مراجعة لفيلم ّظل في بغدادّ
&

ظل في بغداد فيلم يستخدم الأسلوب الوثائقي لعرض حكاية ليندا مينوحين، يهودية عراقية فرّت من النظام القمعي لصدام حسين عندما كانت في العشرين من عمرها.& في كانون الأول/ديسمبر عام 1970، غادرت ليندا بغداد لتستقر في إسرائيل بانتظار وصول بقية أفراد عائلتها - الذين جاءوا بعد ما يقرب من خمس شهور - ما عدا والدها يعقوب عبد العزيز، وهو محام محترم بقي في العراق.
لقد كانت أواخر القرن العشرين فترة صاخبة في العراق، وخاصة بالنسبة للسكان اليهود الراسخين في البلاد.& ففي عام 1969، أقدم حزب البعث على عملية إعدام جماعية لتسعة من اليهود في بغداد بتهمة التجسس، وعرض جثثهم في ساحة التحرير وسط هتاف الجماهير.& والاعتقاد السائد هو أن هؤلاء الرجال استخدموا ككبش فداء لصرف الأنظار عن خسائر حرب عام 1967 ضد إسرائيل، وأن هذا الحادث كان بمثابة نقطة الانهيار ليهود العراق مع تحول الرأي العام ضدهم.& وكان النذير واضحاً، إذا جاز التعبير.& في عام 1970 وعام 1971، فرَّ العديد من اليهود عبر كردستان إلى إيران، عابرين الجبال الوعرة والمناطق الخطرة تجنباً لدوريات شرطة الحدود.& لقد كانت حقاً مغامرة محفوفة بالمخاطر تتطلب الكثير من الشجاعة، إذا لو قبض عليهم فإنهم كانوا سيتعرضون لأهوال التعذيب كأسرى لصدام.& ورغم ذلك فإن ما يقرب من 2300 شخصاً قد سلكوا هذا السبيل.
في أيلول/سبتمبر عام 1972، اُختطف يعقوب عبد العزيز من قبل مكتب مخابرات صدام حسين، واختفى دون أثر في باستيل صدام: "قصر النهاية".& ولم يُسمع شيء عنه منذ ذلك الحين.& هذه ليست قصة غير عادية في عراق صدام حسين، إذ أن العديد من العراقيين قد اختطفوا من قبل الشرطة السرية وقتلوا دون العثور على جثثهم.& كما أنها ليست قصة يهودية غير عادية، فقد تحمّل يهود العراق أكثر من نصيبهم العادل من المعاناة والقهر والاضطهاد على مر السنين.& وفي نفس الوقت الذي تم فيه اختطاف والد ليندا أختطف أيضاً 22 من اليهود الآخرين.& تُرى ما الذي دفعها لتقديم فيلم بعد 40 عاماً على الحدث؟& ما الموجود هناك للبحث عنه مع عدم وجود أية وثائق، أو قبر، أو جثة؟& أهو مجرد البحث عن الظل في بغداد؟

