إن وجود العراق في هذه المنطقة الحساسة يعد في حد ذاته معضلة فهو معرض للعبة فرض النفوذ الإقليمي والدولي عليه منذ عقود طويلة، وتتجاذبه قوى لا تريد له الخير والسلام والاستقرار وتتمثل بإيران وتركيا والسعودية ومعها بعض دول الخليج من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى. إلى جانب الفسيفساء الإثني والطائفي والقومي المتعدد في نسيجه الاجتماعي الذي قد يشكل ثراءاً له، لو توفرت ظروف ملائمة كشيوع الشعور الوطني والانتماء للوطن قبل القومية والمذهب وانتشار روح المواطنة، أو على العكس، قد يشكل نقطة ضعف تنخره من الداخل. فالأكراد في شمال العراق يأملون بالحصول على استقلالهم وتأسيس دولتهم المستقلة وهذا من حقهم حسب مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهناك التجاذب والتقاطع السني الشيعي الموجود كحقيقة اجتماعية ومذهبية على مر العصور شئنا ذلك أم أبينا. وهو الأمر الذي أعطى ذريعة للقوى الإقليمية المتصارعة على النفوذ في المنطقة، وعلى رأسها إيران وتركيا والسعودية، لطرح نفسها حامية وممثلة لهذا المكون أو ذاك من مكونات المجتمع العراقي. وهذه المعادلة الجيوستراتيجة والجيو سياسية موجودة دائماً في كل مراحل التاريخ السياسي المعاصر للعراق، ولكن بدرجات متفاوتة. فماتزال لتركيا أطماع معلنة أو غير معلنة باسترجاع إقليم الموصل، أي المحافظات الشمالية، الذي اقتطعته منها اتفاقية سايكس بيكو في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفي عهد السلطان العثماني الجديد أردوغان، باتت هذه الطموحات واضحة، تجسدت بالتدخلات التركية في الشأن العراقي الداخلي وتوغل القوات التركية داخل القوات العراقية منتهكة القوانين والأعراف الدولية، بذريعة محاربة التشكيلات الكردية التركية المسلحة المنضمة لحزب العمال الكردستاني الكردي الذي يحارب الهيمنة التركية على مقدرات الشعب الكردي في تركيا. أما إيران فلا يخفى على أحد دورها ومطامعها في العراق سواء قبل أو بعد الثورة الإسلامية في إيران. وهي اليوم موجود وبقوة ومتغلغلة في كل ثنايا المجتمع العراقي ومؤسساته الرسمية والمجتمعية والتربوية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وتتمثل امتدادات إيران بقوى مسلحة عراقية غير القوات النظامية، مجهزة وممولة ومدربة من قبل إيران وتتخذ مسميات مختلفة، ومنها جزء لابأس به من الحشد الشعبي وليس كله، إذ يوجد قسم يعرف باسم حشد المرجعية الذي هو الأصل والذي تأسس بعد صدور فتوى المرجعية الدينية الشيعية في النجف لحماية المدن المقدسة العراقية من تهديد ودنس تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي داعش الذي كان يقف على أبواب العاصمة العراقية بغداد، بعد احتلاله للموصل والأنبار وغيرها من المدن العراقية المهمة في المنطقة الغربية والشمالية ذات الأغلبية السنية والكوردية. هذا الواقع العراقي المعقد لا تجهله الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد الصراع والتنافس مع الاتحاد السوفياتي السابق إبان الحرب العالمية الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي حيث كان العراق دائما منطقة صراع وتنافس لفرض النفوذ ولقد نجحت الكتلة السوفياتية لبرهة من الوقت أن تستقطب العراق ولو شكليا إلى جانبها في حين كان النظام العراقي البعثي يذبح الشيوعيين ويقمعهم أسوة بباقي الشعب العراقي الذي لم يكن مطواعاً للسلطة البعثية الفاشية. نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إحداث إختراق في العراق وإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينها