الدكتور مجيـــد القيسي *

إعتنت الديانات السماوية بمسألة طهارة الجسد سواء كان تنفيذا لما ورد في الكتب السماوية من فروض او في أحاديث ألأنبياء والفقهاء. أو نتيجة ألشعور بالحاجة الى النظافة في أي وقت كان. ويبدأ الغسل او الوضوء عند المسلمين بالكفين والوجه ولكافة أجزائه وللأطراف. اما غسل عموم الجسد فيكون تلبية لفرض ديني معروف او للحاجة الى تنظيفه من ألأوساخ المتراكمة. ويكون ذلك أسبوعيا او شهريا؛ بحسب توفر الماء، مع ألأخذ بالإعتبار حالة الطقس وبرودته. وقد يحتاج البعض من الناس الى غسل جسده وتنظيفه يوميا؛ وهم ألعمال والصنائعيون العاملون في التعدين والسباكة والمجاري ومن على شاكلتهم. ولابد هنا من توفر الماء ومستلزمات التدفئة شتاء. ويعتبر الصيف والربيع والخريف من المواسم المناسبة للإستحمام عموما.

أما الفئات ألإجتماعية الفقيرة ذوات المداخيل المتدنية فهي غير قادرة على ألإستحمام المعتاد شتاء إلا في ألأعياد او في المناسبات الدينية او ألإجتماعية الخاصة. وغالبا ما يكون ذلك بالذهاب الى الحمام العمومي او حمام (السوگ) كما كان يسمى أيامئذ. ويعتبر ذلك حدثا وتغيرا مهما في حياة المستحم لعدة أيام قادمة. لكن الأمر يكون أكثر يسرا في المواسم المناخية المعتدلة كما قلنا. إذ لا يتطلب ذلك أكثر من ( پيپ) او (جربة) او (مسخنة - مشربة) ماء إعتيادي او ساخن؛ و(طشت) و(طاسة) وقطعة صابون (رگي) او (طين خاوة)؛ تلك المادة الطينية الرقيقة التي لها القدرة على إمتصاص ألأوساخ والدهون. هذا فضلا عن الليفة و(الچيس) و(المنشفة) التي يمكن إستبدالها بـ (الخاولي) او (الپشكير). اما اولئك الذين يسكنون بالقرب من نهر دجلة او ألسواقي الكبيرة كالتي كانت تمر في منطقة (الكرنتينة)؛ وقريبا من (گهوة إبراهيم عرب) في اربعينيات القرن الماضي؛ فكانوا من أصحاب الحظ السعيد. لكن الفئات ألإجتماعية المتوسطة اوالموسرة فلهم حماماتهم الخاصة في قصورهم او في بيوتهم المجهزة تجهيزا جيدا؛ كما هي الحال اليوم. ولابد لنا هنا من ألإشارة الى تقليد جميل يؤكد على روح الألفة والمحبة بين أبناء الوطن الواحد؛ وهو مبادرة العوائل الموسرة في (الطرف) لدعوة العوائل التي لاتمتلك حمامات؛ للإستحمام في حماماتها وإكرامهما بالطعام؛ ومشاركة الداعي لها بتناول الشاي وتبادل (السوالف) اللطيفة ونوادر ألقصص وشؤون (الطرف).

وكان في مدينة بغداد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عدد كبير من الحمامات العمومية. ثم أخذ يتناقص في عقد الخمسينيات وما بعده. وسبب ذلك معروف وهو إهتمام المواطنين ببناء حماماتهم الخاصة في منازلهم. ومن أهم الحمامات؛ (حمام المالح) الذي كان يحصل على الماء من بئر محلية مالحة؛ وحمام الشورجة وحمام حيدر وحمام يتيم وحمام الجسر وحمام الباشا وحمام القاضي وغيرها.

