كتب د. أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المصري (الأهالي ٨ يوليو) تعليقا على مقال لنا (إيلاف ٧ يونيو والأهالي) حول الدستور والشريعة. وإذ نشكر له تكرمه بكتابة مثل هذا التعليق المطول برغم مسئولياته الجسيمة، ونظرا لأهمية ـ بل حيوية ـ الموضوع، يهمنا عرض الملاحظات المختصرة التالية، لافتين النظر إلى أننا لا نسعى لمبارزة مع أحد بل يهمنا بالأكثر استمرار الطرح على مائدة الحوار، والمساهمة في تبديد laquo;الضبابraquo; حول laquo;الشريعةraquo; بعد أن آثرت الغالبية الابتعاد عنه، يأسا أو خوفا أو إيثارا للسلامة:

***
(أولا): يقول د. سرور بشأن دين الدولة في النرويج: laquo;وقد غاب عن صاحب التعليق أننا سجلنا في بحثنا هذا المعني ذاته وقلنا إن نص الدستور علي انتماء الدولة إلي دين معين لا يعطل الحرية الدينية لأصحاب الأديان الأخريraquo;.
نكرر ما قلناه من أننا نرى أن د. سرور استند إلى حالة النرويج النادرة ليقوم باستنتاج عام يسحبه على مصر وغيرها، بدون سند أو مبرر. فمثل هذا الأسلوب يشبه مقولة laquo;سين من الناس لم يذاكر ولكنه نجح في الامتحان. إذن كل من لا يذاكر ينجح في الامتحانraquo; وهي مقولة فاسدة وباطلة لأن كون laquo;سينraquo; قد نجح لأسباب خاصة تتعلق به لا يسمح بالتعميم بأي صورة.

***
(ثانيا): يقول سيادته: [وكنا نتمني أن يدرك الكاتب أن مصر كانت ولاية عثمانية تابعة للخلافة العثمانية وبعد استقلالها وإصدار دستور ١٩٢٣ نص هذا الدستور علي أن الإسلام دين الدولة الرسمي، كما ورد ذات النص في الدساتير التالية له في سنة ١٩٥٦ إلي سنة ١٩٦٤].
يدرك laquo;الكاتبraquo; تماما أن مصر كانت ولاية عثمانية (ولا ندري سبب استدعاء ذلك الآن؟ هل هو الحنين للماضي؟؟) كما يعرف تاريخ النص حول laquo;دين الدولةraquo;؛ وإن فات د. سرور أن النص لم يرد في الإعلان الدستوري (يناير ١٩٥٣) أو في دستور laquo;الوحدةraquo; (١٩٥٨). وفي الدساتير السابقة على الثورة، أتى النص في مواد متأخرة (م ١٤٩ في دستور ١٩٢٣ الذي ينص في م١٢ أن laquo;حرية الاعتقاد مطلقةraquo;)، وليس في مواد الصدارة من الدستور التى تحدد أسس الدولة.

***
(ثالثا): يقول د. سرور [تساءل الكاتب عن علة عدم تطبيق الأصول الدستورية التي أكدتها المحكمة الدستورية العليا بشأن حرية العقيدة الدينية وهو قول مرسل ننأي بأنفسنا عن الرد عليه].
والحقيقة أننا لم نشأ الدخول في تفاصيل معروفة ومكررة ذُكرت في العديد من المقالات، وذلك حرصا على عدم الاستطراد ولكن إذا كان سيادته يعتبر ذلك قولا مرسلا، فإننا نسوق هذا المثال الحديث:
حكمت محكمة القضاء الإداري بتاريخ ١٣ يونيو ٢٠٠٩ في قضية المدّعي laquo;ماهر الجوهريraquo; برفض أحقيته بتغيير ديانته إلى المسيحية في الأوراق الرسمية. وفي حيثياتها قالت المحكمة أن [الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التى أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ١٩٦٦/١٢/١٦، والتى وقعت عليها جمهورية مصر العربية فى ١٩٦٧/٨/٤] (ليست ملزِمة تماما لأن) [قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم ٥٣٦ لسنة ١٩٨١ بالموافقة على الاتفاقية المشار إليها (..) أكد على أن الموافقة على تلك الاتفاقية الدولية يكون مع الأخذ فى الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها]. كما أشارت حيثيات الحكم في النهاية إلى الفراغ التشريعي في مجال حرية العقيدة.
