كيف نتعامل القرآن؟

في القرآن آياتُ ترهيب وترغيب، وَعيدٌ وتبشير، قوانين عامة وأحكام خاصة، نصوص صريحة بالقتل، وأخرى للصلح والسلام، تكفيرٌ وقبول.. فكيف نتعامل مع القرآن وهو من أهمّ أُسس التشريع؟ كيف نتعامل، وهناك الكثير من الأحكام "القاسية" أو "الغريبة"، مسندوة لنصوص قرآنية واضحة؟

سأضرب مثلاً تشبيهياً وأبني عليه فكرتي في التقاط الأحكام من نصوص القرآن.

سأمثّل القرآن بالصيدلية ( Pharmacy )، وهي كما الحال، تحتوي على أنواع الأدوية والعلاجات التي يحتاجها المريض أو من يحس بوعكة، لكن هذه الأدوية تحتاج إلى مرشدٍ مختص للحصول والتعامل معها، وهي لا تؤخذ حسب المزاج أو دون استشارة مختص.

الخطأ في تناول الأدوية قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة في صحة الإنسان، وربما تؤدي إلى الموت، فكل دواء وبجرعة محددة، هو لعلاج مرض محدد، الإفراط في استعماله أو إهماله، لن يؤتي إلّا بتدهورٍ أكثر في الصحة.

وهناك حالات أخرى يجب الحذر منها، وهي أخذ الدواء الصحيح للمرض الصحيح، فالمصاب بإلتهابٍ في عضو ما في البدن، يجب أن يأخذ مضادات حيوية ( Antibiotic )، ولو أخذ أحد علاجات مرض السكري ( Mitformin ) مثلاً فلن يتعالج من الإلتهاب مهما زاد من جرعات الدواء الخطأ.

المعالجات الفقهية التي تستند على آيات قرآنية، لا تختلف كثيراً عن حالة الخطأ في تناول الأدوية، يجب على الفقيه أن ينسّق بين الحاجة الفكرية وبين الآية الحقّة، لا يأخذ بآيات قرآنية عالجت قضايا اندثرت من حركة التاريخ.

في الصيدلية، يجب أن تُدقق كل فترة صلاحية الأدوية، وتُجدّد بأخرى ذات صلاحية زمنية جديدة، وهذا لا يعني استبدال الدواء بآخر من جنس آخر، بل بجديد من نفس الجنس، لكن بصلاحية زمنية حديثة، ولو بقت كل تلك الأدوية على حالها دون تجديد، ستقتل مستهلكيها.

في القرآن، نحتاج إلى فهم جديد لما مطروح فيه، لاستنباط الحكم الشرعي، أما أن تبقى الأحكام وفق مفاهيم 1000 عام وأكثر، أكيد ستكون ضارة وتسبب كوارث.

نحن لا نطالب بإلغاء آياتٍ من القرآن، بل إلى جرأة في الفهم الذي نراه يخدم جيلنا ويساير حياتنا.

هناك أدوية تم سحبها ومنع إعادة انتاجها مرةً أخرى، مثل علاج (xVoix) ومادته العلمية (Roficoxib) الذي كان مسكّناً للآلام، لكن أكتشف بعد حين أنه يسبب الجلطات القلبية والدماغية، كذلك تم سحب علاج (Ridact) ومادته العلمية هي (Sibutramine) وهو منحّف فعال، لكن تبين انه يسبب الجلطات القلبية والدماغية، وغيرها من الحالات. لم يستحِ علماء الصيدلة من سحب منتجاتهم واعترافهم بخطئهم طالما كانوا يفكرون بصحة الإنسان.

علينا سحب الاستنباطات والأحكام الشرعية التي تسبب مشاكل للمجتمع، فإن كانت مفيدة في فترة زمنية وفق مقدرات وتفاصيل ذلك الزمن، فهذا لا يعني أن نتكابر ونصر على بقاءها من باب أنّ لها أصلاً في القرآن.

أغلب الأدوية يُكتب عليها ( يُحفظ بعيداً عن متناول الأطفال )، وهذه العبارة هي عبارة مؤدبة لمن أراد أن يقول ( يُحفظ بعيداً عن متناول الجاهلين ).

