منها.

[email protected]
ــــــــــــــــــــــــ
(*) عرض بتصرف لورقة قدمت لمؤتمر نظمه laquo;مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسانraquo; بالتعاون مع (Project of Middle East Democracy ـ POMED)