وهنا نسأل د. سرور هذه الأسئلة المحددة آملين من سيادته ألا laquo;يربأ بنفسه عن الرد عليهاraquo; ردا واضحا:
١ـ ما معنى المادة ٤٦ من الدستور (حول حرية الاعتقاد) وما جدوى laquo;الأصول الدستورية التي أقرتها المحكمة الدستورية العلياraquo; (التي سبق أن أشار إليها في بحثه) إذا كانت الدولة ترفض التصديق على معاهدات دولية بحجة تعارضها مع الشريعة؟ وألا يدل هذا بالتحديد على وجود تناقض بين الشريعة ومواثيق حقوق الإنسان الدولية؟
٢ـ هل يوافق د. سرور على أن يصدر مجلس الشعب قانونا يبيح حرية الاعتقاد (طبقا للمادة ٤٦ من الدستور) بمعنى ألا تنصب الدولة نفسها قيّما على معتقدات الإنسان وتترك لكل مواطن مطلق الحق في اعتناق أو عدم اعتناق (وإعلان اعتناق أو عدم اعتناق) ما يشاء؟
٣ـ وبالمناسبة: هل يوافق د. سرور على أن يصدر مجلس الشعب قانونا يطلق حرية بناء الكنائس بنفس درجة الحرية التي تمتع ويتمتع بها من يريد بناء المساجد؟

***
(رابعا): يقول د. سرور [زعم صاحب التعليق أن النص الدستوري المصري لا وجود له خارج دائرة محدودة من الدول الإسلامية]، بينما الحقيقة هي أننا ذكرنا في مقالنا عددا من الأمثلة التي تؤكد ما ذهبنا إليه، لكن د. سرور اختار أن يتجاهلها تماما بل وأن يخرج بالنقاش إلى موضوع آخر (وأن يكيل التهم الشخصية للكاتب). كما أن تحت يد د. سرور دراسة مفصلة قمنا فيها بمسح عينة كبيرة من دساتير العالم لمعرفة علاقة الدستور بالدين، وتوصلنا للآتي (باختصار شديد):
١ـ لا يوجد سوى قلة نادرة من الدول laquo;غير الإسلاميةraquo; التي تنص على laquo;دين للدولةraquo;، وهو نص شكلي غالبا بدون أدني أثر على أتباع الديانات المخالفة.
٢ـ لا توجد دولة واحدة غير laquo;إسلاميةraquo; في العالم تنص علي laquo;مرجعية دينيةraquo; للتشريع في دستورها.
٣ـ من بين الدول laquo;الإسلاميةraquo; هناك عدد من الدول التي تنص بوضح على العلمانية، أو لا تنص على دين للدولة (مثل تركيا وأوزبكستان ومالي والسنغال والنيجر وساحل العاج وإندونيسيا) وفيها يعيش ربع مسلمي العالم؛ وهذا بالإضافة لأكثر من خمس مسلمي العالم الذين يعيشون كأقليات في دول علمانية تحترم حقوقهم (مثل كافة الدول الغربية والهند وروسيا).
٤ـ من بين الدول التي تنص على laquo;الشريعةraquo;، تتراوح درجة المرجعية بين كونها laquo;مصدرا رئيسياraquo; أو laquo;المصدر الرئيسيraquo; أو laquo;مصدرraquo; التشريع. ومصر هي الحالة الوحيدة في العالم لدولة متعددة الأديان، التي نص دستورها برغم ذلك على مرجعية الشريعة بالطريقة المعروفة.

***
(خامسا): يقول د. سرور: [خلط صاحب التعليق بين دين الإسلام والشريعة الإسلامية فراح يتحدث تحت تأثير هذا الخلط عما أسماه بالشريعة الدينية ويستكثر إمكان تطبيق الشريعة علي دول غير إسلامية، وأخفي تعصبه الديني وراح يعطي للشريعة الإسلامية في تطبيق أحكام حقوق الإنسان laquo;درجة صفرraquo; نقلا عن آراء متعصبة متحيزة. لقد اعتنق صاحب التعليق رأيا باليا قال إن الإسلام دين فحسب].
