نعم النظام الرأسمالي قائم على خدمة الكبار ولكن أيضاً على إرضاء الآخرين، من متوسطي القوة ومن فقراء، الخ، وذلك حسب موازين القوى وتوفر الإمكانيات. أكتب هذا المقال بناء على ما استلمته من تعليقات مشكورة على مقالتي السابقة حول قمة العشرين الكبار في لندن، حيث ذكرت أن التحليل الموضوعي، أي البعيد عن المواقف المسبقة، يسمح بتبيان الطبيعة الحقيقية للنظام الرأسمالي الذي أثبت طيلة القرون الماضية قابليته على التكيف مع أزماته الخطيرة والتي تميزت في أحيان كثيرة بخطورتها وآثارها الجسيمة على مواطنيها وأيضاً على شعوب البلدان الأخرى. ومع ذلك اعتبرني البعض متناسياً لما سببه هذا النظام من مآس مريرة ولامني آخرون في اتجاه معاكس، وعادة ما ينتظر الكثيرون المعاداة أو المحاباة للرأسمالية التي يعاديها البعض مركزاً على ضحاياها وينبهر آخرون بها، ولا أقصد هنا من يقدر إنجازاتها الكبرى ويستفيد منها في المجالات المختلفة. وسأحاول في هذا المقال تشخيص أثر التحولات على طبيعة هذا النظام للمزيد من النقاش والتعمق.
النقد الموضوعي تشخيص وحلول
وأقول ذلك لأن النقد الموضوعي للرأسمالية لا يُرضي نزعة الهجوم عليها وهو غير الانبهار الذي يعجز أيضاً عن إجراء النقد العقلاني الضروري لأي تقدم. والغربيون أنفسهم، مهما كانت مواقفهم، يبتعدون عن حالات الانبهار معتبرين إياها نوعاً من الخرف العقلي وغير مفيدة في عملية التطور الدائم التي يؤمنون بضرورتها لتحسين حياتهم وتأمين مستقبل أفضل لأبنائهم. وعموماً تمنع الصراعات على أساس الأحكام المسبقة أصحابها من إجراء التشخيص الموضوعي لمختلف المسائل وتضع القراء وغيرهم في ما يشبه وضع المشاهد لمباراة التنس ثم تدفعه، وهو الأخطر، في خضم هذا الصراع الذي لا نرى له أفقاً بسبب هذا التضارب الدائم حول مختلف المشاكل الخطيرة بين معسكرين مثقلين بالتشنج والمواقف المسبقة. والحل الحقيقي لهذه الوضعية التي تقف وراء الكثير من حالات الضياع الفكري والعلمي التي تميز عالمنا العربي والإسلامي يكمن في تبني المنهج النقدي لمنظومتنا الفكرية في مختلف المجالات وفي إجراء التشخيص الموضوعي لعناصر التجربة الغربية كمسائل عملية (لا أيديولوجية) وذلك للتخلص من التخندق والتخندق المضاد ومن مواقف التعصب والنرجسية التي تميز ذهنيتنا المعطلة حول مواضيع لا زالت تنتظر الحل مثل التجديد الفكري والاجتماعي والديمقراطية والليبرالية والعلمانية، الخ. وقد حاولت في مقالات سابقة التنبيه إلى الأهمية القصوى للموضوعية ليس فقط لأنها الأفضل، فالجميع يدعيها لهذا السبب، ولكنها تشكل أيضاً وفي أية ممارسة جدية لها جسراً بين المتخندقين حول مختلف الموضوعات، لا سيما تلك التي تمس الأيديولوجيات السياسية والحزبية والتقاليد الاجتماعية والمعتقدات الدينية. ويمكن للمتخصصين في مثل هذه المواضيع، ومهما اختلفت انتماءاتهم الفكرية، لعب هذا الدور الأساسي في مد الجسور بين الأطراف الاجتماعية والفكرية المختلفة، لا لحسم الصراعات والنقاشات بل لوضعها في إطارها الصحيح وعلى أرضية البناء والعمل الجاد خدمة للجميع.