يبدأ الفيلم عندما يتصل صحفي عراقي شاب بليندا على سكايب، الذي قرأ في مدونتها عن اختطاف والدها ومحاولتها الفاشلة للتصويت في الانتخابات العراقية عام 2010 في الأردن (فقد مُنعت من التصويت بسبب جواز سفرها الإسرائيلي، على الرغم من أنها كانت تحمل شهادة ميلاد عراقية).& تأثر هذا الصحفي غير معروف الاسم بقصتها ورغب بكتابة عمود عن والدها وعرض عليها القيام بكل البحث والتحقيق اللازم لاقتفاء أثر اختطافه ومصيره.& وبالطبع لم تكن ليندا واثقة بهذا الغريب، لكنه أوضح لها أنه عندما كان فتىً أخبرته جدته قصصاً عن اليهود الذين عاشوا في العراق فيما مضى، والصداقات بين مختلف الطوائف الدينية.& ومع الاضطراب الطائفي الحالي في العراق كان من الواضح أن هذه المهمة محفوفة بالمخاطر بالنسبة له، ولا يتعرّف المشاهدون على الهوية الحقيقية لهذا الغريب المطبوع على حب الخير.& وبالمثل، فلدى ليندا الكثير من الذكريات المؤثرة والمؤلمة كانت تخشى من إحيائها.
يصور الفيلم رحلة كل منهما عندما يبدأ الشاب بالتحقيق، وزيارة منزل أسرة عبد العزيز، والمقاهي، والبائعين في شوارع بغداد، والاتصال بأكبر عدد من الناس يستطيع الوصول إليهم أملاً في إلقاء بعض الضوء على هذا اللغز.& في غضون ذلك، نشهد ليندا مع عائلتها في إسرائيل وهي تتأمل ماضيها وثقافتها العربية.& في استعادتها للذكريات تقول: "كانت بغداد بيتي، ودجلة نهري، والعربية لغتي."& وتتذكر على وجه الخصوص، كيف أنها أحبّت الشعر العربي وكيف كانت الحياة جميلة قبل حرب 1967 ومجيء حزب البعث الذي قلب عالمها رأساٍ على عقب.& ربما تكون قد غادرت العراق، ولكن يبدو أن العراق لم يغادرها أبداً.
وسط مشاهد الأسرة الحميمة بين ليندا وإخوتها، هناك مشاهد إعادة اكتشاف الرسائل القديمة من والدها.& ولأن نظام البعث كان يقوم بمراقبة المراسلات الموجهة خارج البلاد، فإن الرسائل مليئة بالقرائن والرموز، تلميحات محيرة عن المصير الممكن لوالدها ومع ذلك تظل ألغازاً غامضة في معانيها.& تناقش كل هذا مع أفراد عائلتها، ويبدؤون في استحضار الذكريات عن والدها.& إضافة إلى الحنين، هناك بعض المُجاهرة، مثل طلبها من والدها الحصول على مهرٍ لأنها تعتزم الزواج.& وفي الواقع يبدو أن العديد من الرموز في هذه الرسائل تشير إلى هذا الطلب، تذكرُ فيها كيف أن والدها يُعدُّ "قطعة القماش" لـ "البدلة" التي سيتم إرسالها إلى إسرائيل.& تُفاجأ شقيقة ليندا الصغرى بهذا الكشف، وفي واحدة من المشاهد الأكثر صدقاً وإجلاءً في الفيلم تُوبخ ليندا بلطف لمثل هذا الطلب خلال الفترة التي كان والدها يعاني من متاعب مالية.& إن هذه الصراحة والانفتاح حول قصة ليندا ربما هي أكبر ميزة للفيلم ككل.
تحكي ليندا كيف أنها جاءت إلى إسرائيل ودرست الصحافة لتكون مذيعة، إلا أن لهجتها المزراحية& (الشرقية) كانت عائقاً أمامها.& وبما أن لغتها العبرية ذات التصريف العراقي لم يكن مقبولاً للعبرية الأشكنازية، انضمت إلى القسم العربي لقناة تلفزيونية إسرائيلية وأصبحت ناجحة كصحفية وشخصية إعلامية عربية معروفة.
رحلتها تأخذها إلى لندن والأردن، حيث تسبر المزيد عن والدها، وعمله، وتاريخه، واختفائه من بين أعضاء المجتمع اليهودي الذي كان قائماً في العراق في ذلك الوقت.& ويتبين أن والدها قد أخذ على عاتقه الدفاع أو ترتيب الدفاع عن العديد من اليهود الذين تم اعتقالهم من قبل أجهزة المخابرات في عهد صدام.& وكانت هذه الاعتقالات دائماً عشوائية وتعسفية: وهي الوظيفة التي تقوم بها كل الأنظمة الفاشية. ونعلمُ أخيراً أن الاحتمال الأكبر هو سجن يعقوب عبد العزيز في قصر النهاية، حيث لقى مصرعه المبكر، وإلقاء جثته بشكل فظ في قبر لا يحمل أية علامة.
القصة، لمن عاش التجربة العراقية اليهودية، هي واحدة من تجارب كثيرة.& هناك 52 حالة اختطاف كهذه، والمئات من قصص الناس الذين قرروا ترك منازلهم وجميع ممتلكاتهم والفرار.& إنها حكاية عن الشجاعة واليأس.& إن فيلم ظل في بغداد هو استكشاف صادق ومؤثر لمجرد واحدة من آلاف المآسي الشخصية التي واجهت جميع العراقيين، بغض النظر عن الخلفية الدينية.& وهو جهدٌ يستحق كثيراً من الثناء كفيلم وثائقي، وعلى الرغم من أنه كان مؤثراً جداً ومثيراً للذكريات، بالنسبة لي، فإنه دراما صامتة دون أن يضم الكثير من تطور الحبكة أو الوضوح النهائي لها.& الصحفي العراقي الشاب لا يجد في النهاية شيئاً يكشف عن اختطاف ووفاة يعقوب عبد العزيز باستثناء حتميته.& ومع ذلك كان مشاهدة ليندا وهي تُعيد اكتشاف جذورها بعد أن عاشت في فراغ الذكريات منذ ما يقرب من 40 عاماً مثيراً للاهتمام.& وبعد أن تستسلم لمصير والدها، تُحوّل انتباهها إلى مصير الصحفي العراقي الشاب، مَعنيةٍ باعتزاز بتعريض نفسه للخطر من أجل مساعدة إنسان يهودي.& ومن المفارقات ربما أن الألفة بين الاثنين، طوال الفيلم، سدت الفجوة بين العرب واليهود بنجاح أكبر من 60 عاماً من الدبلوماسية الفاشلة.

في نهاية المطاف، فإن ظل في بغداد ليس فيلماً عن الحنين إلى الماضي ولكن فيلماً وثائقياً بارعاً لرحلة إلى الماضي صورها بصدق المخرج دوكي درور.& إنه فيلم يوثق صفحة في تاريخ يهود العراق - صفحة ملطخة بالدماء والدموع - لجماعة صنعت لنفسها وطناً في العراق لأكثر من 2,600 سنة وقد اختفى الآن.

ترجمة: مصباح كمال

ولد أميل كوهين في البصرة في العراق عام 1943.& بعد إنهاء دراسته في بغداد، أُرسل إلى المملكة المتحدة لدراسة الهندسة عام 1959.& في عام 1964، وبعد تغيير النظام في العراق، تم تجريده من جنسيته ومواطنته العراقية.& في السنوات القليلة الماضية أخذ يعاني من تجربة الحنين إلى جذوره، وهكذا بدأ البحث في تاريخ اليهود العراقيين.& شارك في تنظيم الحفلات الموسيقية العراقية، وفي عدد من البرامج التلفزيونية حول اليهود العرب في البي بي سي والمحطات الإخبارية العربية.

* نشرت هذه المقالة أصلاً باللغة الإنجليزية Casting a long shadow ” “ في موقع عرب ريفيو (Arab Review).&
** أما الفيلم "ظل في بغداد" فانقر هنا&
&