يعيب د. فتحي سرور علينا laquo;الخلط بين دين الإسلام والشريعة الإسلاميةraquo; مما يوحي بأنهما أمرين مستقلين لا توجد علاقة بينهما، ولكنه يعود فيلومنا (laquo;تأثرا بالمسيحية الديانة الروحية التي تفصل الدين عن الدولةraquo;!) بتصور الفصل بينهما [فلئن ساغت هذه التفرقة في المسيحية والأديان الأخري داخل الدين بين العقيدة والتشريع الذي ينظم أمور الدنيا، إلا أنها لم تسغ بالنسبة إلي الدين الإسلامي، لأنه اشتمل علي كل من أمور العبادات والمعاملات. ولهذا قيل بأن الإسلام عقيدة وشريعة وترجم البعض ذلك القول بأن الإسلام دين ودولة، نظراً لأن الإسلام قد عني بأمور الدنيا عنايته بأمور الدين].
وبداية نطمئن د. سرور إلى أننا نعرف تماما أن laquo;الدينraquo; الإسلامي ـ إذا شئنا الدقة والتحديد ـ يعني العقائد والعبادات بينما laquo;الشريعةraquo; الإسلامية تعني بالمعاملات والعلاقات. هذه المعلومات تدخل في باب البديهيات العامة التي لا يحتاج أحد أن ينال دكتوراه في القانون (الدستوري أو الجنائي) أو الشريعة ليعرفها. ونضيف أننا نحبذ بشدة اعتبار الشريعة منفصلة تماما عن laquo;الدينraquo; لأن هذا سيرفع تماما الحرج عن شبهة انتقاد laquo;الدينraquo; عند الكلام عن laquo;الشريعةraquo;، ولكن ما العمل إن كانت هناك مزاعم بأن الشريعة تستند إلى نصوص مقدسة فهي إذن laquo;شريعة دينيةraquo; طبقا لمفهوم هذا التعبير (الذي تشترك فيه اليهودية مع الإسلام).
ولذلك فكيف يمكن القول في آن واحد بأن الشريعة مستقلة عن الدين وصالحة للتطبيق في أي مجتمع، ومن ناحية أخرى بأنها جزء من laquo;الدينraquo; (بالمعنى الأشمل)؟
والحقيقة أن هذا التلاعب بالألفاظ يؤدي إلى مواقف غريبة. فالشريعة ربما كانت laquo;مستقلة عن الدينraquo; ولكن الداعين لتطبيقها يفعلون ذلك ليس لمزاياها أو استجابتها لاحتياجات المجتمع، بل بسبب laquo;قداسةraquo; يخلعونها عليها باعتبارها laquo;شريعة اللهraquo;، كما أن من يتجرأ على انتقادها يُتّهم فورا ـ كما فعل د. سرور ـ بالتعصب الديني. ولعلنا نذّكر هنا بأن laquo;الشيخraquo; أسامة بن لادن وlaquo;الدكتورraquo; أيمن الظواهري وغيرهما من الغيورين على أن تسود الشريعة العالمين وتصبح الدنيا فسطاطا إسلاميا، لا يفعلون ذلك إلا بزعم كونها laquo;شريعة اللهraquo; واجبة التنفيذ.
ويحسن هنا توضيح أن من يعارضون تطبيق laquo;الشريعة الإسلاميةraquo; يفعلون ذلك لأسباب رئيسية، من بينها:
١ـ إذا كانت ينظر إليها laquo;كشريعة دينيةraquo;، تمثل أوامر أو إرشادات laquo;السماءraquo;، فإن السماء لا تتكلم ولا تحكم مباشرة ولذا يقوم من يزعمون بأنهم مفوضون بتطبيقها بفرض رؤاهم عبر الدولة الدينية (الثيوقراطية) الفاشية. ولكن العهد قد مضى بغير رجعة للتمحك بمثل هذه الدعاوى، وقد ارتقت البشرية بالقدر الكافي وتوصلت إلى ميراث تم تكثيفه في منظومة laquo;مواثيق حقوق الإنسانraquo; التي هي ملك للبشرية جمعاء، وتمثل معيارا تقاس إليه كافة النظم السياسية والقانونية. أضف إلى ذلك أسباب أخرى لا نريد الخوض فيها لأنها تجري على أرضية laquo;دينيةraquo; (مثل أن القرآن ليس به أكثر من مائتي آية (من بين ستة آلاف) ذات صبغة laquo;تشريعيةraquo;، كما أن هناك الحديث الشريف الواضح الذي يقول laquo;أنتم أعلم بشئون (أمور) دنياكمraquo; الخ الخ).
