كنا صغاراً وكانت معنا فلسطين، نُنشِد لها في ساحات المدارس أناشيد العودة والأمل (فلسطينُ داري ودربُ انتصاري، تظل بلادي هوىً في فؤادي)، ونحفظ ونرفع أعلامَها في قلوبنا وعلى الساريات والجدران، ونرسم بالألوان أشجار الزيتون والبرتقال، وحارات القدس والخليل وعكا والناصرة وبيسان ويافا، وتعلَّمنا من أهلنا ودولنا وقبائلنا وشعائرنا أن نُقبِّل جباه فلسطين، ونضمها في حدقات العيون.
كانت فلسطين تسير في شرايينا، وتنبض مع دقات القلوب، وتحتمي تحت جلود أجسادنا. كنا نحملها على الأكتاف حناناً، ونقطف لها الياسمين من حدائقنا المزهرة بحبها. وعندما تطلب نجدتَنا تجد الملايين ترسم خريطتها في شوارع المدن العربية. كان معلم الوطنية يقول لنا: إن العز يرقد في فلسطين، وفي باحات الأقصى، وأنها في القلب دوماً وليس يوماً.
كبرنا، وياليتنا ما كبرنا، لأننا رأينا فلسطين تئن عذاباً أكثر من نكبتها الأولى، ويُسال دمها أنهاراً، ويُذبح أطفالها في الطرقات ليلاً ونهارا، وتكبر نكباتها طُولاً وعرضاً، وتُهدم بيوتها على رؤوس ساكنيها بالصواريخ (الذكية). واكتشفنا بأننا خُدِعنا بأكاذيب النصر، وحكايات (ألف كذبة وكذبة) عن التحرير والجهاد التي رُفعت فوق ساريات الأوطان، ومباني الرؤساء، وقاعات ضجيج الشعر والهتاف والهوسات وأناشيد العودة. ياليتهم ما علَّمونا الكذب، وخدعونا بأننا (أمةٌ واحدة) نعيش في بيت العروبة!
بعد سنين، صارت فلسطين حكايةً قديمة، لا تُذكَر حتى في نشرات الأخبار، وإذا ذكرت، فهي شاحبة في الفعل، فلا فيروز تقرع أجراسَها، ولا الناس المشغولة برغيف الخبز تتذكرها إلا عندما يُسال دم أبنائها، ويصرخ أطفالها احتجاجاً على صمتنا وبلاهتنا، وجفاف مشاعرنا. اكتشفنا أننا نعيش عصر القلوب الميتة، والضمائر الناقصة شهامةً ورجولة. ورأينا العملاء بيننا يصنعون نصرهم بدماء الشهداء، ويبيعون لنا (شكولاتة الجهاد) من الفنادق العربية!
صرنا قضية، بعد أن كانت فلسطين قضيتنا، فصرنا نكبةً عليها، ووجعاً مستمراً في جسدها، وأكبرَ همٍّ في حياتها. كانت تنتظر قدومنا لكي تفتخر بنا، وتتفاخر بأمجادنا وصولاتنا! انتظرتنا على الحدود والمعابر طويلاً؛ لكنها لم تجد إلا صوتنا الخافت، ورجولتنا الناقصة، وشعاراتنا الخجولة، ومؤتمراتنا الهزيلة، وبياناتها الخائفة. صارت بطولات عنترة من الماضي، ومناجاة المعتصم حبراً في كتب التاريخ!
صار السؤال عن فلسطين غائباً في الضمائر الصمَّاء في الليلة الظلماء، وعطرنا اليومي هو النفاق والخيانة؛ فلا يهزنا منظر طفل مُضرّج بالدماء يبحث عن والديه بين الأنقاض، لم تبق له عَبرة، وليس بعد الدمع إلا الدم، وهناك شيخ كبير يصرخ بوجهنا (وين العرب وين)، ومُسنَّة حكيمة تعاتبنا: لا نريد الطعام والدواء؛ فنحن نبحث عن أرضنا وكرامتنا.
أما نحن، فنأكل على مناظر الدماء، ونتسامر مع كوارث القتل وهدم البيوت والمستشفيات. ما عاد الدم يُقزِّز النفوس؛ فالغصة خجولة، والدموع معلبة بقوالب الثلج. فنحن أبناء الصراخ والتمجيد والشعر والثوريات الخائبة، مشغولون بالحصول على رغيف خبزنا المغموس بالذل والمهانة!، ورفع شارة النصر لحاكمنا المبجَّل، واستئذانه لنصرة إخوتنا.
اكتشفنا إن بلاد (الكفر) أكثر إسلاما منا؛ في وقوفهم ضد طوفان الدم الفلسطيني، وأننا حاليا لم نكن خير أمة أخرجت للناس، ولسنا الوحيدين في الجنة إن كنا نستحقها، وستصدق أن الإنسانية لا تختصر في دين ومذهب وقومية. لم تهز مشاعرنا الجامدة، نحن أبناء (الإيمان والعقيدة والفتوى) صيحات غضب (الكافرين) ضد مجاز الموت وهي تطوف شوارع اوربا. ما أقصاه من سؤال عندما تسال أمة تغط في نوم عميق.
ما عادت دواوين الشعر والقصص والروايات وبحوث العلماء تعني العرب وتشغلهم أكثر من هزة راقصة، وأغنية مبتذلة الكلمات والصور، ووجه فنانة قبيحة أعاد لها صناعة (البوتكس) و(الفلر) جمالها المزيف. صرنا من عشاق مواسم الرقص والغناء والنارجيلة والخرافات والبلاوي السوداء، والكبسة والمنسف والمسقوف والكشري والتبولة والكسكسي، وخزعبلات المنجمين والمحللين، وتفاهات التواصل الاجتماعي!
لم تشغلنا قضايا الأمة، لا في مقدمتها ولا في مؤخرتها، بل صارت قضيتنا دلع نانسي عجرم، وقصص العشق التركية، ومؤخرة هيفاء وهبي التي أصبحت اهم من مقدمة ابن خلدون وشعر المتنبي!
معذرة فلسطين؛ فإن الفحولة العربية قد أصبحت من الأرشيف العربي القديم، والرجولة في دواوين الشعر القديم. صارت كروشنا العربية المتدلية متراميةَ الأطراف، وشوارب الرجال ما عادت عربية، ولا تدل على البطولة، فقد أصبحت ديكوراً هندسيّاً بليدة المعنى وليست من صفات الشهامة والقوة، ولا عنوان الفحولة!!.
ذهبت شنبات الشجاعة التي كان يقف عليها الصقر، كما في تشبيه العرب. لم تعد لدينا شنبات ترف لبكاء طفلٍ فلسطيني يتيم الأبويْن، ولا لصراخ أمٍّ فلسطينية تطلب نجدتنا. ليس لدينا اليوم سوى التفاخر بالشنب الفلسطيني، فقد حلقت الشنبات العربية، وذهب معها آخر معاقل زعامة الرجولة!
عندما كنا صغاراً، علمونا ألا نحزن، وألا نذرفَ الدموع، لأن فلسطين سترجع ولو بعد حين، فحملنا معها الهَمَّ أحمالاً ثقيلة. وعندما كبرنا رأينا أن الأمة تائهة بين الأقوام، وأتعسها حالاً، وأن (الأموات هم الأحياء، وأن الناس فوق الأرض قد ماتوا) كما يقول محمود درويش.
علمونا أن فلسطين (نكبة العرب)، فاكتشفنا أن العرب هم (نكبة فلسطين)، وأننا عارٌ على العروبة.
التعليقات