ويعتبر موضوع (حمامات السوگ) من المواضيع الأثيرة الى نفوس أولئك الذين يعشقون التراث البغدادي ألأصيل. فقد أشتهرت تلك الحمامات بتقاليدها المتوارثة وطقوسها الجميلة التي تلزم الجميع بمراعاتها إستجابة لتقاليد المجتمع البغدادي المحافظ. من ذلك مثلا أن العوائل المحافظة لم تكن لتسمح للصبية بالذهاب الى الحمام إلا بمعية أحد أفرادها البالغين. كما لايسمح للأطفال (الكبار!) بمصاحبة أمهاتهم إلى حمامات النساء. وكثيرا ما حصلت مشادة بين ناظرة الحمام ووالدة الطفل المسكين. وهنا نجد زبونات الحمام تنقسمن على فريقين؛ فريق يتعاطف مع الطفل ووالدته وفريق آخر يصر على المنع تقوده الناظرة. وقد تحصل مشاهد هزلية لكنها مؤلمة؛ إذ تحاول ألأم ومن معها إثبات أن الطفل لايدرك تماما ما حوله؛ ولا ينظر بعين زائغة الى العورات. ولكي تحاول إثبات براءته نراها تندفع بعصبية لترفع (دشداشته) للكشف عن عورته أمام الجمع الغاضب وهي تصرخ فيهن ومشيرة الى الطفل المرعوب : ( شوفن بعيونچن زين...هو وليدي رجـّال..)!؟. وترد عليها الناظرة بنبرة عالية: ( إنتي عمية؛ لعد هو هذا جـــاهل..)!؟.

وتنقسم بناية الحمام الى عدة أقسام هي:
1. ألمنزع : ويمثل القسم الذي يستقبل فيه صاحب الحمام الزبائن وهو يجلس بوقار على (دچة) عالية او كرسي مرتفع قليلا؛ حيث يبدأون بخلع ملابسهم وحفظها في (البقچة)؛ ومن ثم يضعونها على (دچة) ألإستراحة الرئيسة او (الكرويتات). وهنا يتقدم ( الصانع) او العامل بتغطية ولف ما دون حزام الزبون بـما يسمى (بالپشطمال) او (الوزرة)؛ ثم يدني من قدميه القبقاب. وغالبا ما يسلـِّم الزبون الوجيه (جزدانه) أو (هِميانه) الذي يحفظ فيه نقوده الى صاحب الحمام ليؤمنها في الخزانة. وكذلك مقتنياته الثمينة كالساعة والمحابس و(السبحة) وعلبة (التتن) الثمينة ومفتاح البيت و(الورْوَرْ). والواقع؛ فأن قلة هم الذين كانوا يفعلون ذلك. فقد كانت الدنيا يومئذ آمنة نسبيا؛ ورواد الحمام يعرف بعضهم بعضا في ألأغلب ألأعم. وكثيرا ما يتحول الحمام الى ملتقى للأهل وألأصدقاء لتبادل ألآراء وألأفكار حول أوضاع المحلة ومشاكل المدينة ألإقتصادية أوألإجتماعية أو السياسية. فقد روى لي صديق؛ حيث كان موجودا في أحد الحمامات بأنه سمع من الراديو العائد الى الحمام بان (السيد محمد الصدر) قد كلف بتشكيل الوزارة خلفا لـ (صالح جبر)؛ الشخصية المعروفة. وكان السيد (الصدر) رجلا حكيما ووقورا وهو بعمته السوداء ولحيته المخضبة المشذبة. فجرى نقاش جاد وودي بين شبان يساريين وبين بعض (ألأفندية) المحافظين؛ يقودهم صاحب الحمام الذين أثنوا على شخصية الصدر. ولا شك أن كثيرا منا يتذكر بأن عام 48 كان زاخرا بالحراك السياسي وبالمظاهرات والوثبات الدامية التي إشترك فيها الشعب كله على مختلف قومياته وطوائفه ومذاهبه المتحابة المتصالحة؛ وكذلك أحزابه المختلفة. فقد كانت أناشيد: (موطني... موطني) و(نحن الشباب لنا الغد) وغيرها تصدح في أجواء العراق. هذا الوطن الجميل الواحد أرضا وشعبا منذ فجر التأريخ وحتى ألأمس القريب والذي ما عرف الصراعات السياسية او الدينية الدموية قط.