٢ـ إذا كانت ينظر إليها كشريعة laquo;مستقلة عن الدينraquo;، فإنها برغم القليل من laquo;الحسناتraquo; (والتي هي نتيجة كون الفقهاء مؤسسي مذاهب الشريعة الرئيسية في القرن الثامن قاموا ببساطة باعتماد عدد من القواعد القانونية (البيزنطية وغيرها) السائدة وقتها في ديار الإسلام) فإنها، حتى وإن افترضنا أنها كانت تصلح لمكان ما وزمان ما، فهي بالقطع تتناقض اليوم في أمور جوهرية مع laquo;منظومة حقوق الإنسانraquo; ومثال ذلك وضعية المرأة (= عورة) وعدم مساواة غير المؤمن بالمؤمن، وكذلك أحكام الحدود وما فيها من رجم وقطع أوصال وغيره: ما رأي د. سرور فيها يا ترى، وهو الذي يشارك في العديد من المحافل السياسية والقانونية والحقوقية الدولية؟؟
٣ـ أيا كانت النظرة للشريعة، فإن التجارب الحديثة لتطبيقها في أفغانستان الطالبان وفي إيران الملالي وفي سودان النميري/الترابي/البشير، وفي غيرها من الدول laquo;الشقيقةraquo;، لا تدع مجالا للشك في أنها نظم همجية تتعارض (١٨٠ درجة) مع أبسط مباديء الإنسانية. وإن كانت المحروسة لم تصل (بعد) لذلك المستوى، فنخشى أن تكون قد وضعت رجلها على بداية منزلق لا يمكن إلا أن يؤدي لمثل تلك النهايات الكارثية. وإذا قيل أن هذه كانت laquo;تجارب فاشلةraquo; لا تحكم على صحيح الشريعة، نقول أن مصر ليست حقل تجارب، ودعاة الشريعة أحرار في محاولة تطبيقها laquo;بنجاحraquo; في دول أخرى. ثم هل يعتقد د. سرور حقا أن الإشارة لهذه الحقائق تعني laquo;التعصب الدينيraquo; أو laquo;النقل عن آراء متعصبة متحيزةraquo;؟
٤ـ تطبيق الشريعة ـ تحت أي حجة ـ في مجتمع متعدد الأديان هو أمر شاذ، إذ يؤدي إلى إخضاع غير المسلمين لقواعد لا تتفق مع دياناتهم ولا مع أي عرف إنساني أو قانوني أو ديني خارج نطاق الشريعة؛ مثل الحجر على حرية العقيدة وحظر التبني، وإرث الأنثى نصف الذكر، وفقه الذمية المعروف الذي يصل (كما يقول د. مجدي سامي زكي) إلى عدم جواز أن يكفل المسلم غير المسلم في دفع الجزية (laquo;لأنه لا يجب أن يشاركه مذلة دفع الجزيةraquo;) بل وإلى اعتبار العبد في منزلة أرقى من الذمي. وإن قيل لنا أن القواعد المتعلقة بالذمة لم تعد تطبق، فما المانع من عودتها في ظل laquo;الدولة الإسلامية الحقيقيةraquo;؟ أليست من ضمن الأحكام القطعية؟! وإن كانت ألغيت فمن الذي ألغاها ومتى؟ ولماذا تلغى هي فقط وليس غيرها أو كل الشريعة؟

***
(سادسا): نلاحظ هنا أن النظام الحاكم قد عودنا على الغموض والتناقض والتخبط في التعبيرات حول طبيعة نظام الدولة، وذلك بلا شك عن قصد بحيث يبدو laquo;مدنياraquo; لمن يهمه مدنية الدولة (وخاصة العالم الخارجي) و laquo;دينياraquo; لمن يهمه دينية الدولة (وخاصة laquo;الشارع الإسلاميraquo;)، ولكنها المرة الأولى ـ فيما نعلم ـ التي يخرج فيها أحد أعمدة النظام ليعلن بوضوح أن laquo;الإسلام دين ودولةraquo; ويتهم laquo;الكاتبraquo; بأنه [اعتنق رأيا باليا قال إن الإسلام دين فحسب].
