في حلكة الليل، حيث يتسلل الصمت بين ثنايا الوقت، وتتلألأ النجوم في السماء السوداء كأنها قصائد ضوئية مكتوبة على صفحات الكون، تبدأ رحلة استثنائية نحو عالم مليء بالأسرار والإمكانيات اللامتناهية؛ هذه الرحلة ليست عبر الفضاء أو الزمان، بل عبر ممرات التنجيم، ذلك الفن القديم الذي تداخل مع تاريخ البشرية، متأرجحاً بين العلم والفلسفة، بين الإيمان والشك، وبين الواقع والأسطورة.

تخيل أن تقف على أطلال بابل العظيمة، حيث كان الكهنة يراقبون السماء ليلاً بحثاً عن إشارات الآلهة، أو أن تجوب شوارع الإسكندرية القديمة، حيث التقى حكماء اليونان بعلماء مصر ليناقشوا أسرار الكواكب! تنقل بين قصور الرينيسانس، حيث كان الملوك والأمراء يعتمدون على المنجمين لتوجيه مصائر الأمم، واستكشف الأكواخ الخشبية في قرى أوروبا العتيقة، حيث كانت النجوم توجه البسطاء في حياتهم اليومية.

التنجيم، بما يحمله من غموض وجاذبية، لم يكن مجرد وسيلة للتنبؤ بالمستقبل، بل كان مرآة تعكس كيفية تفاعل الإنسان مع العالم من حوله، وكيف سعى جاهداً لفهم القوى الكبرى التي تحكم الكون...، فمن خلال إطلالتنا على تقنيات التنجيم وعلاقتها بالثقافة والتاريخ، نبحر في رحلة عبر الزمان والمكان، لنكتشف كيف استخدمت الحضارات عبر التاريخ النجوم للتنبؤ بالمستقبل، اتخاذ القرارات السياسية، وتأثيرها على الأحداث الكبرى.


التنجيم كان يشكل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي والروحي للحضارات القديمة

على مر العصور، كان التنجيم يشكل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي والروحي للعديد من الحضارات حول العالم. هذا الفن القديم، الذي يدرس مواقع وحركات الأجرام السماوية لتفسير وتنبؤ الأحداث على الأرض، لم يكن مجرد وسيلة للتنبؤ بالمستقبل، بل كان يمثل جسراً بين الإنسان والكون، مما يعكس البحث الأبدي عن المعنى والنظام في العالم المحيط.

البدايات القديمة والحضارات الأولى
في بابل القديمة، تطورت إحدى أقدم وأكثر أشكال التنجيم تعقيداً، حيث استخدم الكهنة مواقع النجوم والكواكب لتفسير الإرادة الإلهية والتنبؤ بالمستقبل؛ كانت النصوص الفلكية التي خلفوها تشهد على مستوى معرفتهم العميق بالسماء، مؤسسين بذلك لتقاليد تنجيمية معقدة تركت كإرث للحضارات اللاحقة.

وفي مصر الفرعونية، ارتبط التنجيم ارتباطًا وثيقاً بالديانة والممارسات الطقوسية، حيث كانت حركة النجوم والكواكب تستخدم لتحديد مواعيد الأعياد الدينية وتخطيط الأهرامات والمعابد بطريقة تتوافق مع السماء.

العصور الوسطى والنهضة: عصر الازدهار
في أوروبا، بلغ التنجيم ذروته خلال العصور الوسطى والنهضة، حيث اعتبره العلماء علماً من العلوم كالطب والفلسفة، فقد كان ينظر إليه كوسيلة لفهم العالم الطبيعي والإنساني على حد سواء؛ الملوك والباباوات والقادة السياسيون كانوا يستشيرون المنجمين لاتخاذ القرارات السياسية والعسكرية، مما يدل على الثقة العميقة في هذا العلم.

التنجيم في الشرق: الصين والهند
في الصين، تطور التنجيم بشكل مواز ومستقل، مع تركيز قوي على الأبراج الصينية وتأثيرها على مصير الإنسان والأحداث الوطنية, وكانت الحسابات الفلكية اساسيات معتمدة لتخطيط المدن وبناء القصور، في محاولة لتحقيق الانسجام مع الطاقات الكونية.

في الهند، أنتج التنجيم الفيدي - جيوتيش، نظاماً تنجيمياً فريداً يعتقد أنه يعود إلى آلاف السنين، يستخدم هذا النظام حتى يومنا هذا في تحديد الأوقات المواتية لبدء المشاريع الجديدة، الزواج، وغيرها من القرارات المهمة في الحياة.

