كان أوباما خلال حملته الانتخابية قد وصف سياسة إدارة بوش كالتالي:
quot; إنها سياسة سيئة ولا يمكن تجميلها مهما صبغت بمساحيق التجميل.. الخنزير يبقى خنزيرا حتى لو لونت وجهه بأحمر الشفاهquot; [ في غمز لسارة بيلن]. أما في تركيا فقد وعد بتغيير كامل للسياسة الأميركية ولكنه أكد على بطء العملية، قائلا quot; تغيير سياسة أميركا يشبه تغيير اتجاه ناقلة عملاقة ويحتاج لوقت.quot;
هذا الهوس بالانقلاب على كل سياسات بوش محفوف بالأخطار، برغم كل النوايا الطيبة للرئيس أوباما، وقدراته القيادية، ونزاهته، ونبل مقاصده. فالعالم ممتلئ بكبريات الأزمات والمشاكل، وبؤر التوترات لحد التساؤل المشروع عما إذا كان لا يسير نحو الجنون العام، وبالتالي، فإن كل هذه التحديات تستلزم التحليل الواقعي، ونبذ الأوهام، واتخاذ القرارات الجريئة التي تلجم التطرف والإرهاب، من قاعدة وطالبان، والتي تجبر الأنظمة المتمردة على القانون الدولي، مثل إيران وكوريا الشمالية، على احترام القرارات الدولية تحت طائلة عقوبات دولية مشددة، أي العودة لسياسات بوش.
إن معظم quot;الهباتquot; التي نتحدث عنها موجهة لترضية العالم الإسلامي، في حين أن المستفيدين الحقيقيين منها، وبرغم قصد أوباما وملائكيته، هي الجهات المذكورة، كما نرى من ازدياد انفلاتها ونشاطها، وشعورها بالقوة، مقرونا بتصورها بأن أميركا في حالة ضعف.
لقد كان أول قرارات الرئيس الجديد قرار غلق معتقل غوانتانامو خلال عام، وإطلاق سراح بعض المعتقلين الذين اعتقلوا لمشاركتهم بطريقة أو أخرى في جرائم 11 سبتمبر والتحضير لها، من قاعديين وطالبان - هذا إن كان ثمة فرق بين طالبان والقاعدة؟! وعند إعلان القرار رأينا بعض أقارب ضحايا 11 سبتمبر يعلنون أمام الشاشة الصغيرة مشاعر الغضب، ويتساءلون هل نُسي الضحايا بهذه السرعة. إن إعادة بث صور تلك الأحداث مرة بعد مرة بات ضروريا لكيلا تُنسى الظروف التي تطلبت فتح معتقل للإرهابيين بعيد ومعزول، مع ضمان كامل حقوقهم الإنسانية، وكمسلمين يمارسون كل طقوس العبادة بحرية، ويوزع عليهم القرآن، وينالون الطعام الجيد والعلاج الطبي. لقد ثبت أن ما لا يقل عن 61 إرهابيا ممن أطلق سراحهم من المعتقل، أي حوالي الخمس تقريبا، قد عادوا للإرهاب، ومنهم من قتلوا أو أسروا في العراق وأفغانستان، ومنهم من يمارسون قيادة تنظيمات الإرهاب في اليمن وغير اليمن، وهذا هو ما يفسر امتناع دول الاتحاد الأوروبي عن قبول معتقلين من غوانتانامو، باستثناء فرنسا، التي ستستقبل جزائريا واحدا منهم، وقد تندم!! وآخر مثل عن وجوب عزل هؤلاء أن أحدهم طلب منذ أيام رخصة المحادثة بالتلفون مع عمه ولكنه غافل الحارس ليتصل بقناة الجزيرة ويختلق لها قصص التعذيب المزعوم.
إن الهبة أو العطية السمينة الكبرى هي الموقف من إيران. لقد كان اوباما، خلال حملته الانتخابية، قد دعا للحوار مع إيران بلا شروط، ولكنه استدرك عشية انتخابه، فقال بأن على إيران الاختيار بين الرضوخ للقرارات الدولية حول وقف التخصيب أو العقوبات والعزلة. أما هيلاري كلينتون، فكانت أكثر وضوحا وحزما، وكذلك دينيس روس، صاحب شعار quot;الجزرة والعصا الغليظةquot;، وهو قريب من نهج بوش. ترى ماذا يحدث اليوم؟
إننا نرى تدرجا مستمرا في التنازلات من الجانب الأميركي، فقد عاد التأكيد على الحوار بلا أية شروط،، وهيلاري كلينتون تتحدث عن quot;التزاماتquot; لا شروط، والكلام يدور عن quot;مناقشاتquot; تؤدي إلى quot;مفاوضات جادةquot; تؤدي في النهاية لمطلب وقف التخصيب، فإن صحيفة نيويورك تايمس تؤكد على أن أميركا ومجموعة 5+ ا قد تقبل باستمرار التخصيب مدة المفاوضات المفتوحة زمنا، وهذه الصحيفة قريبة من دوائر قرار الإدارة الأميركية. كل هذا يجري بينما الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، يكرر أن أي حديث عن وقف التخصيب هراء، وكذلك المرشح مير حسين موسوي، قد أكد على وجوب استمرار التخصيب. إذن، فعلام كل هذه quot;النقاشاتquot; المؤدية إلى quot;مفاوضات جادة؟!!quot; وهل صحيح أن واشنطن قد تنجر أخيرا للقبول بإيران ذات القنبلة النووية، ولكن مقابل ماذا؟! هذا في حين أن نظام الملالي يصول ويجول في المنطقة، ويتدخل في الشئون العربية، ويحرك أدواته لتخريب امن الدول المعتدلة كمصر والأردن، فضلا عن لبنان والعراق واليمن والبحرين، وتسعى جاهدة لتعطيل أي فرصة للحل السلمي للصراع الفلسطيني ndash; العربي، ولعل حماس ابتهجت فعلا لفوز نتناياهو لأن التطرف لا يعيش بغير تطرف مقابل، وكلاهما ضد حل الدولتين. هنا نذكر كيف أن عمليات إرهابية وقعت عشية الانتخابات الإسرائيلية في النصف الثاني من التسعينات، وكان مرشح حزب العمل مرجحا نجاحه، فأدى الإرهاب، الذي طال المدنيين، لانعطاف الرأي العام الإسرائيلي نحو الليكود، وهذا ما حدث هذه المرة أيضا حين تمت عشية الانتخابات عدة عمليات إرهابية ساهمت في نجاح نتنياهو وأقصى اليمين معه.