وبين العراق منذ عقود وذلك إبان الحرب العراقية الإيرانية المدمرة التي استنزفت البلدين ووضعتهما تحت رحمة واشنطن واعتمادهما عليها لأنها المهيمنة على عالم المال والاقتصاد والتقنية أو التكنولوجيا والمسيرة للغرب برمته لا سيما في مجال مشتريات السلاح المتطور وقطع الغيار والذخيرة الضرورية للحروب. كانت إيران الشاه في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها الاستراتيجية في المنطقة وكانت تسمى شرطي الخليج لكنها تمكنت من الإفلات من الهيمنة الأمريكية نسبياً بعد الثورة الإسلامية عام 1979، أما العراق فقد خدع ولم يفهم حقيقة الاستراتيجية الأمريكية تجاهه لا سيما في خدعة احتلال الكويت وهي خطة رسمتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 1973 وصاغها والد الجنرال شفوارتزكوف الذي قاد حرب تحرير الكويت ضد العراق واسمها في الوثيقة التي نشرها الكاتب الاستراتيجي الفرنسي آلان جوكس في كتابه أمريكا المرتزقة، غزو العراق للكويت، ما يعني أن أمريكا تعرف مسبقاً بما يفكر فيه حاكم العراق الغبي صدام حسين وتقرأ ما في رأسه بل وتتلاعب به وتسيره كما تشاء كالماريونيت. وبعد هزيمة نظام صدام حسين في الكويت ارتأت الولايات المتحدة إبقائه في الحكم لفترة إضافية لكي يقمع انتفاضة الشعب على نظامه وسمحت له باستخدام السلاح الثقيل والطيران والهليكوبترات مما مكنه من سحق الانتفاضة الشعبانية بالحديد والدم وبعشرات الألاف من من القتلى والمفقودين والمهجرين والمشردين والإعدامات الجماعية والقبور الجماعية التي اكتشفت بعد سقوطه سنة 2003. ومن ثم فرضت أمريكا ومعها العالم برمته تقريباً حصاراً جائراً ومدمراً على الشعب العراقي لكنه لم يمس النظام العراقي بشيء طيلة إثني عشر عاماً مما دمر البنى التحتية وأفقر الشعب وجعله مجموعة من الجياع والمحتاجين لكل شيء لاسيما افتقاد الشعب للطعام والملبس وضروريات الحياة البسيطة. ومن ثم جاءت المرحلة التالية في زمن جورج بوش الإبن الذي قرر استكمال مهمة والده جورج بوش الأب غير المكتملة في تدمير العراق كلياً فشن حربه سنة 2003 بحجة البحث عن أسلحة التدمير الشامل التي يخفيها النظام العراقي المقبور وتهدد الأمن العالمي، وهو يعرف يقيناً بأن لا وجود لهذه الأسلحة لأنه فرق التفتيش الدولي دمرتها كلياً قبل أعوام. غزت أمريكا العراق ودمرت كل شيء، النظام والدولة ومؤسساتها، وأوجدت فراغاً خطيراً في السلطة، ولم تفكر بعواقب وتبعات مابعد إسقاط نظام صدام حسين فجاءت بدمى مجهولة من قبل الشعب العراقي كانوا في المعارضة يعيشون في المنافي وسلمتهم السلطة شكلياً وكانت هي التي تدير كل شيء بطريقة التجريب لأنها لاتعرف واقع وحقيقة العراق وإشكالاته الداخلية السكانية والمذهبية والإثنية والقومية والدينية ففيه العرب والكورد، المسلمين والمسيحيين، الشيعة والسنة، والأقليات الأخرى كالشبك والأزيديين والتركمان والكلدو آشوريين الخ.. ومن تبعات هذا الفراغ الأمني والسياسي والسلطوي تدفق عشرات الألاف من الإرهابيين الإسلاميين التكفيريين من أمثال القاعدة وداعش وغيرها لتعيث بالعراق فساداً ودماراً وتشيع الخوف والهلع والإرهاب والقتل والذبح المتوحش للأفراد والجماعات التي لا تتفق مع الأيديولوجية التكفيرية المتشددة والقراءة التكفيرية الخطيرة للنصوص الإسلامية وتفسيرها أو تأويلها وفق مفاهيمهم، وآخر المطاف تتوج بسقوط ثلثي أراضي العراق بيد التنظيم الإرهابي الإسلامي الأخطر والأكثر وحشية وقساوة وهو تنظيم داعش الذي أعلن من الموصل المحتلة تأسيس دولة الخلافة الإسلامية وعلى رأسها أبو بكر