وهكذا يأخذ د. سرور بخطاب ومعتقدات الإخوان المسلمين وسائر غلاة الإسلاميين من أن الشريعة هي من laquo;الإسلامraquo; وبالتالي فهي واجبة التنفيذ في الدولة الإسلامية! وبما أن سيادته لم يكن يتحدث بصفته الشخصية فلا مفر من أن نستنتج أن أقواله تمثل التوجه العام للدولة والحزب الحاكم!
ومن ناحية أخري نشكره على تفضله بالتذكير بأنه [كان يتمني لو قرأ صاحب التعليق التعديل الدستوري سنة ٢٠٠٧ علي المادة (٥) من الدستور والذي حظر إقامة أي نشاط سياسي بناء علي أساس ديني أو مرجعية دينية]، ونطمئن سيادته أننا قد كتبنا في وقتها مندهشين من معانى ونتائج ذلك التعديل الذي يتوافق مع laquo;شيزوفرانيةraquo; دستورنا المصري العزيز.
ولكننا اليوم، وفي ضوء كلام سيادته المذهل بل المرعب في وضوحه ومباشرته، لا نرى مفرا من المطالبة بأن تقوم مجموعة من القانونيين برفع دعوى لحل laquo;الحزب الوطني الديموقراطيraquo; الحاكم لتعارض مبادئه وأفكاره وممارساته مع المادة الخامسة من الدستور. (ولا داعي للخشية من نتائج مثل هذا laquo;الحلraquo; ـ إذا حدث ـ فلا توجد مشكلة حقيقية في أن تحكم مصر بواسطة حزب laquo;محظورraquo; بالتناوب (أو بالتحالف) مع laquo;جماعة محظورةraquo;...).

***
(سابعا): يقول د. سرور: [..أكد العالم الكبير الدكتور سليمان مرقس أن الدين المسيحي قصرت رسالته علي الإصلاح الروحي، وبث الأخلاق الحميدة والمبادئ السامية في نفوس الناس، ولم تعن المسيحية بتنظيم واجبات الإنسان نحو غيره إلا ما أتي في شأن الزواج والطلاق (...) فهل يتعلم منه صاحب التعليق الذي يستكثر إمكانية تطبيق الشريعة حتي في مجتمع غير إسلامي].
والحقيقة أن مباديء المسيحية ومثلها العليا تشكل بالفعل أساسا لكثير من المباديء القانونية في العالم (بدون ادعاء بوجود laquo;شريعة مسيحيةraquo; واجبة التنفيذ). وعلى أي حال لا توجد علاقة بين كون المسيحية laquo;ديانة روحيةraquo; وبين النقاش حول laquo;الشريعة الإسلاميةraquo;، وكأن أحدهما بديل للآخر، بينما العالم كله باستثناء حفنة من الدول laquo;الإسلاميةraquo; يستند إلى قوانين وضعية، كما لم يبلغ علمنا أن العالم (بما في ذلك مناطق يعيش فيها ٤٥٪ من مسلمي العالم) تحول لغابة بسبب عدم تطبيقه laquo;الشريعةraquo;. وبالفعل، نحن نستكثر إمكانية تطبيق الشريعة في مجتمع غير إسلامي إذ لا نتصور أن تقوم كوريا أو تايوان أو البرازيل أو السويد باستيرادها وتطبيقها، وكأن العالم اختفت منه الشرائع والقوانين التي تصلح! بل لا يملك منصف عاقل إلا الاعتراف بعدم وجود مقارنة بين درجة الرقي واحترام الإنسان وحقوقه في الدول التي لا تطبق laquo;الشريعةraquo; بالنسبة لتلك التي تطبقها..

***
(ثامنا): تحت عنوان laquo;القانون والأخلاقraquo; يقول د. سرور أن [الشريعة الإسلامية في مقدمة الشرائع التي لاتقيم حدوداً فاصلة بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية].
لكن الحقيقة هي أن الربط بين القانون والأخلاق ليس من اختراع laquo;الشريعة الإسلاميةraquo; بل هو فكرة موجودة من قديم الزمن في شرائع قدماء المصريين والبابليين وعلى الأخص في الشريعة الموسوية، بل ـ وعلي خلاف ما تفضل به د. سرور ـ فإنها موجودة بالقانون الروماني الذي يثمن ـ مثلا ـ مبدأ حُسن النية (bona fides).
