بين (الله) والإنسان
بعيداً عن حشو الكلام وسفسطة المعاني، حول مفهوم (الله) وبدء الخلق وتأسيس الحياة من قبل الإنسان، فإننا نريد توضيح هذه العلاقة. فـ(الله) جل جلاله، خَلق الخلق ليُعرف، ولولا هذا الخلق لما عُرف ولا عُبد ولا تأسست هذه العلاقة بين المنظومة البشرية وبينه، والإشكال التاريخي المطروح هو ماهيّة هذه العلاقة؟ وما قيمة الإنسان؟
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ){سورة البقرة الآية 30}. فما هي استحقاقات هذا الخليفة، وما هي واجباته؟
لتوضيح ذلك، سأضرب المثال التالي.. لو أن رجلاً صاحب ثروة مالية وعقلية علمية قرّر ذات فكرة، أن يخرج للمجتمع ويعرّف عن نفسه وقدراته، فأسس معملاً لإنتاج السيارات، فوضع دراسة كاملة وقام بتوفير كافة المستلزمات المادية لإنجاح المشروع، وبنفس الوقت استقدم موظفين وعمال وإداريين لديمومة هذا المشروع، وشرع بالعمل.
الهدف الأول من هذا المشروع هو تعريف المجتمع بقدرته المالية والعقلية على النجاح، وذلك بإنتاج بضاعة جيدة توفر الراحة لمستخدميها.
ليس مهم عنده أن أحد موظفيه كان لا يعتقد أو لا يحترم خصوصيات صاحب العمل وتفاصيل حياته الخاصة، ولا يهمه خلفية الموظف العرقية أو الدينية أوالفكرية، فالمهم هو إنجاح المشروع، وعدم الاعتقاد بأفكاره وسياسته وخطته في العمل لا تعني أن يقوم بتصفية الموظف جسدياً! أو إنزال عقوبة شديدة به، لطالما هو يحترم حدوده المهنية ويؤدي ساعات عمله بإخلاص لإنجاح المشروع وفق الخطة الموضوعة.
الذين سوف يحاسبهم صاحب المشروع، هم الذين يسعون في خراب المشروع، وإن كانوا من المتملقين أو المتلونين بزيف الولاء له، سوف يحاسب من يشوش على العمل وعلى العمال، ومن يأخذ دور صاحب المشروع في بعض أقسام المشروع، ليعطي أوامر من عندياته دون أن تكون له وكالة أو تصريح بذلك من صاحب المشروع، والحال، أنه لو كانت أوامر الموظف ستخدم المشروع سيتغاضى عنها المدير، بل سيكرّمه.
الذين يحاولون إرضاء صاحب المشروع خارج دائرة العمل وساعات العمل، هم ليسوا بأقرب إلى رضا المدير من الذين يسعون في دائرة العمل وساعات العمل لإنجاح العمل.
صاحب المشروع لا يريد خططاً لسفرات استجمامه، أو دراسات حول صحته أو تفاصيل حركته خارج المشروع، لأنه صاحب ثروة وعقل ويعرف كيف يداري ويدلل نفسه، ولسان حاله يقول للمتقولين باسمه..
&إرجعوا إلى المشروع وأنجحوه، فطالما هو باقٍ فأنا معرّف بصاحب المشروع، أوجدوا خططاً لراحة الكادر العامل واعملوا على حلّ مشاكلهم، ليزيد الإنتاج ويستمر المشروع.
الحياة، بكل بساطة، مشروع إلهي، وصاحب هذا المشروع موجود في ضمير كل من يسعى لإنجاحه.
بنا عُرف (الله)، فكيف يسعى حاشاه لتعبنا وتعقيد تفاصيل حياتنا؟ أيّ جورٍ وتجاوزٍ هذا على من يوصف بأنه ( أحنّ على البشر من الأمّ برضيعها )؟ وفي الحديث ( الخلق كلّهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله ).
&
وقول أبي العتاهية :
ولم يستغل محمدةً بمالٍ... ولو كانت تحيط بكلِّ ماله
عيال الله أكرمهم عليه... أبثُّهم المكارم في عياله
في الفقه التقليدي القديم، كان (الله) هو محور الحياة والكون، وصيغت أغلب الأحكام لنيل رضاه باعتقاد الفقهاء، بغض النظر عن كون تلك الأحكام ترهق الإنسان، أو تعيق حركته الحياتية، فأدى ذلك إلى عسر طريق الإنسان. وصار تحقيق رضا (الله) وفق ما يراه الفقيه، هو أساس خطوات الإنسان، وحينها، تجلّى الإنفصام بأقسى صوره، حين انسحب الضمير واستقدمت المنفعة وحب الذات، فاستُنسخت صورة (الله)، وضعت تارةً في صورة الحاكم، وأخرى بصورة الفقيه نفسه، وأخرى بصورة المستفيد الذي يدفع أكثر، وتحوّل رضا (الله) إلى رضا الحاكم أو الفقيه أو المستفيد.
في كل ذلك، غاب الإنسان عن سطور الفقه القديم، ولم تكن أمامه حيلةٌ من الأحكام القاسية والمعرقلة إلّا الهروب والتملص منها تارةً، أو ترك تطبيقها بسبب عجزه عن أداءها تارةً أخرى، وفي كل هذا، تشوش مفهوم رضا (الله)، وأصبح غايةً لا تُدرك، وتشوهت معالم مشروع الحياة، وكثر الناطقون باسم (الله) وبعناوين كثيرة ومثيرة.
استفحل الخلل وتشوهت البنية الأخلاقية التحتية للمجتمع، ولم تكن حركات التطرف التي ظهرت عبر التاريخ إلّا كناتج من مفهوم عدم الوصول إلى رضا (الله) بطريقة عيشٍ سهلة، وأختير الموت ( قتل الآخر أو الإنتحار لقتل الآخر ) كأسهل وأقصر طريق لرضاه وفق ما رآه بعض الفقهاء المتشددين، بعيداً عن تعقيدات طرق الفقيه التقليدي التي يذكّرك بين مسألة وأخرى بأنك مذنبٌ ومقصرٌ وستحلّ سعيرا.
والحال، هو ليس كذلك، فنحن نرى في الفقه المعاصر، أن الإنسان هو محور الحياة، و(الله) هو محور الكون، ولطالما الإنسان هو سيد الأرض، فهو الحقيقة المقدسة الأولى عليها، ويجب تشريع كافة الأحكام والنظم التي تسهل حياته وتديم بقاءه، بسلام ورخاء وسعادة، ويتحقق رضا (الله) بتحقيق سعادة الإنسان، بغض النظر عن دينه ومعتقده على الأرض، ولن نكون يوماً ناطقين باسم (الله) جل جلاله، بل ناطقين باسم ضمير الإنسان المتعب، ساعين لراحته وديمومة حياته.. فالسعادة، صناعة بشرية وليست منحة إلهية.
يتبع
التعليقات