صلة تونس بالعراق عريقة، أكثر مما يتصور غالبية التوانسة والعراقيين فيما أعلم. ولعل قلة يعلمون أن أشهر التمور التونسية، ولربما كانت الأجود عالميا، نسبتها إلى نهر quot;دجلةquot; المقدس، غير أن التونسيين ينطقونها بquot;الجيمquot; المصرية، مضاف إليها كلمة نور، اشتقاقا من مقطع الآية الكريمة quot;نور على نورquot;.
وقيل أن سكان بلاد الجريد في الجنوب الغربي للبلاد التونسية، وهي بلاد واحات، أصلهم متجذر يعود إلى العتبات المقدسة في النجف وكربلاء، وهم من جلب إلى تونس زراعة النخل، بعد أن فروا إليها بمذهب أهل البيت من عسف أبناء عمومتهم العباسيين. وقد كانت بلاد المغرب، كما خرسان المتطرفة، ملجأ التيارات الدينية المقموعة من شيعة وخوارج.
و الذي يزور مدن وقرى الجريد التونسي، سيلحظ لا محالة أوجه تشابه كثيرة بين توزر والنجف، وكربلاء و نفطة، لعل أبرزها للعيان حجر quot;الطابوقquot; الذي هو مبنى كل دار وجدار، وعباءات النساء السوداء، ما بقي من أثر الحزن على الحسين عليه السلام وآل البيت المغدورين رضوان الله عليهم، في أرض الكرب والبلاء.
و من الصلات غير المرئية، بلوى الشعر و تجديده، فقد أنجب الجريد للعرب أنجب شعراء القرن العشرين و أحد رواد الإصلاح والتحديث في الفكر والعقل، شاعر الحرية أبو القاسم الشابي، الذي مهد برأيي السبيل لرواد التحديث الشعري في العراق، وخصوصا منهم بدر شاكر السياب، ولا غرو في الأمر، فجذوة الاجتهاد والنقد والمراجعة مبثوثة في العراقيين، أولئك الذين مكثوا في أرض الرافدين أو غادروا إلى أفريقية، منذ المعتزلة والحشاشين إلى يوم الدين.
و قد عثرت وأنا أقلب في صفحات الوصال بين تونس وبغداد، على السيرة العطرة للشيخ عبد العزيز الثعالبي في العاصمة العراقية، وهي سيرة مجهولة شعبيا على الرغم من تخليد الشعراء لها، فقد كان المرحوم معروف الرصافي يرى في زعيم الحركة الوطنية التونسية أخطب خطباء العرب في القرن الذي يعيش، وهو القائل في قصيدته الدالية quot;بين تونس وبغدادquot;:
لنا (بثعالبيك) خير ملقعلى أشتاتنا حبل اتحاد
وأكبر حامل بيد اعتزاملحب بلاده علم التفادي
وأسمى من سما أدبا وعلماوأفصح من تكلم عن سداد
و قد كان الرصافي صديقا حميما للشيخ الثعالبي، على الرغم من اختلافهما الفكري في أمور كثيرة، تعارفا في اسطنبول أولا على أيام العثمانيين، قبل تجديد الصلة في بغداد سنة 1925، عندما جاءها الزعيم التونسي لاجئا هاربا من اضطهاد الفرنسيين، ومكث فيها بضع سنين، قيل أنها خمسة أو ستة، ووجد فيها كل محبة وتقدير.
لقد دعي الشيخ الثعالبي، الذي أسس في 1920 الحزب الحر الدستوري التونسي، إلى بغداد للتدريس في جامعة آل البيت، التي أسسها الملك فيصل الأول، وكانت قبلة النخبة العراقية آنئذ، فعمل بالجامعة إلى أن تقرر إغلاقها، وكانت دروسه في الفلسفة الإسلامية و مقالاته في الصحف العراقية محل تقدير وإجلال، كما كانت ندوته التي يقيمها في داره في محلة quot;البقحةquot; ببغداد القديمة، قبلة خيرة شعراء وأدباء و ساسة العراق في ذلك الوقت، من قبيل العلامة محمد بهجت الأثري والأستاذ الكبير فهمي المدرس و الشاعران العظيمان معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي والزعيم السياسي ياسين باشا الهاشمي، وغيرهم كثير، حتى قيل أن مجلس الشيخ الثعالبي كان ثاني أهم مجالس دار السلام بعد مجلس علامة العراق الكبير محمود شكري الألوسي.
و قد وصلت صلات الشيخ الثعالبي البغدادية، حد الملك فيصل الأول، الذي دعا الزعيم التونسي أكثر من مرة إلى قصره، إما طلبا للنصح أو تكريما للرجل. و مما روي بهذا الصدد، أن الشيخ الثعالبي قد سعى في الصلح بين العاهل العراقي و معروف الرصافي، بعد جفوة شهيرة كانت بينها، غير أن مسعاه لم يكلل بالتوفيق على الرغم من نجاحه في الجمع بين الرجلين.
و في هذا الجهد قصة تستحق أن تروى، فبعد أن مهد الشيخ الثعالبي للقاء الرجلين، كان الحديث بينهما على غير المخطط عاصفا، حيث قيل أن الملك بادر معروفا بالعتاب لما حل بين يديه قائلا: أأنا يا معروف أعدد أياما وأقبض راتبا؟ (في إشارة إلى أبيات قالها الرصافي هجاء قبل سنين)، فرد معروف قائلا: أرجو أن لا تكون كذلك يا صاحب الجلالة. والحمد لله أن الرصافي لم يظهر على زمن صدام، ثم رحم الله الملك فيصل ما أوسع صدره.
لقد مكث الثعالبي بعد هذه الحادثة سنين أخرى في بغداد معززا مكرما، كما عين بعد إغلاق الجامعة مفتشا في وزارة المعارف، حتى قرر بنفسه الرحيل في رحلات آسيوية وعربية، قبل أن تأذن له فرنسا بالعودة إلى أهله في حدود سنة 1937، وكانت عودته مهيبة، استقبل فيها من قبل تلاميذه ومريديه ومحبيه استقبال الزعماء العظام، بعد هجرة قسرية دامت قرابة خمسة عشرة عاما، كانت أطول فتراتها عراقية بغدادية.
ويا للأسف الشديد، فإن قوما يافعا من التونسيين قد غرر بهم، فارتحلوا إلى العراق ليقتلوا بعض أهله العزل الأبرياء، بعد أن كان الجد الثعالبي قد أحيى أجدادهم بما أوتي من حكمة ومعرفة، ومن مفارقات الزمن أن حكومة فيصل الأول كانت أيضا حكومة محمية من قبل الأنجليز، غير أن سعة عقل الزعيم التونسي و معاصريه من المفكرين الإصلاحيين المسلمين والعرب، كانت ترشدهم إلى أن مقاومة الاحتلال يجب أن تبدأ بمقاومة الجهل والمرض والتخلف الفكري والديني والعقلي، لا أن تكون مطية لتكريس الجهل والمرض والتخلف كما يظن فقهاء الدم وعلماء القتل والإرهاب.
كاتب تونسي