2. قسم دوا الحمام : وهو القسم الذي يسبق الصالة الرئيسة؛ أي المُستحم. ويضم (الكنيف او (القدم گاع) اي المرحاض وأمكنة خاصة لإزالة الشعر غير المرغوب فيه؛ وذلك بإستعمال (دوا الحمام). وهو مسحوق يباع لدى العطارين والصيدليات. ويتكون من خليط من النورة (الجير الحي) و(أوكسيد ألزرنيخ). ولهذا المسحوق القدرة ألأكيدة على إزالة الشعر بسرعة. فيجلس الزبون بالقرب من الحنفية ليضيف قليلا من الماء الى المسحوق؛ فيعمل منه عجينة رقيقة. ومما تجدر الإشارة اليه هنا بأن هذا القسم الذي يتسم بالدفء والرطوبة يكون في الغالب ملجأ (للمردان)؛ وهي الصراصر الحمر المعروفة؛ وبخاصة في الحمامات القديمة. وقد تفسد متعة بعض الزبائن الذين يتقززون من مشاهدتها وهي تحوم وتتطاير حولهم. وبعد أن يغطي الزبون مناطق الشعر بهذه العجينة مع الدعك الخفيف عليه أن ينتظر برهة من الزمن ليجد الشعر وقد أزيل تماما. وقد لا يخلو (دوا الحمام) من بعض المشاكل او المحاذير. فمادة (الزرنيخ) لها خاصية سمية معروفة. لذلك ينبغي ألإحتراس عند ألإستعمال؛ وخصوصا من قبل ذوي البشرة الحساسة او ممن يعانون من الخدوش والطفح الجلدي. كما أن (ألجير الحي) يعد من المواد الكاوية. لذلك نرى بعض الزبائن يزفرون ويتأوهون من الحرقة ومن الجو الخانق للمكان.

ومن الطرائف التي تتعلق بالصراصر لعلي أذكر هنا هذه الطرفة اللطيفة. فقد كنت عام 48 طالبا مبتدأ في الكلية حيث طلب منا أستاذ علم الحيوان أن نحضر معنا في الدرس التالي عددا من الصراصر لتشريحها. فبعثت بشاب صغير من (الطرف) لكنه يتسم بالجرأة واللباقة الى (حمام المالح)؛ الواقع بالقرب من محلة الفضل. ولقنته بالعبارات التي ينبغي قولها لصاحب الحمام المرحوم ألسيد (أحمد) ألذي كان شخصا في غاية الطيبة والظرف. وحين عودة الشاب بالصراصر؛ وقد حفظها في (الشيشىة)؛ سألته ما الذي حصل له مع (الحممچي). فقال لي: ( گلتْ له؛ عمي أحمد: آني إبن إسطة جواد البنا أريد اصيد چم صرصر. لكنْ ما دارْ لي بالْ. وعِدتْ الحچاية، فگال لي: شتسوي بيها إبني !؟. گلتْ له: گرايبي تلميد بالكلية ورادوها منه... يتعلم عليها !) وأردف الشاب قائلا: ( أشو عمي أحمد إلتفت على الحاضرين وصاح : وين الملا عارف خلي يجي يشوف إشديعلمون ولدنا بالمِدارس...!؟. بعد لويش يحفظون قرعان...) !؟.

3. المُستحم: وهو الصالة الرئيسة للحمام. ويتألف من باحة تحيط بها أروقة وأمكنة خاصة لأحواض الإستحمام الحجرية وحنفيتان لكل حوض؛ أحداهما للماء الحار و\ألثانية للماء البارد. ويتوسط الباحة (دچة) حارة يجلس عليها الزبائن للتعرق؛ او لإستخدامها من قبل (المدلكچية). ويوجد هنا أيضا ما يسمى (الجهنمية). وهي قبو صغير قريب من (قزان) او (صفرية) الماء المغلي؛ حيث يغطي جوها البخار الكثيف. وعادة ما يدخلها من يشعر بآلام (الروماتيز) او آلام العظام ألأخرى. فيخرج منها وهو يلهث من سخونة المكان وقلة ألأوكسجين.