التنجيم في العصر الحديث
بالرغم من التحولات العلمية والفلسفية التي شهدها العالم، لا يزال التنجيم يحظى بشعبية واسعة في العديد من أنحاء العالم، ففي العصر الحديث، تم استخدامه في الترفيه والإرشاد الشخصي، بالإضافة إلى الاستمرار في لعب دور في القرارات الهامة لبعض الأفراد والمجتمعات.

ماهي اهم القرارات السياسية التي تم اتخاذها عبر التنجيم في التاريخ؟!

عبر التاريخ، لعب التنجيم دوراً مهماً في اتخاذ القرارات السياسية في مختلف الثقافات حول العالم، وبالرغم من أنَّ الكثير من هذه القصص قد تكون محاطة بالأساطير والروايات الشعبية، إلا أنها تظل شاهداً على الدور الذي كان يلعبه التنجيم في الحياة السياسية. فيما يلي بعض من أبرز القرارات السياسية التي تم اتخاذها بناء على الاستشارات التنجيمية:


استشار يوليوس قيصر المنجمين قبل اتخاذ بعض القرارات

الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر:
يقال إن يوليوس قيصر نفسه استشار المنجمين قبل اتخاذ قرارات حاسمة، وخصوصاً تلك المتعلقة بالحملات العسكرية والتوسع الإمبراطوري، فالرومان كانوا يؤمنون بشدة بأهمية الأومين (العلامات) التي تقرأ في ظواهر طبيعية وفلكية.

الإمبراطورية البيزنطية والملك هنري الثاني:
في الإمبراطورية البيزنطية، كان الإمبراطور ليو السادس (866–912 م) معروفا بتأثره بالتنجيم، حيث استخدمه في تحديد مواعيد المعارك, كذلك، في إنجلترا، يقال إن الملك هنري الثاني استشار المنجمين لتحديد أفضل وقت لتتويجه في العام 1154.

إليزابيث الأولى وجون دي:
الملكة إليزابيث الأولى من إنجلترا كانت لديها مستشار تنجيمي شهير هو جون دي. دي لعب دورا مهما في تحديد التواريخ الأكثر ملاءمة لأحداث معينة، بما في ذلك التتويج. كما يعتقد أن توصياته كانت لها تأثير على قرارات إليزابيث السياسية والعسكرية.


الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان والسيدة الأولى نانسي ريغان في 20 كانون الثاني (يناير) 1981

رونالد ونانسي ريغان:
في التاريخ الحديث، كانت نانسي ريغان، زوجة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، معروفة بتشاورها مع المنجمين بعد محاولة اغتيال زوجها في عام 1981. تقول الروايات إنها استخدمت التنجيم للمساعدة في تحديد مواعيد الأحداث الهامة والسفر، بهدف حماية الرئيس.

هذا، ويذكر أنه كان هناك العديد من القادة والملوك الذين استعانوا بالتنجيم لاتخاذ قراراتهم، منهم الإمبراطور الروماني تيبيريوس والإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت.. وإلى وقتنا هذا، وبالرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي، ظلت العلاقة بين السلطة والتنجيم موضوعاً مثيراً للجدل والفضول على حد سواء...، من بابل القديمة إلى البيت الأبيض، ومن الكهان البابليين إلى مستشاري الظل في عصرنا الحديث، ظل التنجيم شاهداً على البحث الأبدي عن اليقين في عالم مليء بالغموض.

بالرغم من الجدل المستمر حول مصداقية التنجيم ومكانته بين العلوم والفنون، يبقى الفضول الإنساني تجاه ما هو مجهول وغامض، ورغبته في التنبؤ بالمستقبل والتحكم فيه، دافعاً قوياً يغذي هذا العالم الساحر.

إنَّ التنجيم، بتاريخه الغني وتأثيره المتعدد الأوجه، يقدم نافذة فريدة إلى كيفية فهم الإنسان لنفسه وللعالم من حوله عبر الزمن؛ فهو يعكس البحث الإنساني الأبدي عن النظام والمعنى في الكون، مما يجعله لصيقا بثراثنا الثقافي والروحي.

في نهاية المطاف، يظهر تاريخ التنجيم كيف أن الإنسان، عبر العصور، لم يتوقف عن التساؤل عن مكانه في هذا الكون، وكيف أن النجوم، ببعدها الشاسع وغموضها الأبدي، قدمت له لغزاً دائم الإغراء لمحاولة فهم الحياة وتقلباتها. ومهما تقدمنا في مسيرتنا الحضارية، يبدو أن النظر إلى السماء بحثاً عن إجابات، سيبقى جزءاً لا يتجزأ من الروح الإنسانية، تلك الروح التي لا تكل ولا تمل من البحث عن الأسرار وراء الأفق.