هناك حالات مرضية لا تحتاج الرواح إلى الصيدلية، فالكسور يعالجها مجبّر العظام، والبدانة تعالجها الرياضة والحمية، وهناك عالمٌ بأسره يسمّى بالعلاجات الطبيعية أو العلاج بالأعشاب دون الرجوع إلى حبة دواء واحدة من الصيدلية.

لِمَ كل هذا التمسك بآيات العقاب والصراع وتحويلها إلى أحكام؟ لِمَ كل هذا الإهمال لآيات الرحمة والانفتاح وعدم تحويلها إلى أحكام؟ لِمَ هذا الإصرار على الموروث الذي عرفنا كيف وصل إلينا وبأيّ طريقة؟

لَمْ يعد الزمن واقفاً ينتظرنا وهو يحلّق في ملكوت التطور والأبحاث والاستكشافات الكونية، علينا إداراك مَواطن الخلل، ونتدارك ذلك بفعل شيء يليق بنا كمجموعة بشرية مرهقة، تعيش جنباً إلى جنب مجموعات بشرية تعيش بسلام وأمنٍ واطمئنان.

(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) {سورة البقرة 185}، والآية (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) {سورة الزمر 53}، والآية (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) {سورة الأنفال 66}.. أليس الأولى ترجمة هذه الآيات وغيرها إلى نصوص شرعية؟ أو ليست نازلة من ربٍ غفورٍ رحيم؟ أو ليست جزءاً من القرآن الذي يؤمن به الفقيه القديم؟

كل هذه الآيات عبارة عن قوانين عامة، فمن استطاع الاتيان بالتكليفات المثقلة، فبها، وإلّا فإن رحمة (الله) تستوعب الإنسان المخلص العاجز (جاء إلى النبيّ (ص) شيخ كبير يدعم على عصا له، فقال : يا رسول (الله) إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال : " ألستَ تشهد أن لا إله إلا (الله)؟ " قال : بلى، وأشهد أنك رسول (الله). فقال : " قد غفر لك غدراتك وفجراتك ) {حديث متواتر}

هناك آيات قرآنية بصيغة الإطلاق، ويُترك تفسيرها إلى المزاج العقلائي العام للمجتمع متعلقةً بزمانها ومكانها، مثال على ذلك (إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان) {سورة النحل 90}، فالعدل مفهومٌ عام، وهو يختلف من مكان وزمان عن مكان وزمان آخرين، كذلك الآية (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) {الأعراف 715}، فمفهوم الطيب والخبيث يختلف من زمان ومكان إلى آخرين، مثال على ذلك، بول البعير وأكل الجراد كان مستساغاً في زمن ما، أما اليوم فهو مقزز وخلاف الذوق العام، وأكل الضفادع والحشرات هو من الطيبات في بعض الدول، بينما هو خبيث ومقزز في دولٍ أخرى.

نحن نرى في الفقه المعاصر أن ترجمة آيات الرحمة إلى أحكام، ستسهّل حركة الإنسان وتسهّل حياته (دون المساس في السيرة الأخلاقية والعقلائية للمجتمع) وهو واجبٌ علينا.

في القرآن، قوانين جزئية وقوانين كلية، ونحن نرى في الفقه المعاصر، أن القوانين الجزئية تُعرض على القوانين الكلية، فإن وافقتها مشت، وإن لم توافقها تُترك.

كل حركات وتفاصيل الكون والحياة تتطور، كل المفاهيم، النظريات، حتى الأمراض، تتطور وتحمي نفسها من الأدوية والعلاجات القديمة، ولا أدري لِمَ كل هذا العناد بالتمسك بالموروث واستنساخه جيلاً بعد جيل وطرحه على أساس مواكبة العصر؟

بعد 200 أو 300 عام أو أكثر، ربما تتحول الحياة إلى الجزء العلوي من الأرض في استغلالٍ لهذا الفضاء، وربما يتم استبدال أو الاستغناء عن تفاصيل السكن الحالية وحركة العربات ونوع الغذاء البشري، بأخرى لا نعلمها، نحن الغارقون في تخوم الماضي، فهل أعدنا العدّة لتلك الأيام القادمة؟

فاضل عباس