وبعد أن ينتهي الزبون من ألإستحمام يطرق على الحوض بـواسطة (الطاسة) المعدنية لينادي على (الصانع) الذي يهرع اليه وهو يصيح (جاكْ.....جاك). فإن كان زبونا عاديا أبدل (وزرته او بشطماله) بواحد آخر جاف ولف جسمه بمناشف الحمام. أما إذا كان ممن يجلبون معهم تجهيزات ألإستحمام الخاصة بهم فأنه يذهب بسرعة إلى (بقچته) لجلبها لقاء (البخشيش) المجزي. وعادة ما يجلس الزبون على (الدچة) او (الكرويتة أي القنفة) حيث يستقبله الحضور بعبارة (نعيماٌ)؛ فيجيبهم (أنعم الله عليكم). وهنا يهرع (الچايچي) ليقدم اليه (إستكان چايْ الدارسين) أللذيذ الذي يعد من مستلزمات ما بعد ألإستحمام؛ وخصوصا في موسم الشتاء وفي (المربعانيات) لمقاومة نزلات البرد.

اما إستدعاء (المدلچي) لـ (تكييس) الجسم فيعد من اهم متطلبات الإستحمام؛ وخصوصا للموسرين والوجهاء او إسطوات (التكمچية) والحدادين وأمثالهم ممن تستدعي أعمالهم الشاقة التوجه الى الحمامات ليلة الجمعة للتخلص من مخلفات اعمالهم من السخام والفحم وثفل المعادن.
و(للمدلكچي) أساليبه البارعة وفنونه الطريفة للتأثير في نفسية المستحم ولكسب مرضاته؛ وذلك بإزالة أوساخ الجسم بواسطة (چيس الحمام) وبرمها بخفة على هيئة (فتايل)؛ ثم دحرجتها وجمعها من أجزاء الظهر والكتفين ليضعها أمام أعين المستحم وفي الجزء الأمامي من الجسم ليثبت مهارته في التدليك؛ وليحصل على (بخشيش) ذي إعتبار. على أن لا ننسى الحركات (البهلوانية ) الخفيفة التي يقوم بها؛ من قبيل تقليب المستحم ظهرا على بطن وبطنا على ظهر وعلى الجنبين؛ وشد ألذراعين والساقين وليِّ الرأس؛ ليسمع الزبون (طقطقة) مفاصل الفقرات بإعتبارها دليل العافية وعودة ألأمور الى نصابها الطبيعي !. كل هذا والزبون يتأوه ويدمدم بعبارت الإستحسان (أحسنت أسطة؛ بارك الله بحيلك)...!؟. وتنتهي العملية بدعوة (المدلكچي) الى الزبون قائلا: ( عوافي عمي او حجي او أخي) و(حمام الصحة والعافية). ويتوقف مقدار (البخشيش) على براعة (المدلكچي) ورصيده من الحركات (البهلونية) ومن عدد (الطقطقات) و(الفتايل)...!؟

ولعل من بين التقاليد البغدادية الطريفة (عزيمة) العريس الى الحمام من قبل أهله وأصدقائه المقربين وذلك قبيل ليلة (الدخلة). فتكون هذه المناسبة فرصة ( لبهذلته) وإمطاره بالعبارات والحركات الشبابية الساخنة وألتي كانت مألوفة يومذاك؛ وهو في غاية الخجل والقنوط. فماذا عساه يفعل والمناسبة فريدة وسعيدة ؟. وإن ما يفعلونه به هو من باب المعابثة والمزاح والمحبة؛ ليس إلا.