لم نعد نسمع من كبار المسئولين في الإدارة الأميركية تصريحات عن هذه الممارسات الإيرانية عدا قول السفير الأميركي الجديد في العراق:quot; إن مشكلة العراق جارته إيرانquot;، وعدا تصريح بترايوس، قائد القيادة المركزية الأميركية، بأن quot;الخوف من إيران يدفع دولا عربية إلى طلب مساعدتنا.quot;؛ فهل سيطالب الجانب الأميركي في الاجتماعات من إيران بوقف هذه الممارسات والكف عن التدخل في شئون الدول العربية وابتزازها؟! أما وزير الدفاع غيتس، فراح الآن يستبعد كل خيار عسكري حول النووي الإيراني مع أن البرادعي نفسه أشار لمثل هذا الاحتمال.
جديد اوباما أيضا مشروع الحوار مع quot;معتدلي طالبانquot;، وهو مشروع قائم على مجرد وهم، وسبق أن تعرضنا لذلك، كما تناوله مؤخرا الكتّاب، عبد الحميد الأنصاري والراشد وآخرون من كتابنا الموضوعيين.
أما الهبة الكبرى الأخرى، فهي عالمية، ونعني مشروع أوباما لإلغاء الأسلحة النووية في العالم، ومن مقاصده تشجيع دول كإيران وكوريا الشمالية على وقف التسلح النووي، وهما من الدول المتمردة أصلا على القرارات الدولية. لو كان المشروع خاصا بالدولتين الكبريين، روسيا وأميركا، حول تجديد اتفاقية quot;سالتquot; التي ستنتهي في ديسمبر القادم، فالأمر يكون مشروعا تماما، أما هدف الإلغاء الشامل للأسلحة النووية، بدأ بالولايات المتحدة، أي جعلها خارج القانون، فإن الدول المستفيدة ستكون حتما تلك الخارجة على القانون، كما علقت صحيفة فيجارو الفرنسية، فالردع النووي برهن على جدواه، ولا يزال ضروريا لأمد بعيد قادم رغم انتهاء الحرب الباردة، وذلك تحوطا لضربات نووية من إيران أو كوريا أو حتى الإرهابيين.
إن مشروع اوباما هذا، الطوباوي، غير العملي، يمكن أن يستغل، ومنذ اليوم، ضد أميركا نفسها، فها هو وزير الخارجية الألماني الاشتراكي يقتنص حديث أوباما عن عالم بلا سلاح نووي ليطالب أميركا بسحب صواريخها النووية من القاعدة الأميركية في ألمانيا، وهو طلب تعارضه ميركل.
أخيرا، وليس آخرا، فيما يخص أوباما والعالم الإسلامي، نشير، وعدا انحنائته التاريخية أمام العاهل السعودي، إلى الصمت عن قرار المحكمة الجزائية الدولية عن البشير، بينما جون كيري يواصل جولته في السودان، ويتصل بمسئولين رسميين. لقد كان اوباما على الدوام من أنصار حقوق الإنسان وحق التدخل الإنساني الخارجي، فهل السكوت اليوم عن قرار المحكمة صدفة محض أم موقف؟؟
إننا نتفق مع ما قاله الأستاذ عبد الرحمن الراشد مؤخرا:
quot; أوباما سيتوصل إلى نفس النتيجة التي توصلت إليها الإدارة السابقة، أي أنه لا يمكن التفاوض مع الإرهاب، ولامع نظام سياسي يعتبر مشروعه الوحيد فرض نفوذه على الغير وإقامة نظام مهيمن.quot; هذا أيضا ما يتوصل له الأنصاري إذ يكتب:
quot; أخشى أن يجد الرئيس الأميركي نفسه ndash; في النهاية ndash; في طريق مسدود، ولن يجد أمامه خيارا آخر غير خيار الإدارة السابقة، وهو المواجهة الشاملة والتدخل العسكري والسياسي.quot;