يمكن اعتبار معالجة بعض وسائل الاعلام العربي للمصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا مثلاً على تشويه الحقائق وممارسة التسميم الاعلامي حيث تم عرضها كحالة نموذجية خيالية (مصافحة السود لجلاديهم وممارسة الحكم سوية) في هذا البلد المثقل بالذكريات الأليمة. وقد تعرضت في المقال السابق لنتائج الانتخابات الأخيرة وما بينته من استمرار ظواهر طبيعية في حد ذاتها ولكنها تعبر عن حقيقة أن التجربة لا زالت بكل بساطة في بداياتها رغم مرور 15 عاماً على بدء تطبيقها. ويهدف مقال اليوم إلى إطلاع القارئ على هذه التجربة الإنسانية المهمة (بما فيها من نجاحات وإخفاقات) وإلى تشجيع المختصين على (دراسة الحالة) هذه كمثل على الممارسات الاعلامية. فقد روجت بعض الفضائيات العربية، ولسنوات بعد سقوط النظام السابق، لصورة مشوهة عن المصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا وبالغت كثيراً في نجاح التجربة وذلك للمطالبة بتطبيقها (أي مصافحة الضحايا لجلاديهم) في العراق، مما سبب سوء الفهم لهذه التجربة الفريدة وخلط الأوراق بين حقائق النجاح والفشل واستخدامها سياسياً بالترويج لنسيان الماضي في العراق أي لاستمرار هذا البلد في التخبط بين ضرورات المصالحة ومتطلبات القصاص العادل... ولا أتعرض هنا لمحتوى المطالبة المشروعة بالمصالحة الوطنية في العراق، بل لبعض الجوانب العملية الأساسية (السياسية والقانونية) لتجربة المصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا وذلك لتبيان مدى ابتعاد الصورة المُروجة إعلاميا عن حقيقتها كتجربة إنسانية جديرة بالاعتبار بعيداً عن المزايدات والمبالغات.
حول أساس المصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا
في 1993، بدأت هذه العملية بتأسيس لجنة المصالحة الوطنية برئاسة مطران أبرشية جوهانسبرغ، ديسموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام، والذي كان له الدور الأساسي في إنجاح عملها وقد تميز بخطابه الديني الكاثوليكي، مقارنة بالخطاب المدني لنيلسون مانديلا. وقد تمثل عمل اللجنة المُضني والمؤلم بالاستماع الى إفادة المجرمين (البيض غالباً) عما اقترفوه من جرائم بحق المعارضين (السود غالباً) واتخاذ القرار بالعفو أو عدمه عن المتهمين بجرائم النظام السابق. وينبغي التأكيد هنا على الأسس القانونية المنظمة لعمل اللجنة وقراراتها:
أولاً: لا يحظى بمقابلة اللجنة إلا من تقدم بطلب العفو عن جرائم القتل والتعذيب المتهم باقترافها.
ثانياً: لا يمنح هذا العفو إلا بعد تحقق الشروط التالية: 1/ أن يعترف المجرم بكل الحقيقة ولا يخفي منها شيئاً 2/ أن يكون المجرم قد اقترف الجرم بناء على أوامر أتت إليه من رؤسائه 3/ أنه اعتقد بخدمة هذه الممارسة لهدف سياسي، بزعم الدفاع عن علوية البيض مثلاً.
ثالثاً: أن توفر هذه الشروط لا يعني اتخاذ القرار بالعفو بل تنظر اللجنة في مدى استحقاق الماثل أمامها لهذا العفو عن جريمته، فمن مجموع 7116 طلب عفو، لم تمنح اللجنة عفوها الا لـ 1312 أي رفضت أكثر من 80 % من الطلبات
رابعاً: إن اللجنة لم تكن بصدد محاكمة الأشخاص وإنما العفو (أو عدمه) عن الجرائم فقط، فالمجرم يبقى مجرماً ولكنه لا يلاحق قانونياً إذا حصل على العفو عن جريمته، وهذا هو مبدأ العفو عموماً.
للتفاصيل انظر مثلاً: موقع اللوموند الديلوماسي (الفرنسي) الذي يذكر مصادر مهمة حول تقييم التجربة
وأعتقد أن هذا النموذج من المصالحة يمكن أن يصلح للعراق مع بعض التعديلات الضرورية ويتضح هنا الفارق بين الحقيقة وما أسميته بالحدوتة التي ألفت حولها.