البغدادي كخليفة للمسلمين الذي نصب نفسه بالقوة والترهيب، كما تحتل دولته الإسلامية ثلثي ألأراضي السورية لا سيما عاصمة دولة الخلافة الثانية، الرقة، ووضع العالم أمام الأمر الواقع، استلم الرئيس الأمريكي أوباما ملف العراق بكل تعقيداته ولم يوليه الأهمية اللازمة مما فاقم الأزمة وأدخل العراق في متاهة مظلمة، بيد أن اشتداد عود الدولة الإسلامية داعش وتهديداتها للغرب وارتكابها عمليات إرهابية في العمق المجتمعي لدول الغرب في فرنسا وبريطانيا واسبانيا وإيطاليا وأمريكا دفع الغرب لتشكيل التحالف الدولي لسحق داعش عسكريا لكن ذلك لايعني دحرها سياسياً وآيديولوجياً. فمعركة تحرير الموصل الجارية حالياً ستكون مهمة جداً وفاتحة لتحولات جوهرية في الملف العراقي إقليمياً ودولياً وعراقياً فمعركة استعادة مدينة الموصل من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، التي أطلقتها الحكومة العراقية في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، تشكل تحديًا سياسيًا، ليس لقدرة رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، على تعزيز قيادته في ظل تحدياتٍ عديدة يواجهها فحسب، بل للرئيس الأميركي، باراك أوباما، أيضًا الذي يسعى إلى محو "آثار هزيمة" الموصل التي سقطت في يد التنظيم في أثناء رئاسته، ما يفسر الإعلان عن انطلاق العمليات العسكرية لاستعادة المدينة قبل ثلاثة أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولهذا الغرض قامت الولايات المتحدة ومعها التحالف الدولي بتعزيز قدراتهم العسكرية استعدادً لهذه المعركة الفاصلة المضمونة النتائج والنصر المؤكد مسبقاً، لكن الإشكال الحالي يتعلق بما بعد تحرير الموصل. قامت قوات التحالف الدولي، أمريكا وفرنسا على نحو خاص، بإرسال مزيد من المعدات العسكرية والمستشارين العسكريين، وضمات جاهزية القوات العراقية الحكومية وقوات البشمركة الكردية، غير أن استعادة المدينة، وطرد تنظيم الدولة منها، قد لا يكون الجزء الأصعب في العملية التي يشارك فيها عشرات الآلاف من الجنود، ذلك أن الأجندات المتعارضة لأعضاء التحالف في الحرب ضد التنظيم، وحساسية التركيبة الديموغرافية لمدينة الموصل، تنذر بحصول مشكلات كبرى، فالموصل مدينة ذات أغلبية عربية سنية مع وجود تاريخي للمسيحيين وأقليات شيعية وتركمانية وأيزيدية فيها، وفي إقليم نينوى بشكل عام. وإضافة إلى القوات العراقية التي تشارك في المعركة، هناك قوى تعلن أن هويتها السياسية شيعية وكردية، وهو ما يثير مخاوف من إمكانية حدوث توتراتٍ طائفيةٍ وإثنيةٍ وتغييرات ديموغرافية في ثاني أكبر المدن العراقية في مرحلة ما بعد طرد التنظيم منها. ويربك هذا الأمر بشدة الخطط الأميركية لاستعادة المدينة، في ظل غياب أي ترتيباتٍ سياسيةٍ لمرحلة ما بعد استعادتها. أما القوى العربية السنية المشاركة في المعركة، فهي في أغلبيتها قوى محلية مثل الحشد الوطني السني بدعم تركي وتضم في داخلها عناصر عراقية كانت منتمية لداعش وتقود المدينة لكنها، مع قرب معركة التحرير، انشقت عن التنظيم وانضمت إلى تشكيلات الحشد الوطني السنية بتمويل وقيادة أثيل النجيفي وبإشراف وتدريب وتسليح تركي مباشر. يعترف المسؤولون الأمريكيون أن المعضلة الأساسية التي تقف أمامهم هي غياب الخطة وانعدام وجود الترتيبات والتفاهمات السياسية اللازمة لإدراة المدينة بعد تحريرها من قبضة داعش لأنهم لا يرغبون في تكرار غلطة مابعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003. الولايات المتحدة والعراق وقوات التحالف الدولي والبيشمركة الكردية واثقون تماماً من إحراز