ويقول د. سرور [أننا نشهد علي يد الشريعة الإسلامية نظريات قانونية إسلامية لا نظير لها في القانون الروماني (..)]. ولكن عند استعراض قائمة laquo;النظريات القانونية الإسلامية المتفردةraquo; تلك، يهيأ للمرء أننا دخلنا في سياق عنتريات laquo;الإعجاز العلميraquo; أو laquo;الطب النبويraquo; أو laquo;الاقتصاد الإسلاميraquo; التي لا تستحق التعليق، ولكن لا بأس من استعراضها بسرعة مستعينين على ذلك بآراء د. مجدي سامي زكي، أستاذ فلسفة القانون بجامعة باريس نانتير:
١ـ [نظرية إساءة استعمال الحق]: موجودة في القانون الروماني تحت (summum ius, summa injura) التي تبين أن الفرد لا يحق له استخدم حقه بدون فائدة أو بقصد مضايقة أو إيذاء الغير (مثل أن يبني حائطا في ملكه ليس له فائدة ولكنه يحجب الرؤية أو الضوء عن الجار). بل إنها تبين أن كثرة القوانين قد تصل إلى حد الانتقاص من العدالة، وكيف أن التمادي في التحجج بـ laquo;الصالح العامraquo; قد يؤدي إلى انتقاص حقوق الأفراد.
٢ـ [نظرية الضرورة]: (الضرورة تبيح المحظورات) مبدأ مأخوذ بلا شك عن الشريعة الموسوية (راجع سفر laquo;التثنيةraquo; ٢٣) التي اعتمدته قبل ذلك بعشرين قرنا.
٣ـ [نظرية الظروف الطارئة]: (أي تبديل شروط العقد وفقا للمتغيرات) موجود في laquo;مدونة جستنيانraquo; تحت عنوان (Rebus sic stanibus)، وهو موجود حديثا بالقانون الألماني والإيطالي وغيره من القوانين الغربية وإن كان يوجد في القانون الفرنسي بشكل ضيق.
٤ـ [حماية الضعيف من خلال تحريم الاحتكار والربا والإثراء بلا سبب]: مبدأ مأخوذ بلا شك عن الشريعة الموسوية، وموجود في القانون الروماني، وخاصة نظرية الإثراء بلا سبب (Actio de in rem verso). وهو مبدأ موجود بالطبع في المسيحية (راجع مثلا laquo;متىraquo; ١٢). ولا نريد هنا أن ننكأ الجراح بشأن شركات توظيف الأموال أو الحجج الشكلية التي تستخدمها laquo;البنوك الإسلاميةraquo; للتحايل على مفهوم laquo;الرباraquo;.
٥ـ [تأثر قانون نابليون ببعض أحكام الشريعة الإسلامية]: لا يوجد مرجع واحد يشير إلى أن قانون نابليون تأثر بأحكام الشريعة، (راجع Arnaud; Les origines doctrinales du Code civile franccedil;ais)، والصحيح أن كليهما تأثرا بمدونة laquo;جستنيانraquo; (Corpus Juris Civilis) التي جمع فيها هذا الإمبراطور البيزنطي القوانين الرومانية السائدة عندئذ، مع قدر من التحرير (editing) والتعليق والتنسيق.
٦ـ [أخذت الشريعة بمبدأ سلطان الإرادة بعكس القانون الروماني الذي أخذ بالشكلية في العقود]: سلطان الإرادة موجود في القانون الكنسي (لا تحلف بل تكفي كلمتك الواحدة ـ أي كلمة الشرف). وعموما لا يوجد قانون يعتمد سلطان الإرادة بصورة مطلقة بدون الشكلية، فالشريعة الإسلامية تتطلب المكاتبة أو الشهود أو حلفان اليمين لتأكيد العقد. كما اعتمد القانون الروماني سلطان الإرادة بالتدريج في العقود الرضائية (البيع والإيجار والوكالة والشركة).
