تحظى تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بتقدير إقليمي ودولي كبير، ويراها العرب خاصّة آخر أمل لمشروعهم الديمقراطي الحزين جرّاء تحوّل الربيع الموعود إلى كابوس فظيع قضى في سنوات قليلة على أحلام عقود وتطلّعات أجيال عاشت تنتظر كسر الاستثناء فوجدت نفسها مكسورة الخاطر تكاد تترحّم على أيّام الطغاة والمستبدّين.
عدت من بيروت الّتي زرتها بدعوة من الجامعة اللبنانية الأمريكية لإلقاء محاضرة حول نجاحات الانتقال الديمقراطي التونسي وتحدّياته، حاملا بكلّ امتنان هذا التقدير، خائفا من المسؤوليات الجسام الّتي يتضمّنها، ولم أشأ في أطروحتي أن أكون متشائما صادما مناقضا تماما لرؤية وردية استقرّت في أذهان المحبّين، جرّاء خيبات الآخرين أكثر ممّا هي نتاج واقعنا المعاش وظروفنا السائدة، مفضّلا تقديم جرعات معقولة من الواقعية، ومركّزا على أربع تحدّيات أراها تعترض سبيلنا وتربك مسارنا وتطرح علينا أسئلة علينا الإجابة عنها بشكل حاسما وسريعا.&
التحدّي الأوّل الّذي تواجهه ديمقراطيتنا الناشئة هو بلا ريب "التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، فالديمقراطية إن لم تنتج تقدّما ونهضة ورفاه ستظلّ غير مقنعة لشعبها غير مطمئنّة على مستقبلها، ولكي نتمكّن من خلق مئات الآلاف من مواطن العمل لشبابنا المعطّلين الّذين ينتظرون في طوابير البؤس وصفوف اليأس منذ سنوات فرصا للعيش الكريم ومساهمة يستحقّونها في تطوير بلادهم، ولكي ننجح في رفع معنويات أمّتنا وتعبئة مواردها واستغلال طاقتها ومواهبها الكثيرة، فإنه لا مناص من إيجاد قيادة رشيدة قويّة أمينة و بناء رؤية واضحة وصناعة منوال تنموي جديد ملائم وطموح، و رسم تنظيم فاعل مناسب ملائم لتطلّعاتنا العظيمة.
أمّا التحدّي الثاني فهو بالتأكيد هذا الدم المسفوك حراما، والخراب الّذي حل بالجوار القريب والبعيد على السواء، والتكفير والتفخيخ والتفجير والسبي والاسترقاق واستباحة الأنفس والأعراض والأموال والحرمات، فالتطرّف والإرهاب والجحود وداعش والقاعدة وسائر العناوين المشتقة والمتفرّعة والصاحية والنائمة والظاهرة والباطنة، جميعها عدوّ حقيقي خطير يتربّص بالدولة الوطنية والنظام المدني والديمقراطية التعدّدية ويعمل بكلّ عنف وتصميم وجسارة على تحطيم أسسها وإنهاء وجودها.
التحدّي الثالث تمثّله نخب سياسية وقيادات حزبية تظهر على ملامحها جميع أمراض الشخصية التونسية القديمة والحديثة والمزمنة والمستعصية، ذوات متضخّمة متورّمة، وقابلية للفساد والاستبداد، وأحزاب وحركات وهيئات غير ناضجة، وقيم أخلاقية غير مستقرّة وفضائل غائبة، و ولاءات تسدّ المنافذ أمام الكفاءات، ومكائد ومؤامرات ودسائس وانقلابات وانقسامات وانشقاقات فاق عددها كلّ عدّ وباتت محاصرها والحدّ من تأثيراتها المدمّرة مهمّة شبه مستحيلة، في ظلّ نظام سياسي استوحاه المشرّعون المؤسّسون من اسكندنافيا.
يبقى التحدّي الرابع والأخير الأعمق، إنّه "براديغم الطاعة"، ومفاهيم السلطة الّتي كرّسها الرئيس بن علي عن رئيس حكومة لا يخطب ووزراء لا يتكلّمون ونوّاب لا يعارضون، وتراث سلطاني استبدادي ينتج جميع الرذائل ويشجّع النّاس على أن لا تكون لهم مواقف أو يكون لهم أصدقاء.
لقد نجحت تونس لأنّ التونسيين نجحوا في كتابة "سيناريو تونسي"، ولأن بوصلتهم تتضمّن حسّا يعلّمهم التوافق ساعة الصفر ويحول دونهم وتخريب بلادهم بأيديهم، ولأن دولتهم الوطنية المستقلّة قد تأسّست على أيدي مستبدّ مستنير راهن على التعليم والمرأة فأفلح في صناعة مقدّمة للديمقراطية لم تتوفّر لدى غيرها من الدول الشقيقة، لكنّ الربيع قد يأت كلّ حين، مرّة أو مرتين، وقد تفلح أمّم في استدامة الديمقراطية، فيما تجعل أمم أخرى حياتها أشواطا وسعيا بين أولويات الخبز والحرّية، وحقوق الإنسان والديكتاتورية.&&&
&