قبل أيام عقدت قناة quot;المستقلةquot; في لندن مشكورة، خمس ندوات تلفزيونية متتالية حول quot;سؤال التقدمquot;، الذي يفضل لفظه الصديق الدكتور محمد الهاشمي الحامدي مدير القناة، بديلا عن مصطلح quot;سؤال النهضةquot; الشائع عربيا، فالنهضة في مخيلة كثير من التونسيين رديف للحركة الإسلامية وللأزمة السياسية ولأشياء أخرى غير مريحة. و لقد أريد لجلسات النقاش الفضائية هذه أن تكون ذات مرجعية تونسية، ليس فقط من خلال ضيوفها التوانسة، ولكن من خلال التركيز على الأجوبة التونسية على هذا السؤال الشائك المطروح بشدة منذ قرنين من الزمان وإلى اليوم، عربيا وإسلاميا، فلماذا تأخر العرب والمسلمون إذا وتقدم غيرهم كما تساءل أمير البيان شكيب أرسلان؟
قليل من العرب ربما يعرف أن النخب التونسية قد سبقت جل النخب العربية بطرحها منذ منتصف القرن التاسع عشرة سؤال التقدم، وضغطت باتجاه عقد أول مشروطية بين الحاكم والمحكوم، عرفت بوثيقة quot;عهد الأمانquot; التي وقعت سنة 1855، وتطورت بعد ست سنوات، وتحديدا سنة 1861 لتتحول إلى أول دستور يظهر في العالم العربي والإسلامي، حيث ألزم هذا الدستور الباي (الملك) بإنشاء مجلس أعظم (برلمان) يراقب الحكومة ويقيد سلطاتها و يعترف بوجود شعب له حق المشاركة في اتخاذ القرار بعد أن كان قبلها مجرد رعية يعطف عليها الراعي متى شاء ويقسو.
من رحم هذه الحركة ولد المصلح الكبير خير الدين باشا التونسي، الذي بدأ إصلاحات إدارية وسياسية مشابهة ومتوازية مع تلك التي بدأ الإصلاحيون اليابانيون في تنفيذها حينها، في ما عرف بعصر quot;المايجيquot;. وعلى الرغم من أن إصلاحات خير الدين لم يكتب لها الاستمرار جراء تآمر المفسدين من قبيل الوزير الخبيث مصطفى خزندار، فإن جذوة روحه التقدمية لم تخمد في نفوس الأجيال اللاحقة من الوطنيين التونسيين، الذين سينتقلون بعدها إلى معركة مزدوجة، واحدة في مواجهة المستعمر الفرنسي والثانية في مواجهة التخلف الفكري والسياسي.
و قد جدد رجال من قبيل محمد علي الحامي رائد الحركة النقابية التونسية والطاهر الحداد داعية تحرير المرأة و أبو القاسم الشابي شاعر الحرية، رسالة خير الدين الإصلاحية، كل في مقامه وتخصصه، فجعلوا من العقود الثلاثة الأولى للقرن العشرين قاعدة صلبة لولادة حركة وطنية جديدة ذات ملامح تنويرية، سيكون رأس حربتها ابتداء من مطلع الثلاثينيات الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة، و التي سيبلغ بها مبلغها في نيل الاستقلال سنة 1956 وبناء الدولة الوطنية على تلك الأسس التحديثية التي طالما دغدغت خيال خير الدين و الحامي والحداد والشابي وغيرهم مجتمعين.
لقد قرر الزعيم بورقيبة بعد نيل الاستقلال، التحرك سريعا في اتجاهات متعددة، حقق من خلالها للمشروع الإصلاحي التحديثي ما عجزت عن القيام به غالبية الدول العربية إلى اليوم، فقد سن مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956 والتي منع من خلالها تعدد الزوجات وأحال الطلاق على القضاء، كما تجاوز النظام الملكي سنة 1957، و ألغى التعليم الزيتوني سنة 1958، و شرع الدستور التونسي سنة 1959. إنها معارك ورهانات كبرى، ربحت للتونسيين في ظرف قياسي، و ما كان لها أن تربح لو لا وجود وضوح فكري ناصع وإرادة سياسية حاسمة.
لقد أثارت الإجراءات الراديكالية البورقيبية لصالح التحديث إلى الآن جدلا كبيرا ومتواصلا، داخل تونس وفي عموم العالم العربي، و قد بلغت في بعض مواطئها درجة تكفير الزعيم التونسي، على نحو الوارد في فتوى الشيخ ابن باز الشهيرة، و ما تزال صورة بورقيبة إلى حد الساعة تعاني حملات تشويهية شعواء، يشرف عليها بالدرجة الأولى أعداؤه القدامى والحاليين، من دعاة إحياء القديم و مناهضة الاجتهاد والتجديد الذي هو أس من أساس الدين.
خلال ندوات quot;المستقلةquot; التلفزيونية، اعتبر الدكتور محمد الحبيب الهيلة الاستاذ في الجامعة الزيتونية، قرار الزعيم بورقيبة إلغاء التعليم الزيتوني ظالما، واعتبرته شخصيا قرارا عادلا وضروريا، حقق مطالب الزيتونيين أنفسهم طيلة الفترة الاستعمارية، فلطالما حلموا بمدرسة وطنية تونسية حديثة تفتح أبوابها لكل التونسيين دون تمييز، وتجمع في موادها بين العلوم العصرية و المعارف الإنسانية العربية الإسلامية، و لا شك أن مدرسة الاستقلال التونسية هي مدرسة الإصلاحيين الزيتونيين، دون أن تكون هناك ضرورة لأن تحمل الاسم القديم.