اما (ألأشقيائية) المعتبرون من قبل أبناء (الطرف)؛ فالذهاب الى الحمام يتطلب منهم سلوكا وطقوسا معينة. فهم عادة ما يكونون محاطين بعدد من أصحابهم ومرافقيهم الذين يحملون (البقچ) ومستلزمات ألإستحمام. فتراهم يدخلون متبخترين بـ (چراویاتهم العدام) وهم يشدون ألأحزمة العريضة او (الحياصات) على خصورهم وقد دسوا فيها (الوَراورْ) او الخناجر تحت (الدميري) او (الچاكيت) او (الفروة)؛ إن كان الموسم شتاء. وحين يدخل (الشقاوة) الى الحمام ويلقي بالسلام على الحاضرين؛ ينهض ناظر الحمام من مكانه ليستقبلة بالترحاب والمهابة؛ بينما ينهض بعض الزبائن ويتملل البعض ألآخر وهم يردون على التحية بأحسن منها. ولِمَ لا والحضور قد يحتاجون الى ألإستنجاد ( بشقاوتهم) يوما ما لتأديب (شقاوة) آخر معتد.

وأجواء الحمام العامة ليست دائما سمنا على عسل. وهي لا تختلف عن أجواء ا(گهاوي) و(چايخانات) (ألأطراف) الحبلى بالمفاجآت. فقد يزوره أحيانا (شقاوة) ممن يتصفون بالرعونة وقلة ألأدب. وهنا تبدأ أجواء الحمام بالتوتر. فيأخذ الزبائن بقطع أحاديثهم المسلية فجأة والتسلل من الحمام؛ الواحد بعد الآخر، بينما يقوم صاحب الحمام والصانع و(الچايچي) بتقديم أفضل الخدمات الى هذا الزائر الثقيل إتقاء شره. حيث يهرع الصانع بفتح (الدولاب) وإخراج (پشطمال) جديد وصابونة وليفة و(جيس)؛ ثم يقف ينتظر بوجل حتى ينزع هذا (الشقي الدعي) ثيابه إستعدادا للإستحمام. وكثيرا ما يفتعل (عركة) لأتفه ألأسباب كي يزوغ من دفع ألأجرة و(البخشيش).

ومن طريف ما يذكر عن بعض زبائن الحمامات الذين يرون بأنهم يتمتعون بأصوات جميلة فتراهم يذهبون الى الحمام في أوقات خلوه النسبي من الزبائن؛ ليلا او فجرا؛ ليجربوا حناجرهم بقراءة مقام او غناء (پستة). فيخرج من الحمام وعلى وجهه إبتسامة رضا لكونه إجتاز ألإختبار بنجاح. لكنه سرعان ما يصاب بخيبة أمل حين يعيد التجربة في المنزل !.

والحمام لدى البعض من الناس (الگور ممشيّة) مناسبة للتبختر و(العنطزة). فهو يريد أن يري الناس ملابسه الجديدة التي سوف يدشنها أول أيام العيد مثل (الزبون) أو (الصاية الپتة) او(الدميري) أوالعباية (الليهي او النايين او الچوخ) شغل النجف؛ او اليشماغ ألأنكليزي والعرقچين او (اليمني ألأحمر) أو(القندرة الروغان) أم (الجزة).

أما (حمامات النسوان) فلها؛ هي ألأخرى؛ قصصها وحكاياتها المثيرة التي تشكل بحد ذاتها فصلا هزليا ممتعا قائما بذاته. وخصوصا في (ألأطراف) التي يغلب على سكانها الجهل والتخلف والفقر. وقبل الولوج في الموضوع ينبغي أن نذكر بأنه؛ وبعد إتفاق (النسوان) على الذهاب الى الحمام كعائلة بمفردها أو كمجوعة من العوائل؛ عليهن القيام بإعداد مستلزمات الحمام التي تحفظ عادة في (البقج) و(العلاليگ)؛ وهي الصابونة و(ألرگية) والليفة و(چيس الحمام) والمشط وحجر الحمام و(المراية) و(الطين خاوة)؛ وكذلك المناشف وملابس نظيفة او جديدة؛ وبعض ألأطعمة و(الميوة) و(الكرزات). ولايمكن أن تنسى المرأة مستلزمات ( الزواگة) التي تحفظها في (السفط)؛ وهي الحنة و(الديرم) و(السبداج) والكحل والخطاط وحُمرة الخد و(شيشة ريحة ماركة بنت السودان) الشهيرة يومذاك؛ ومكص و(منگاش) وفص شب؛ وأحيانا خيط الحفافة، وخصوصا بالنسبة للعرايس والصبايا.