التطور بين التغير والتحول
تعني قابلية النظام الرأسمالي على التكيف مع أزماته وتناقضاته إمكانية تطوره بشكل عام بناء على تقديمه أو تبنيه حلولاً (أو تنازلات) لحل هذه الأزمات ولا يختلف أحد حول أهمية التطور الحاصل منذ تأسيس هذا النظام ولحد الآن. ويتضمن هذا التطور مجالين منفصلين:
أولاً: تغيرات من ناحية أداء النظام في مجالاته المختلفة بفضل المراجعة النقدية للممارسة، وهو غير الذي يحصل بفضل التقدم العلمي والصناعي. وتساعدنا كتب التاريخ الاقتصادي والمذاهب الاقتصادية في التعرف على التغيرات الكبرى للرأسمالية وتقدم الفكر الاقتصادي بناء على هذه المراجعة النقدية، ويكفي هنا التذكير ببعض المحطات الكبرى كما يلي:
- المركنتلية: يكمن مصدر الثروة في التجارة الخارجية (بداية نهب المستعمرات، قرن 16 و 17) وتعددت تياراتها بناء على خصوصية كل بلد، فأسبانيا ركزت على أهمية تراكم المعادن الثمينة بينما اهتمت انكلترا بتحسين موقع المنتجات الصناعية بالنسبة للأسواق الخارجية.
- الصناعة وتطور الفكر الاقتصادي الرأسمالي مع المدرسة الليبرالية وفكرة اليد الخفية والدولة الحارسة التي دافع عنها آدم سميث (1723-1790) في كتابه ثروة الأمم 1776
- الثورة الصناعية والإنتاج الكبير، القرن 19، وتصاعد وتيرة الصراعات الطبقية في أوربا وتطوير كارل ماركس (1818-1883) لدراساته لقوانين التاريخ وتطور الرأسمالية وفائض القيمة وتناقضات النظام الرأسمالي. ورغم تعمقه، لم يرصد ماركس ما أثبتته الممارسة اللاحقة من القابلية الكبيرة للنظام الرأسمالي على التكيف مع الأزمات، وهو موضوع المقال.
- تحسين طرق العمل (أي زيادة الإنتاجية) التي ابتكرها الأمريكي فردريك تايلور (1856-1915) والمهم هنا أن هذا التحسين استمر في مختلف مجالات العمل وبدون توقف.
- دور الدولة في تحريك الاقتصاد، بعد أزمة 1929، حسب الوصفة المعروفة لجون ماينارد كينز (1883-1946) عن دور الدولة في تحريك النشاط الاقتصادي: الطلب الفعلي (على السلع) هو الذي يقرر مدى قوة النشاط الاقتصادي، إذن تشجيع الاستثمار واستباق الطلب من قبل الشركات بفضل معرفتها بالإجراءات الحكومية المشجعة على الاستهلاك (والاستثمار) يؤدي إلى زيادة الإنتاج الذي يتطلب زيادة التشغيل لليد العاملة مما يؤدي بدوره إلى مضاعفة ارتفاع الطلب.
ولا يسمح المجال للتعرض لمحطات أخرى أقرب إلينا كالعودة الى تقليص دور الدولة ثم طغيان النظام المالي الافتراضي وصولاً الى الأزمة العالمية الأخيرة، ولا لمغزى تبني الدولار كعملة للمبادلات العالمية (بريتون وود 1944) وبدون مقابلته بالذهب (منذ 1971) ثم تعويم التبادلات (منذ 1976).
صحيح أن تغيرات النظام تعتبر عادة إيجابية في نظر القائمين عليها والمقتنعين بها، وتتم في حالة النظام الرأسمالي على أساس خدمة القائمين عليه أو الماسكين بالسلطة فيه والمتمتعين بمزاياه، وهذا أمر طبيعي في النظم المختلفة إذا نظرنا إلى واقعها لا إلى المثل التي ترفعها، ولكن هذا الواقع أكثر قوة في نظام قائم بصورة واضحة على تحقيق المصالح الخاصة للأفراد والمؤسسات.