لقد منح بورقيبة التعليم طيلة العقود التي ترأس فيها الدولة، مبلغ عنايته، حيث كانت تخصص له الحصة الكبرى في الميزانية، أربعين في المائة تقريبا. و لم يكن الزعيم التونسي في المجال التعليمي داعية فرنسة أو تغريب، مثلما يشيع البعض، بقدر ما كان مهموما بأن ترتبط المدرسة التونسية بالعلوم العصرية، وهي علوم غربية بالضرورة، تحتاج إتقان التونسيين للغات أجنبية متصلة بصناعة العلم والتقنية، وقد كانت الفرنسية إلى ذلك الوقت كذلك، قبل أن تتراجع أمام الأنجليزية والألمانية في العقود الأخيرة.
و مما أثار الغضب من الزعيم بورقيبة موقفه التنويري والتقدمي من المرأة، فلقد آمن فعلا بقضيتها وبدورها وبمساواتها مع الرجل، تماما كما آمن بأنه لا سبيل إلى تحقيق جواب لسؤال التقدم المطروح دون بناء مجتمع متوازن وعادل قائم على النساء والرجال معا، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ولعل ما ميز الزعيم التونسي في هذا المجال، وفي غيره أيضا، إصراره على الاستنجاد بتأويل النص القرءاني، حيث اعتبر أن آية quot; ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتمquot; ناسخة للآية التي سبقتها quot;انكحوا ما طاب لكم من النساء...quot;.
و من الإجراءات الحاسمة التي أقدم عليها الزعيم بورقيبة لصالح التحديث، والتي جعلت المجتمع التونسي اليوم، المجتمع الأكثر تجانسا و اقترابا من حالة مجتمع المواطنة، تحركاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية المبكرة لإلغاء المجال البدوي والقبلي، و كأنه بذلك يحقق أمل quot;ابن خلدونquot; الذي يكاد لا يفهم بعد سبعة قرون عربيا وإسلاميا، فلقد اعتبر مؤسس علم الاجتماع، في نظريته عن quot;العصبيةquot; هذا المجال مصدر الشرور ومنطلق الفتن والأزمات باعتباره محيطا هامشيا يضغط باستمرار في اتجاه تحطيم المركز الحضري، وما كان للمدنية أن تستقر في تونس، ويشعر أهلها بأنهم quot;تونسيونquot; فقط لو لم يزع بورقيبة بالسلطان ما لم يزعه بالقرآن.
و لقد سألني الإعلامي التونسي المعروف برهان بسيس مستنكرا عن تفسير لانبثاق الإسلاميين من الجامعات والمدارس البورقيبية، و لم يسعني الزمن لإجابته، فتقديري أن صعود الحركة الإسلامية في تونس منذ أواخر السبعينيات لم يكن وليد حراك تونسي داخلي، بقدر ما لعبت ضغوطات خارجية العامل الحاسم في تحققه، فتونس وإن تغيرت بفعل الإصلاحات البورقيبية المكثفة، المعتمدة بالأساس على إمكانيات السلطة، إلا أنها ظلت بلا ريب جزءا من محيطها العربي الإسلامي، ليس بمقدور دولة في حجمها أن تنأى بنفسها أو تواجه التيارات العاتية المتجهة إليها من مجالها الجغرافي والتاريخي.
إن تراجع اليسار على الصعيد الدولي وانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية و قيام حالة الجهاد الأفغانية، فضلا عن العاطفة الطبيعية الفطرية التي يحملها التونسيون كسائر الشعوب العربية والإسلامية، للمقولات الدينية والقومية، كلها عوامل ساعدت في بروز التيار الإسلامي التونسي، وكانت سببا في تحول الخطاب السياسي التونسي من مناقشة سؤال التقدم إلى مناقشة أسئلة أخرى، تبدو في كثير من الأحيان في تصادم وخلاف واضح مع حركة التاريخ البشري.
و لعل قياسا لأطروحات الإسلاميين التونسيين بسواهم من إسلاميي العالم العربي، سيلاحظ أن إسلاميي تونس بورقيبيون أيضا وإن لم يرغبوا، فخطابهم أكثر قبولا لمقولات الحداثة والديمقراطية، وممارساتهم أقل ميلا للعنف من زملائهم، وسواء أكانوا مختارين أو مضطرين فإنهم لم يجرأوا إلى حد الآن على تقديم برنامج سياسي يدعو إلى نقض مبادئ مجلة الأحوال الشخصية، كما عبر قادتهم في أكثر من مناسبة على أنه لا نية لهم في إعادة البلاد إلى عصر الحريم وتعدد الزوجات.
و أخيرا، فإن ثمة من اعتبر أن عدم نجاح البورقيبية في التحول إلى حركة شعبية عربية واسعة على غرار الناصرية أو الإخوانية أو البعثية، دليلا ثابتا على فشلها، فيما اعتبرته دليلا على أن العرب والمسلمين ما يزالون يراوحون مكانهم في الإجابة عن سؤال التقدم هذا، مترددون في سلك سبيل الحداثة والعقلانية والتنوير، خوفا على ما يعتقدون أنه مقدس لا يقبل التجاوز، في حين أن المقدس لا يحتاج أحدا ليحفظ قداسته..وعندما يهتدي العرب والمسلمون إلى التقدم، سيكتشفون أن بورقيبة قد سبقهم بالفكر والممارسة عقودا، إن لم يقل قرونا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كاتب تونسي