٧ـ [امتازت الشريعة علي القانون الروماني بإعطاء مركز ممتاز للمرأة بتقرير استقلالها بالتصرف في أموالها، وتقرير حقوق لها بمقدار ما فرض عليها من واجبات]: فصل الذمة المالية بالنسبة للمرأة في الشريعة الإسلامية كان الحل الوحيد في مجتمع تعدد الزوجات (كما يقول الأستاذ التونسي laquo;محمد شرفيraquo;) لتفادي أن ترث إحدى الزوجات (بعد وفاة الزوج) جزءا من ممتلكات زوجة أخرى..
باختصار معظم هذه المباديء المعروفة لا داعي لأن يطلق عليها laquo;إسلاميةraquo; أو laquo;غير إسلاميةraquo;، وهي على أي حال لا تكفي للتغطية على الجوانب laquo;المظلمةraquo; من الشريعة، بنفس الطريقة التي لا يمكن بها أن تعتبر امرأة ذميمة ملكة جمال لمجرد أنها ترتدي laquo;باروكةraquo; شقراء!

***
(تاسعا): يقول د. سرور: [امتازت الشريعة علي القانون الروماني في أنها قامت علي أساس المساواة بين الأفراد أمام القانون (..) لا تميز بين الأفراد بسبب الأصل أو الطبقة التي ينتسب إليها الفرد. ونذكر في مقدمة الآيات القرآنية التي تقرر مبدأ المساواة قوله تعالي في سورة الحجرات: (إن أكرمكم عند الله اتقاكم)].
من الغريب أن يشير د. سرور للآية المذكورة باعتبارها تقرر laquo;مبدأ المساواةraquo; بينما من الواضح أنها تتحدث عن التقوى ومكانة الأتقياء عند الله، وتعني (ضمنا على الأقل) أن laquo;المؤمنraquo; يتمتع بمكانة تفوق laquo;غير المؤمنraquo;. وهذه مباديء يمكن تماما تفهمها laquo;دينياraquo;، ولكنها لا تمت بصلة من قريب أو بعيد إلى مبدأ المساواة، التي لا تتوقف في القوانين laquo;الوضعيةraquo; على درجة التقوى، ولا حتى الإيمان، ولا غيرها من عوامل التمييز.
ويضيف د. سرور: [أن الإسلام يسوي بين المسلمين وغير المسلمين (أهل الذمة) في كثير من الشئون ويحترم حقوقهم]. وهو كلام خطير، فهو يتحدث عن laquo;أهل الذمةraquo; مذكرا بالنصوص (القطعية!) في كتب الفقه الإسلامي حول وضعية أهل الذمة. ثم يقول (ربما في زلة قلم) أن [الإسلام يسوي بين المسلمين وغير المسلمين laquo;في كثير من الشئونraquo;]: فماذا عن باقي laquo;الشئونraquo;؟ ألا يشي هذا الفهم بحقيقة رؤية د. سرور (والنظام الحاكم) لمكانة laquo;أهل الذمةraquo; في مصر القرن الواحد والعشرين؟؟

***
(عاشرا): يقول د. سرور: [تساءل صاحب التعليق عمن يحدد الأحكام القطعية في مبادئ الشريعة الإسلامية، واعتقد خطأ أنهم رجال الدين وراح يتهم نظام الدولة فيقول عنها laquo;ثيوقراطية لها مرجعية دينيةraquo;، بدلا من أن يتعمق في القانون. وإذا كان عذره أنه ليس من رجال القانون، فإنه لا يعذر له أن يكتب فيما لا يعرفه. لقد جهل سيادته أن القضاء وحده هو الذي يحدد المقصود بالأحكام القطعية والأحكام غير القطعية، وذلك تحت رقابة المحكمة الدستورية العليا. والأحكام القطعية وفقاً لما ذهب علماء القانون هي ما قام الدليل علي أنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ومنها العقائد والأحكام العملية التي جاءت بطريقة واضحة وحاسمة، والقواعد الكلية التي أخذت بنص صريح في القرآن والسنة ولم يوجد ما يعارضها تقريراً أو تفريعاً (..)].