ثانياً: أما الجانب الآخر من التكيف فيشمل التحولات في العلاقات القائمة بين قمة النظام الرأسمالي وبقية أفراد المجتمع (من كوادر الطبقة الوسطى وشغيلة وكسبة وطبقة عاملة، الخ). وقد تطورت هذه العلاقات، التي تشكل أساس النظام الرأسمالي، بفضل ما يمكن تسميته بذكاء المصالحة (بين الأطراف المتصارعة). حيث تم تحويل الحركة العمالية الناقمة الى تنظيمات نقابية دخلت، بدرجة أو أخرى، ضمن دائرة القرار في المعامل والمؤسسات المختلفة وتم توسيع دائرة الانتخابات لتشمل جميع الذكور البالغين ثم النساء وبذلك تحدد الاعتراض السياسي في قنوات معلومة، إضافة الى تطوير آليات مشاركة العاملين في عملية اتخاذ القرار في مختلف المجالات العملية (لجان الشركات ومجالس إدارة المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية وغيرها، ثم تبنت الأنظمة الرأسمالية بدرجات مختلفة مبادئ العدالة الاجتماعية وذلك بمنح الرواتب للعاطلين والإعانات والمساعدة السكنية للعوائل وذلك لتقليص الفوارق الطبقية وتقليل الاضطرابات الاجتماعية.
ورغم استمرار الفوارق المهمة ومظاهر الفقر وانتشار الجريمة المرتبطة أيضاً بالتحلل الخلقي وتدهور العلاقات العائلية فقد ظلت محدودة نسبياً وخاضعة على كل حال لتطور المجتمع ومطالباته ولا تعتمد فقط على مزاج الحكام وعطايا الأغنياء ورضا المجموعات المسلحة كما هو الحال في دول أخرى كثيرة. لقد تطورت القناعة في ظل الأنظمة الرأسمالية بأن جميع من فيها محكومون في نظام سياسي (ديمقراطي) قائم على مشاركة الجميع، ورغم أن تأثير أقطاب النظام (من رأسماليين وقادة سياسيين وعسكريين) يفوق طبعاً تأثير الطبقات والشرائح الأخرى، ولكن الأخيرة تمتلك وسائل لا يُستهان بها للتأثير على القرار (نقابات وتنظيمات سياسية ومنتديات فكرية ونشاطات علمية وغيرها) وتصل الى الإعلام وتمارس التظاهر والإضراب عن العمل. لقد اكتسب هذا النظام إذن ملامح جديدة تم قبولها عبر هذه الأزمات أو الانعطافات التاريخية ثم تراكمت التحولات لتؤدي تدريجياً إلى تشكل ملامح جديدة للنظام وإلى دخول المجتمع الغربي، ومنذ سنوات، فيما يسمى بدولة ما بعد الحداثة وانتقل النظام الرأسمالي من حال الى آخر (القرن 19 مثلاً وبداية القرن 21).
ويبدو لي أن من الأفضل للحالمين بسقوط الرأسمالية أن يكفوا عن التعويل على قوة الدكتاتوريات والحكومات الاستبدادية القائمة على استصغار الإنسان، إن لن نقل استعباده، ويفكروا بتوفير الأسس الأربعة التي ذكرتها سابقاً في مجتمعاتهم (أي حرية المبادرة الاقتصادية، تقديس الملكية الخاصة، الديمقراطية والمشاركة في إطار دولة القانون، التأكيد على موقع الفرد وإبداعاته الفكرية والفنية). هذه الأسس ضرورية لأي نظام اجتماعي متماسك ويمكنها التأقلم مع مختلف البيئات الاجتماعية والأخلاقية السائدة والدليل على ذلك تجارب اليابان وكوريا وماليزيا والصين وبقية النمور الآسيوية. ومن شأن هذه التحولات العالمية لو حصلت تدريجياً أن تدفع النظام الرأسمالي الغربي الى تسريع مسيرته الحالية نحو إنتاج منظومة سياسية واقتصادية وفكرية قائمة على احترام أكبر لمبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحفظ كرامة الشعوب ورعاية مصالحها في مختلف بلدان العالم.