المعاناة الحالية من الفساد والعنصرية والكاريزما
تتقدم جنوب أفريقيا بخطوات كبيرة الى الأمام على يد قيادة من الأغلبية المضطهدة سابقاً وبمعاونة البيض من أصحاب المصالح والخبرات طبعاً، وكمؤشر على نجاحاتها فازت بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم في 2010 رغم الصعوبات الكبيرة التي تعاني منها. ولكن من جهة أخرى، هناك إخفاقات مهمة لاسيما فيما يخص الفساد والتخندق العنصري وبروز الكاريزما. فقد تصاعدت معدلات الفساد الاداري والمالي ويدلنا الفساد المستشري في هذا البلد على عالمية هذه الآفة كممارسة طفيلية ولكنها تأخذ أبعاداً مخيفة في الأوساط الحاكمة ذات الثقافة السياسية/الاجتماعية المتخلفة ويقدر ما تلتهمه من ثروات وطنية في مختلف البلدان بحوالي 80 مليار دولار في السنة. ولا ينبغي طبعاً مقارنة الفساد في جنوب أفريقيا بما يحصل في ظل حكومات دكتاتورية تسلط بعضها تماماً على المال العام وعلى الدولة (مثال موبوتو في الكونغو كينشاسا وصدام حسين في عراقه quot;العظيمquot;). ومع ذلك، يشكل الفساد ظاهرة حقيقية في جنوب أفريقيا حيث وصل الأمر الى أن يطالب جاكوب زوما أثناء حملته الانتخابية باتخاذ quot;إجراءات رادعة لمنع الفساد المنتشر في مختلف مستويات السلطةquot;. علماً بأن زوما نفسه اتهم بتورطه في قضية فساد هزت البلاد. يجب إدانة الفساد ومحاربته بنفس القوة سواء كان في جنوب أفريقيا أو في العراق أو في المكسيك، فهو السرطان الذي يمتص الثروات ويحبط إرادة البناء في مختلف البلدان.
وبالنسبة للتخندق العنصري، لا زالت أفريقيا الجنوبية، بعد أكثر من 15 عاماً من المصالحة الوطنية، تعاني من ممارسة مواطنيها للانتخابات على أساس لون الجلد، ففي جوهانسبرغ ومختلف المناطق التي يقطنها السود يتم التصويت لصالح المؤتمر بينما يصوت البيض للحزب الليبرالي كما في منطقة الكاب. ولا زالت الاتجاهات الوطنية في بدايتها على الخارطة الانتخابية كما بينت الانتخابات الأخيرة (انظر المقال السابق على إيلاف 26/4/2009)، وجاء تصريح زعيم حزب المؤتمر جاكوب زوما، قبل إنهاء فرز الأصوات، تأكيداً على التخندق الحالي حيث بعد تشبيه حزبه بالفيل الذي لا يمكن صرعه، نراه يزهو بفوزه على منافسيه مغنياً أمام عشرات الآلاف من أنصاره أنشودة حزبه الشهيرة أيام النضال ضد حكم التمييز العنصري (أي ضد حكم البيض) وتقول كلماتها: يمكنهم أن يطلقوا علينا النار، يمكنهم أن يقتلونا ولكننا سائرون الى الأمام، نحو بريتوريا (العاصمة السياسية)، ورددت الجماهير معه النشيد بملء حناجرها. بينما تفرض أبسط قواعد المصالحة الوطنية الابتعاد عن التبجح بالانتصار وعن ممارسة نبش الماضي العدائية بمثل هذه الطريقة وذلك مراعاة لمشاعر المعسكر الآخر، أي البيض والسُمر، ولتفادي دفعهم الى التخندق بدورهم علماً بأنهم يشكلون حوالي ربع السكان (البيض أكثر من 13 % والسمر ومعهم الهنود أكثر من 12 %).
وحول درجة عقلانية القيادة السياسة، يتميز الوضع السياسي الحالي في جنوب أفريقيا بصعود الزعامة الكارزمية، ويعتبر الكثيرون شخصية جاكوب زوما مقلقة، حيث يسيطر على الساحة بشخصيته الشعبية التي تسحر الناس بالخطابة السياسية المثيرة والمختلطة بالغناء والرقص والصراخ، الخ. ثم يستغل هذا التأثير لإطلاق التصريحات المثيرة للجدل وممارسة سلطة تتعدى القواعد المُلزمة للقادة السياسيين في البلدان الديمقراطية. وهذا ما دفع الكثيرين الى التخوف من صعود شعبيته، ومنهم الرسام الكاريكاتيري المعروف جوناثان شابيرو بتوقيعه الشهير (زابيرو) حيث بدأ برسم زوما مع قبضة دوش الحمام على رأسه منذ تصريحه باكتفائه بالدوش كوقاية بعد ممارسته للجنس مع امرأة مصابة بالايدز (نشرته صحيفة اللوموند 24/4/2009 مع صفحة مخصصة له). فببنما كانت شعبية مانديلا قائمة على مناهضة واعية ومُكلفة ضد التمييز العنصري، تشكل شعبية زوما كاريزما تهدد المسيرة الديمقراطية لقيامها على تجميد العقل النقدي عند الأفراد وتحويلهم إلى أنصار، أي كتلة جماهير خاضعة تهتف بصوت واحد وتنتخب بيد واحدة لصالح المرشح المؤيد (والخاضع بدوره) للزعيم. وبينما تتقدم جنوب أفريقيا اليوم نحو الديمقراطية التي تقوم على ترسيخ المكانة القانونية للأفراد وقدرتهم الفعلية على اتخاذ القرار، تقتل الكاريزما عند ترسخها التعددية والتناوبية، أساس الديمقراطية، وتصيح الانتخابات جسراً يُمكن المستبدين من الوصول الى الحكم والانقلاب على شعوبهم. ومن المؤسف أنه في ظل تخلفنا السياسي والفكري وبانتظار تصالح حكوماتنا مع شعوبها ومثقفينا مع مجتمعاتهم وتصالح العراقيين مع بعضهم، يطمح الكثير من قياداتنا الى الحصول على الكاريزما التي تشكل، في صورها السياسية والاجتماعية والدينية، مورداً رئيسياً للتخلف والجهل المنتشرَين بين الشعوب العربية والاسلامية...