وكان من أخطر ما يحصل في (حمام النسوان)؛ وعلى حين غرة؛ إندلاع المشاجرات الفجائية التي تبدأ أولا بتبادل ألإهانات والشتائم و(الفشار). وفي أحيان كثيرة تتطور الى (الكفش) و(الملش) وتبادل التراشق بـ (القباقيب) وحجر الحمام وربما التضارب بالطوس و(القرَواين) وسواها. أما سبب إندلاع تلك (العركات) فغالبا ما يكون مرجعه التنافس والتسابق على الماء او ألأحواض؛ او تنفيذا لثأر (بايت). او قد يكون بسبب الغيرة والحسد؛ وخصوصا إذا كانت المستهدفة إمرأة يافعة وجميلة ومتغطرسة. حيث تبدأ المعركة بتعليق عابر او مقصود من إحدى النسوة المنفلتات؛ ولكنه مسموع: ( شوفنها الهايْ المعنطزة... شايفة روحها شوفة وشايلة خشمها....وكل الناس مو بعينها) !؟. وأترك ملاحق العبارات والألفاظ لخصوبة خيال القراء الكرام. حتى تبدأ ( العركة) وتسود الفوضى في المستحم. وعلى الفور تتدخل الناظرة التي تختار عادة من بين النسوة القويات و(الجعنكيات) لتبدأ اولى الخطوات التحذيرية بأن تصرخ فيهن: (ولچن؛ تِسكتنْ لو أصيح برهوم...).!؟. و(برهوم) هذا هو (صانع) حمام الرجال الذي كان يوما ما شخصا منفلتا و(شرانيا). وما أن تسمع النسوة المتخاصمات إسم (برهوم) حتى تحصل همهمة بينهن؛ ومن ثم يسود المكان صمت مطبق. فبعضهن قد سمعن عن تجارب مريرة مع هذا (البرهوم) الذي لا يتورع عن إقتحام المكان وإطلاق لسانه القبيح. ومن غريب العادات السائدة بين هؤلاء النسوة السرعة في نسيان ماحدث وقلب صفحة جديدة خلال دقائق. حيث نرى المتخاصمات وقد جلسن على (الدچة) وهن سعيدات ومنتشيات على أصوات (الخواشيگ والإستكانات) وقد لفت من أصيبت منهن كدماتها وجروحها (بالوصل او الخرگ)؛ حيث يأخذن بتبادل أطراف الحديث عن شؤونهن الخاصة او (قشب) الناس؛ وتبادل (الكليچة) و(خبز العروگ) و(النومي الحلو) و(الرمان) و(تین إرجاوْ) و(الكرزات)؛ وكأن شيئا لم يحدث !. ولعل السبب في سرعة تناسي ألأحقاد وغلبة روح العفو بين هؤلاء النسوة؛ وهن جزء من الشعب العراقي الطيب؛ هو أن سيرتهن وأخلاقهن التي جبلت على الفطرة النقية؛ لم تلوثها وتفسدها أدران السياسة وأحابيل الدين المسيس.