بسبب laquo;جهلنا بالقانونraquo; كنا نظن حتى هذه اللحظة أن في مصر نظام يقوم (ظاهريا؟) على مبدأ laquo;استقلال السلطاتraquo;، وأن وظيفة القضاء هي laquo;تطبيق القوانينraquo; التي يُشرّعها نواب الشعب في مجلسهم الموقر، وكنا مستعدين أن نصدق أن نص الشريعة في المادة الثانية موجه للمشرع وليس للقاضي، كما كرر د. سرور نفسه من قبل عشرات المرات. وكان فهمنا المحدود يصور لنا أن دور المحكمة الدستورية العليا الأساسي هو السهر على laquo;دستورية القوانينraquo;، وأنها في تحديدها الجزئي لمعنى laquo;مباديء الشريعةraquo; (باعتبارها تعني laquo;الأحكام القطعيةraquo;) كانت تحاول إرشاد مجلس الشعب في مهمته عند سن قوانين جديدة. ولكن د. سرور ينبهنا الآن إلى أن كل ما سبق هو كلام فارغ ويدلنا على حقيقة جديدة وهي أن laquo;القضاء وحده هو الذي يحدد المقصود بالأحكام القطعية والأحكام غير القطعيةraquo; وهذا يعني بوضوح: (١) أن للقضاء أن يلجأ مباشرة إلى laquo;أحكام الشريعةraquo; (وليس القوانين السارية) ويحدد منها القطعية والظنية ويحكم بناء عليه في القضايا ـ وهذا ما رأيناه يحدث بالفعل بصورة أدهشتنا لغرابتها، ولكن يبدو الآن أن هذا أمر طبيعي تماما!؛ و (٢) أن القضاء أصبح يقوم بدور المجلس التشريعي (إذ يتعامل مع الدستور وليس القوانين).
ونحن نزعم أن في هذا laquo;مخالفات دستورية خطيرةraquo; (!) بل ونتساءل ما هي الحاجة إذن إلى مجلس الشعب بأعضائه الذن سيفوقون قريبا الخمسمائة، وإذا ما كانت مهمتهم الأساسية ستقتصر على التعامل مع قضايا ذبح خنازير وخروج بعض الروايات عن مكارم الأخلاق وأحوال الأقليات الإسلامية في الغرب؟

***
وختاما يهمنا القول:
أولا: تعاملنا مع موضوع laquo;الشريعةraquo; ينبع أولا وأخيرا من اهتمامنا بالشأن العام، وليس له صبغة أو خلفية دينية أو إيديولوجية أيا كانت. كما أننا نعتبره واجبا، لا يحتاج المرء لإذن من أحد لكي يمارسه عبر القراءة والتحليل والتعليق والتحذير. وإذا كانت الشعوب هي التي laquo;تختار دساتيرهاraquo; (كما يقول د. سرور!)، فلا يُعقل أن تفعل ذلك إذا كان محظورا على أبنائها مناقشة مباديء وخبايا دساتيرهم إلا بعد الحصول على دكتوراه القانون... إلا إذا كان الأمر يعني في الحقيقة أن وظيفة الحكام هي الحكم ودور الشعب ـ إن كانت له دور ـ هو الموافقة وlaquo;البصمraquo;؟
ثانيا: يقول الدكتور سرور إنه يبدو له أن [كاتب المقال بسبب طول إقامته في الخارج لم يعد يعتز بانتمائه المصري]. وردا على هذا التلميح بالتخوين، نؤكد لسيادته أن هناك الكثيرين ممن يعيشون laquo;في الخارجraquo; بأجسادهم؛ ولكن انتماءهم لمصر، يستند إلى حرص حقيقي عليها وعلى أهلها وعلى مستقبلها، ويفوق عشرات المرات laquo;انتماءraquo; الكثيرين ممن يعيشون laquo;في الداخلraquo;، ولكنهم لا يتورعون، بأفكارهم ومواقفهم وأفعالهم، عن نحر مصر على مذبح مصالحهم أو إيديولوجياتهم.
ثالثا: أن الدكتور سرور هو ـ قبل كل شيء ـ محام قدير و laquo;شاطرraquo;. وهو يقوم هنا بدور الدفاع عن laquo;الشريعةraquo; مستخدما كافة الوسائل والأسلحة لمصلحة laquo;موكلهraquo;، وليس لإظهار الحقيقة. ولكننا نزعم أنه يدافع عن قضية خاسرة لأن laquo;حتمية التاريخraquo; وقوانين التقدم الإنساني تفرض ذلك. بل نزعم أن سيادته يعلم ذلك في قرارة نفسه، كما يتضح من ضعف حججه وتناقضها واتهاماته العصبية ومحاولاته إخراس الآخرين.

[email protected]