النصر مما سيعزز مصداقية الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط وفي العراق وسوريا على نحو أخص، وهي الاستراتيجية القائمة على مبدأ عدم التورط والتدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة حسب مبدأ وتوجهات أوباما وتتلخص بتدريب وتسليح وتوجيه وتقديم المشورة للقوات المحلية التي تقود بنفسها المعارك لتحرير مدنها من سيطرة داعش وتوفير الغطاء الجوي اللازم لذلك مع الدعم اللوجستي والاستشاري والمخابراتي المهم للمعارك البرية وخاصة حرب المدن المأهولة بالسكان والمدنيين الذين يستخدمون كدروع بشرية من قبل داعش. هناك مجموعة من القوات الخاصة الأمريكية المحدودة العدد مع عدد من الخبراء التي تعمل في صفوف القوات العراقية والكردية التي تحارب تنظيم داعش في الموصل فهم ينسقون ويوجهون الضربات الجوية لطائرات التحالف الدولي على نحو يضمن دقة الضربات وفعاليتها واصابتها للمواقع المستهدفة ومساعد القوات الزاحفة على التخلص من الألغام التي زرعتها داعش في كل المناطق والطرق المؤدية إلى قلب مدينة الموصل لعرقلة تقدم القوات العراقية النظامية والقوات الكردية والحشد الشعبي المتربصة بعناصر داعش المسلحة الباقية في المدينة. إن ما يثير قلق المجموعة الدولية، التي تناهت لتنظيم مؤتمرات في باريس لمناقشة قضية الموصل بعد التحرير، يتمثل برغبة بعض الأطراف بخلق المزيد من الأقاليم المنفصلة عن سلطة المركز في العراق على غرار إقليم كوردستان الذي لم يخف رغبته في ضم المناطق المختلف أو المتنازع عليها مع المركز وعلى رأسها كركوك. وكذلك الخشية من تجاوزات الحشد الشعبي المدعوم من إيران في القيام بتغيير المعادلات الديموغرافية على الأرض ولقد حدث هذا في عدد من المدن والقرى التي حررتها قوات الحشد الشعبي من احتلال داعش كما حصل في ديالى وتكريت سنة 2015 لذلك قررت الولايات المتحدة منع الحشد الشعبي وقوات البيشمركة من الدخول إلى قلب ومركز مدينة الموصل ولكن لا توجد ضمانات في التقيد بهذا القرار. تحرير الموصل لايعني نهاية المآسي والمشاكل في العراق، فالبلد ضحية للتصعيد والصراع الطائفي من قبل بعض الأطراف التي تسعى لذلك لتحقيق مكاسب شخصية. إلى ذلك هناك مخاوف جدية من إتخاذ إقليم كوردستان لقراره التاريخي المنتظر منذ سنوات طويلة بالإنفصال الحقيقي والواقعي عن العراق وطلب الاستقلال الناجز وتأسيس دولة كردستان المستقلة بعد توسيع حدودها الحالية والسيطرة على مناطق تحررها قوات البيشمركة الكوردية. ولو تحقق ذلك فسوف تطالب جهات سنية بإقليم مستقل للموصل وآخر للأنبار وغيرها في المنطقة الوسطى والغربية من العراق، وبالطبع سوف يشجع ذلك الشيعة على إعلان إقليم البصرة والناصرية والعمارة أو إقليم الجنوب والوسط والذي ربما سيضم محافظتي بابل والديوانية. لا يجب أن ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة أوباما بشكل خاص، تعتبر أن صعود سلطة الأحزاب الشيعية السياسية وسيطرتها على الحكم هو الذي قاد إلى ظهور نشاط القوى الإسلامية السنية المتطرفة والمتشددة التكفيرية كالقاعدة وداعش في العراق، لذلك قامت بإطاحة رئيس لوزراء السابق نوري المالكي واعتبرته المسؤول عن تفاقم الاستقطاب الطائفي في العراق واعتبرت تخليه عن الحكم شرطاً أساسياً لتقديم الدعم العسكري لبغداد لمحاربة داعش وتحرير المدن التي تسيطر عليها كالأنبار وتكريت وديالى والموصل لكن أمريكا تكرر نفس الأخطاء في كل مرة فهي لم تضع لحد الآن خطة متقنة وناجعة لمرحلة مابعد استئصال داعش في العراق وهزيمته عسكرياً.
منطقة المرفقات
- آخر تحديث :
التعليقات