وفي الختام؛ لابد أن نذكّر القراء الكرام بأن هناك قسما آخر من أقسام الحمام المهمة وهو الخاص بإعداد وتجهيز الماء الحار وهو (الطمّة). ويقع هذا القسم خارج بناية الحمام وملاصقا لها. وكانت طريقة تسخين الماء من الطرق البدائية التي تتطلب مجهودا وتعبا وعرقا من قبل القوامين عليه؛ وهم الوقادون و(السِّقاقي) و(النگاگيب) الذين ينقلون روث الحيوانات من ألإصطبلات وسواها الى (الطمة) لإستعماله وقودا؛ ومن ثم نقل الرماد المتخلف منها الى (سِكلات) مواد البناء؛ حيث كان يستعمل في البناء (كمونة للطابوگ) بعد خلطه (بالنورة) الحية. وكانت مهمة (النگاگیب) في غاية الصعوبة والتعب؛ يشاركهم في ذلك الحمير والبغال التي تقع عليها مهمة النقل المزدوج. حتى وصفوا من يمارس عملا شاقا بأنه (مِثلْ زمالْ الطمّة؛ رايحْ مْحمِّل وجاىْ محَمِّل). أما الماء فكان يؤتى به من قبل (السقاقي) من نهر دجلة او السواقي القريبة. وكثير من الحمامات كانت تحصل على الماء من ألآبار المحلية. وبعد إنتشار خدمات (الرسالة !)؛ أي إسالة الماء كما كان يطلق عليها البغادة؛ جرى تزويد الحمامات بالماء بواسطة الأنابيب. كما أستبدل (الروث)؛ وهو مصدر رخيص من مصادر الطاقة المستديمة الذي إفتقده العراقيون هذه ألأيام !؛ بالنفط ألأسود وأخيرا بالنفط ألأبيض الذي ولدت مع ظهوره أزمة طاقة... وأزمة أخلاق.

وقبل آن ننهی حديثنا هذا لابد أن نذكر بعض الفوائد الثانوية (للطمة) وهو شيّ (الشلغم والشوندر). فقد كان البغادة يحبون هذا الشواء اللذيذ؛ وخصوصا أيام البرد القارس؛ حيث أطلق البغادة على (الشلغم) وصف (درمان) الصدر. وكان الباعة يحملونه على رؤوسهم بألأطباق او السلال او (لإنجانات) وقد لفوه بالقماش او اللباد للإحتفاظ به ساخنا. فيدورون بالبضاعة في ألأسواق وألأزقة حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان وجود طبقة رقيقة من الرماد الذي يغطي (الشلغم والشوندر) مبعثا لتعلق الزبائن بهما كأكلة تراثية محبوبة لها طعمها ومذاقها المدخن اللذيذ. وينبغي أن لا ننسى هنا أيضا بأن بعض اخوتنا من أبناء الموصل إعتادوا أن يأخذوا (بُرماتهم) التي تحوي اللحم المقدد اللذيذ الى الحمام لدسه في ملة (الطمة) لشيه.

هذا غيض من فيض مما كان يحصل في الحمامات العمومية أيام الزمن البهيج الجميل؛ وما إجتهدت الذاكرة الغاربة في إسترجاعه من (سفط) التراث البغدادي ألأصيل وتلك العادات العراقية الجميلة المتوارثة والتي رعاها العراقيون بمهجهم وحفظوها بين جوانحهم؛ حتى صحوا على زمجرة رياح التغيير التي عصفت بأنماط حياتهم ومسخت تقاليدهم الأصيلة وعاداتهم التي أحبوها؛ وفي زمن قصير يلفت للنظر.

لكن الذي إستعصت مغاليق إدراكه علينا هو أسباب تعرض العراق إلى سلسلة محكمة ومتواصلة لمخططات شريرة إستهدفت محو تأريخه وآثاره وتقاليده دون سائر أقطار الوطن العربي التي تشاركه هذا التأريخ الغني. ففي أقل من قرن من الزمان تعرضت كنوزه ألأثرية الى النهب والعبث والتشويه؛ وكذلك فنونه المعمارية والموسيقية وما شاكلها. بل وقد جف نبع العراق حتى من المفكرين والسياسيين والكتاب وألأدباء والمؤرخين والموسيقيين الذين ساهموا في إغناء حياتنا بنتاجاتهم الرائعة في ذلك الزمن البهيج السعيد. الزمن ألذي ما يزال طعم أجوائه اللذيذة تحت أضراسنا حتى اللحظة. والمدهش أيضا بأن من قام بتنفيذ تلك المخططات الشريرة او ساعد على ذلك هم عراقيون قد إحتضنهم هذا البلد ورعاهم ولم يبخل عليهم بخير او فضل. فكان جزاؤه هذا الخراب الشامل الذي لف الوطن من شماله حتى جنوبه؛ فأحاله الى خرائب وأطلال ينعق فوقها البوم.


أكاديمي عراقي مغترب
[email protected]